مولانا جلال الدين نموذج إسلامي إنساني عالمي في القرن السابع الهجري، جمع بين الثقافات العديدة في قلبه المنير ، فكانت العربية روح بيانه ، وكانت الفارسية مورد تصاويره ، وكانت سماوات الروح منطلقه وفلكه ، ومنها هبط إلى الأرض معلماً وموجهاً وأديباً وشاعراً ..
من المؤكد أنه تأثر بالعربية ، ومن المؤكد أيضاً أنه أثر في العالم بأسره ..
1 – تأثر جلال الدين باللغة العربية من خلال القرآن والسنة وشعر العرب وآدابهم :
كان لسمات الأسرة التي نشأ فيها دور في ترسيخ تكوينه العربي والإسلامي، فكان والده ( بهاء الدين ولد ) عالماً وواعظاً و كان يلقب سلطان العلماء 1 .
تعلق جلال الدين في طفولته بالقرآن الكريم وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وحين نضجت معرفته فهم القرآن العربي من القرآن نفسه فقال :
( التمس معنى القرآن من القرآن وحده ) 2.
وكان ذلك دالاّ على عمقه العربي المعرفي ..
اقتبس في بيانه من معاني القرآن الكريم :
واسمع إليه يقول :
( طرنا مع آية الكرسي نحو العرش فرأينا الحي ، وبلغنا القيوم ) .
( لِمَ يبكي الإنسان على يوسف النفس في البئر؟) 4 .
( فاجذب مثال ( إنا أعطيناك ) إلى السائل المحروم ..
عندما تتلو الشفة ( الحمد ) أعطها نُقلاً وخمرة من دون حد ..
وعندما تتلو ( ولا الضالين ) اجذبها إلى الدلائل ..
أسير الألم والحسرة أعطه رسالة ( لا تأسوا ) .
و كان يقتبس في شعره من الحديث النبوي أيضاً كقوله :
( اعلم أن ( المؤمن كالجمـل ) , ثمِلٌ دائماً بالحق الذي يقوده كسائق الجمل)6 .
والحديث الذي اقتبس منه هو قوله صلى الله عليه وسلم : الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ ( أي الذلول ) حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ 7 .
وأعانَ في تكوينه وبنائه اللغوي والعلمي سفره في طفولته مع أسرته من الشرق إلى الأناضول مروراً ببلاد الشام ، وخروجه في رحلة الحج بصحبة أبيه ، ولقاؤه بعلماء البلاد المتعددة في الطريق .
قرأ في شبابه كتاب الأغاني ، وظهر بعضٌ من هذا الأدب المجموع في بيانه وشعره فيما بعد..
وأعجب كثيراً بالمتنبي ( ت 354 هـ ) ، واقتبس من شعره نصوصاً كثيرة، وتأثر بمقامات الحريري 9 وذكرها في شعره .
يقول في ديوانه بالفارسية :
كلما رأيت فضلك ومقاماتك وكراماتك ..
أكون عاجزاً ، أُغذّى بفضل الحريري ومقاماته . 10
وقرأ بالعربية ( قوت القلوب ) لأبي طالب المكي ، و( الرسالة القشيرية ) في التصوف ، و( إحياء علوم الدين ) للغزالي 11 .
ومع أن أكثر كتبه ودواوينه كانت بالفارسية لكنه كان يضمنها نصوصاً باللغة العربية ، وينظم بين شعره الفارسي شعراً عربياً في تآلف لم ير المتأملون مثله ..
وفي ديوانه الجميل ( المثنوي ) أحصيتُ قريباً من مائة وأربعين بيتاً من الشعر العربي أذكر منها أمثلة كانت تتخلل شعره الفارسي :
تعرج الروح إليه والملك
من عروج الروح يهتز الفلك 12جج
فرقتي لو لم تكن في ذا السكون
لم يقل إنا إليه راجعون 13
عجْ إلى القلب وسِرْ يا ساريهج
فيه أشجار وعين جارية 14
غن لي يا منيتي لحن النشورابلعي يا أرض دمعي قد كفىعُدتَ يا عيدي إلينا مرحبا
ابركي يا ناقتي تم السروراشربي يا نفس وِرداً قد صفانِعم ما روّحتِ يا ريح الصبا15
ذِلّة الأرواح من أشباحها أيها السالون قوموا واعشقوا
عزة الأشباح من أرواحها ذاك ريحٌ يوسفٌ فاستنشقوا16
كيف يأتي النظم لي والقافيةْما جنون واحد لي في الشجونْ
بعدما ضاعت أصول العافيةْبل جنون في جنون في جنونْ17
كل ذلك يُظهره دارساً من دارسي المادة الكاملة لأدب العرب ومباحثهم العلمية ، ومتأثراً ومتفاعلاً بفكره الإنساني مع المِساحة العربية ومكوناتها ،
وقد اشتركت الثقافتان الفارسية والعربية في تكوين بنائه ، فكان متأثراً بالشاعر الكبير سنائي ، والشاعر فريد الدين العطار الذي اجتمع به وأهداه من كتبه حين كان طفلاً ، وقرأ الكتاب الشهير كليلة ودمنة ، ولعله قرأه بلغتيه فأغنى خياله وأعان تصويره ..
