إن موضوع القلب في النصوص القرآنية ونصوص السنة المطهرة هو قلب الموضوعات ، لأنه محل التصديق والإيمان ، ولا وجود لشيء من التصورات في تلك النصوص ما لم تستند إلى التصديق والإيمان أولاً ..
لهذا كانت معرفة ( القلب ) الذي هو محل التصديق من الأمور الجليلة التي تيسر فهوماً كثيرة عن الإنسان وما يتفرع عنه من سلوك ، وما ينشأ منه في شؤون العبادة والمعاملة.
والقلب لفظ مشترك يطلق على معنيين :
1- العضو اللحمي الصنوبري الذي يرسل الدم إلى الجسد , ويتعلق به مقصود أطباء الجسد ، ودارسي العلوم الحيوية .
2- واللطيفة الإنسانية الروحانية العالمة المدركة التي هي المخاطبة بالتكليف وهي المطالبة والمعاتبة ، وقد اختص الله تعالى بها الإنسان .
وبين العضو اللحمي الصنوبري واللطيفة الإنسانية الروحانية علاقة هي أشبه بعلاقة المتمكن بالمكان .
قال الله تعالى : ( وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (46)الحج
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( آنية ربكم قلوب عباده الصالحين )[1]
ثم إن الجمع الحاصل في الإنسان بين اللطيفة الروحانية والعضو اللحمي هو أشبه بالجمع بين الزجاج ومعدن الفضة الذين تتكون منهما المرآة .
وكما أن الصور المحسوسة تتطبع في المرآة المحسوسة فكذلك تتطبع حقائق المعلومات في مرآة القلب المتكونة من اللطيفة والعضو اللحمي .
و كما تنطبع الصورة في المرآة الحسية يتكون العلم في مرآة القلب .
وقد بين الامام الغزالي رحمه الله وجوه تعذر انطباع الصورة في المرآة الحسية ، واتنقل منها إلى وجوه تعذر حصول العلم في مرآة القلب .
فالصور الحسية لا تنطبع في المرآة في الحالات الآتية :
1 – إذا كان النقص في مكونات المرآة كالنقص في الزجاج أو الفضة قبل تمام صناعتها.
2 – إذا تمت الصناعة وحصل فوقها الكدر أو الصدأ .
3 – إذا كانت المرآة سليمة لكنها منصرفة عن جهة الصورة .
4 – إذا وجد حجاب بين المرآة وبين الصورة .
5 – إذا جهلت جهة الصورة فما أمكن توجيه المرآة إليها .
وهكذا فإن تعذر حصول العلم بحقائق المعلومات في مرآة القلب يكون بسبب الأمور الآتية :
1- النقصان في مكونات المرآة كقلب الصبي ( الطفل قبل نموه ) , فهو أشبه بالمرآة الحسية التي لم يتشكل صفاء معدنها ولم يتحقق بعد صقل زجاجها .
2- الصدأ والكدورة بعد تمام التشكل :
وسببه الأعمال الخبيثة الفاسدة فإنها كالصدأ على المرآة
قال تعالى : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُم اللَّهُ ) (282)البقرة
وقال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [2].
ومما ينسب إلى الشافعي :
( شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي )
3- صرف المرآة عن جهة الحقيقة المطلوبة :
فلا تنطبع صورتها في المرآة ، ويكون ذلك حين ينصرف الإنسان عن طلب العلم إلى غيره .
4- الحجاب بين المرآة والحقيقة المطلوبة :
كوجود حجاب التقليد أو حجاب التعصب السابق لفكرة وهوى نفس ، فإنه يحجب مرآة القلب عن الحقيقة المطلوبة .
( وعين الرضا عن كل عيب كليلة )
5- الجهل بجهة الحقيقة المطلوبة :
كالذي يجهل جهة تحصيل العلم فلا يصل إلى ذلك العلم .
ومن استقرا لفظة القلب في الكتاب المنير يكوِّن تصوراً عن تلك اللطيفة ..
وبجمع النصوص والمقارنة بينها أصل إلى التصورات الآتية :
الأوصاف الكبرى للقلب :
1 – الاستقرار أو الاضطراب .
2 – النقاء أو التلوث .
3 – التصديق أو الانكار .
( وهي تمثل مفهوم السلامة أو المرض )
أولاً - يوصف القلب بالاستقرار ويوصف بالاضطراب :
فمن الاستقرار :
1 – الطمأنينة :
قال تعالى :قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (260)البقرة
وقال تعالى :وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ(126) آل عمران
وقال تعالى :الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ(28) الرعد
وقال تعالى :إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ(106)النحل
2– الخشوع :
قال تعالى :أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِن الْحَقِّ(16)الحديد
3– الإخبات :
قال تعالى :وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ(54)الحج
4– التفزيع عن القلب (كشف الفزع عنه و الخوف) :
قال تعالى :حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ(23)سبأ
5– الربط على القلب ( وهو تثبيته ) :
قال تعالى : وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)الأنفال
وقوله تعالى : وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (14)الكهف
وقال تعالى :وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(10)القصص
ومن الاضطراب :
1– التقلب :
قال تعالى :يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ(37)النور
2– الوجف ( ومعناه اللغوي : الاضطراب ) :
قال تعالى : قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ(8)النازعات
3– الرعب :
قال تعالى :سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ(151)آل عمران
وقال تعالى : سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ(12)الأنفال
4 – الوجل ( وهو اضطراب ناتج عن التعظيم ، وهو ممتدح وعارض فلا يدوم ) :
قال تعالى :إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ(2)الأنفال
وهو كقوله تعالى :
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (23)الزمر
ومن الحديث النبوي نذكر قوله صلى الله عليه وسلم :
( مثل القلب مثل العصفور يتقلب كل ساعة )[3]
وقوله صلى الله عليه وسلم :
( إن هذا القلب كريشة بفلاة يقيمها الريح ظهراً لبطن )[4]
ثانياً- يوصف القلب بالنقاء ويوصف بالتلوث :
فمن النقاء :
طهارته :
قال تعالى :وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ (53)الأحزاب
ومن النقاء :
تقواه :
قال تعالى :ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ(32)الحج
وقال تعالى :إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى (3)الحجرات
ومن النقاء :
ابيضاضه :
وصف النبي صلى الله عليه وسلم لقلب المؤمن الثابت على الحق أنه يصير:
(أَبْيَضَ مِثْل الصَّفَا لَا يَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ )[5]
ودعا صلى الله عليه وسلم فقال :
( اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا طَهَّرْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ )[6]
ومن التلوث :
إثمه :
قال تعالى :وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ(283)البقرة
ومن التلوث :
اسوداده :
فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم القلب المفتتن مثل :
( أَسْوَدَ مُرْبَدٍّ كَالْكُوزِ مُخْجِيًا .... لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)[7]
والرُّبْدة لون من السواد والغبرة ، ومُرْبَدُّ الوجه مسوده .
والخجاةُ : القَذَر .
وأصل الاسوداد : من الذنوب :
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ " كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " )[8]
ومن التلوث :
المتفرع عن اسوداده : الرين ثم الختم والطبع والغمرة والاكتنان والقسوة والقفل :
قال تعالى :
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(14)المطففين وهو كدر يغطي مرآة القلب .
فإذا تراكم الرين كان الختم :
قال تعالى : خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (7)البقرة
وقال تعالى :أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(23)الجاثية
وبعد الختم الطبع :
قال تعالى : وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(100)الأعراف
وقال تعالى :وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ(101)الأعراف
وقال تعالى : وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ(87)التوبة
وقال تعالى : وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(93)التوبة
وقال تعالى : كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ(74)يونس
وقال تعالى : كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ(35)غافر
ويصير القلب إذ ذاك في غمرة ( وهي الغطاء ) :
قال تعالى :بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ (63)المؤمنون
ويكون القلب في الاكتنان ( أي في الاستتار وراء الغطاء ) :
قال تعالى : وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً (25)الأنعام
وأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قلب المؤمن أنه ( قلبٌ أجردُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يُزْهِرُ .. سِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ ) ، وحين وصف قلب الكافر أخبر أنه ( قَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ ) [9]
ويوصف إذ ذاك بالقسوة :
قال تعالى :ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (74)البقرة
وقال تعالى :وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(43)الأنعام
وقال تعالى :فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ (16)الحديد
وقال تعالى : وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ (13)المائدة
وقال تعالى : فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(22)الزمر
وآخر ظلمانيته الإقفال :
قال تعالى :أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)محمد
ونتائج طبعه وإقفاله انحصار الفهم في المحسوسات وانعدام الفهم عن الله تعالى :
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ(3)المنافقون
وفيهم قال تعالى :
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)الروم
فانحصرت فهومهم في مجال المحسوس ، قال تعالى :
وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(93)التوبة وليس المعنى انعدامَ العلم أصلاً إنما انعدام العلم النافع المعتبر ، الذي هو العلم بمكانة الإنسان من الكون والعلم بمن صنع الإنسان وصنع الكون ، ومثله قوله تعالى :
وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(100)الأعراف أي لا يسمعون بقلوبهم ما ينفعهم .
( مراحل التراكم على القلب متحركة )
ثالثاً- يوصف القلب بالتصديق ويوصف بالانكار :
لفهم الصلة بين النقاء والتصديق وبين التلوث والانكار لا بد من مقدمة موضحة :
فإن جهة القلب الكثيفة تتلقى العلم بالمحسوسات من خلال الحواس الخمسة .
أما جهة القلب اللطيفة فإنها تتلقى العلم بالحقائق اللطيفة بانطباعها عند صفاء القلب من الرين وهو معنى قوله تعالى: ( واتقوا الله ويعلمكم الله )
فالقلب الذي صفت مرآته وسلم من الرين الناتج عن دنس الأعمال الخبيثة سوف تنطبع في مرآته حقائق المعلومات ، فيسهل عليه إدراكها والتصديق بها ، أما القلب الذي حجبت مرآته بالرين والغطاء فإنه لن تنطبع فيه حقائق المعلومات ، وسوف يعيش حالة الريب والانكار والتعلق بالمحسوس دون غيره لأنه المنفذ الأوحد للتعقل بعدما انسدت المرآة التي تنطبع فيها الحقائق الغيبية التي هي من غير عالم المحسوسات .
والرابط بين المحسوس واللطيف هو التعقل .
والتعقل في القلب دل عليه قوله تعالى :
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا (46)الحج
وحصول التصديق والإيمان بعد التعقل دل عليه قوله تعالى :
أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ (22)المجادلة
وهي حقيقة هداية القلب :
قال تعالى :
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ (11)التغابن
وهي إنابة القلب ( لأن الإنابة : الإقبال وهي ضد الإعراض )
قال تعالى :
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ(33)ق
- إنكاره :
وإذا لم تكن الحقيقة المعلومة واضحة في قلبه فسيكون متردداً في ريبه :
قال تعالى :
وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ(45)التوبة
والتردد نتيجته الحيرة والضياع عن جهة الحقيقة والميل إلى غيرها وهو زيغ القلب :
فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5)الصف
ولما جهل ذلك القلب الضائع الحقائق الغيبية نفر منها لأنها ليست من جنس محسوسه المألوف ، وهي الحالة الموصوفة باشمئزاز القلب ( لأن الاشمئزاز هو من النفور ):
قال تعالى :
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(45)الزمر
وعند النفور والاشمئزاز يولي القلب وينصرف معرضاً :
قال تعالى :
ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ(127)التوبة
ويأبى القلب التصديق بعدها وهي حالة إباء القلب :
وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ(8)التوبة
ولا يكون أمام القلب ما يتعلق به إلا المحسوس فيشتد تعلقه به دون أن يكون فيه أي من التعلق بالغيب :
قال تعالى :
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ (93)البقرة
مما تقدم يظهر التباين بين الوصفين الرئيسين السلامة في القلب والمرض فيه ، فالسلامة تعني وجود وظائفه التي خلق من أجلها ، والمرض يعني فقدان الوظائف التي خلق من أجلها ، والتي أجلها والتي من أعظمها العلم والإيمان
وقد قال تعالى مخبراً عن اتصاف القلب بالمرض :
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا (10)البقرة
وقال تعالى :
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(125)التوبة
وتظهر من المرض لوازمه كالغل والحقد وغيره من الأوصاف الذميمة .
أما سلامة القلب فقال تعالى مبيناً حقيقتها :
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ(87)يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88)إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)الشعراء
وإذا تحققت تلك السلامة يكون مستعداً لتنزلات أنوار الغيب :
ومنها السكينة ، قال تعالى :
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ (4)الفتح
ومنها القرآن الذي نزل على القلب الأطهر صلوات الله وسلامه عليه ، قال تعالى :
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ(194)الشعراء
بقي أن نعلم أن مركز القلب هو الفؤاد ( وأنه مشتق من الفائدة )
وأن ذلك الفؤاد هو محل المحبة في القلب ، قال تعالى :
رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (37)ابراهيم
وأنه محل الرؤية الباطنة ، قال تعالى :
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)النجم
اللهم بيض وجوهنا وطهر من الأدناس قلوبنا واجعلنا في زمرة عبادك المقبولين
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
|