2 – تأثير جلال الدين العالمي في الشرق والغرب ، وبلوغُ بيانه أعماق النفس الإنسانية في مختلف الشعوب والبقاع :
استطاع أدب مولانا الرومي اجتياح النفوس والقلوب في الشرق والغرب اجتياحاً لا يحتاج معه إلى استئذان ويكفينا دلالة على أثره في المشرق أن الفيلسوف المسلم إقبال الذي ملك قلوب المشرقِ من غير منازع قد ملكه مولانا الرومي ملكاً تاماً حتى قال :
صير الرومي طيني جوهراً من غباري شاد كوناً آخرا
وعقد إقبال في ديوانه ( أسرار الذات ) لقاء بين الفيلسوف الألماني (غوته) ومولانا الرومي مبيناً أن المشترك بينهما البحث عن الحق 18 .
وفي تركيا كان النورسي رحمه الله ينظر إلى مولانا الرومي على أنه أصدق مؤلف وأعلم حكيم 19 .
ومما يدل على علو مكانة مولانا في العالم وأثره فيه تخصيص تركيا جائزةً دولية باسم (جائزة مولانا جلال الدين الرومي الدولية لخدمة الإسلام ) ، وكان أحدَ الحائزين عليها المفكرُ الإسلامي علي عزت بيجوفتش رئيسُ البوسنة الأسبق 20 .
أما في أمريكا المهيمنة على العالم بماديتها فقد هيمن عليها بإنسانيته مولانا الرومي ، فكانَ الشاعرَ الأكثر رواجاً وانتشاراً فيها من غير منازع .
} وقد بيع من كتاب ( الرومي الأساسي ) ، الصادر عن دار نشر هاربر سان فرانسيسكو عام 1995 مثلاً أكثر من مائة ألف نسخة ، وجنت من ثمار مبيعاته ربحاً كبيراً ، وتسابقت دور النشر الكبيرة والصغيرة في أمريكا إلى نشر قصائده بتشكيلات وترجمات جديدة إضافة إلى ما لا يحصى من الكتب والمقالات التي تتحدث عنه .
ويقول فوتينوس : " من الواضح أن هناك كتباً أكثر بكثير مما كان متوفراً قبل بضع سنوات ، وهناك منافسة أكبر بكثير، ومع هذا فهناك أيضاً شهية للرومي تفوق كل ما سبق بكثير " .
و في طريقها إلى السوق كان مزيد من ( الروميات) يتدفق لإشباع النهم المذهل لأعماله ، و يتم توقيت صدورها عادة في موسم الأعياد وتبادل الهدايا للاستفادة الأكبر من أرباحها التجارية .
أصدرت " دار ( وان وورلد ) ( مقتطفات من الرومي ) بترجمة نيكلسون
ونشرت دار ( تارشر ) كتاب ( طريق الهيام ) لآندرو هارفي ، ونشرت دار ( كروسرود ) كتاب ( الرومي: سيرة حياة روحانية) لتمام البرازي ، ونشرت دار ( فونس فيتاي ) كتاب ( الرومي : الكنز الدفين) لفريدلاندر ، وسوف تُعيد دار ( شامبهال ) ، نشر كتاب العالمة الألمانية أنا ماري شيمل ( أنا ريح، أنت نار ) ، تحت عنوان: ( عالم الرومي: حياة الشاعر الصوفي العظيم وأعماله ) .
وكان من أشهر مترجمي كتب مولانا الرومي إلى الانكليزية الشاعر كولمان باركس { اهـ 21 .
وهذا نزر يسير مما هو في الغرب من التأثر بشعر مولانا الرومي وأدبه وأذواقه .
3 – الدعوة إلى الإفادة من نموذجه المتميز في أدبياتنا العربية وصولاً إلى لغة عربية إنسانية عالمية :
لم يكن الرومي رحمه الله نموذجاً ممتنعاً عن التكرار ، لكنه كان نتيجة صحيحة لمقدمات صحيحة .
حين كان مجرد عالِمٍ لم يحرك عِلمُه العالَم ، ولما أضيفت إلى علمه تجربة الروح صار الإنسانَ الذي حرك كل إنسان ..
اجتمع بشمسِ تبريز – الذي كان نارَ عشقه - فأنشده الشمس من ديوان سنائي :
( إذا لم يحرر العلم النفسَ من النفس
فإن الجهل خير من علم كهذا ) .22
ففطن إلى الينبوع بعد وقوفه مع الكؤوس ..
كان الشعراء ينظمون لأغراضٍ فنية تظهر فيها ضروب المهارة وتتكامل بها مقومات االبيان .
لكن مولانا الرومي أعرض عن الشعر والأدب ودخل سماوات الروح فتفجرت عن تجربته الروحية ينابيع الأدب .
وقال :
والله ، إنني لا أميل إلى الشعر .. صار مفروضاً علي23 ....
....
كل شعرة مني صارت بفضل حبك بيتاً وغزَلاً ،
كل عضو مني صار بفضل نكهتك عسلا24
....
... إذا لم أنشد الغزَل ، فإنه يشق فمي ...25
..... معشوقي يقول : لا تفكر إلا بوجهي !26
وبين اللفظ والمعنى والتجربة والتعبير كان مولانا الرومي يرى أن الألفاظ ليست سوى غبار على مرآة ( التجربة ) ..
.. وأما المعنى .. فلا يمكن العثور عليه إلا عندما يفقد المرء نفسه في حضرة المعشوق حيث لا يبقى غبار ولا صور 27
وهكذا رأى مولانا الرومي أن ( المعنى العربيَّ هو الأصل )28 ، حتى وإن تعددت الألفاظ واللغات ..
إنه امتلك الروح الإنسانية في لغة القرآن، فأثر في العالم كله بتلك الروح ، وكانت اللغات طائعة بين يديه لتلك الروح ..
ونخلص إلى القول : إن مولانا الرومي جمع بين التكوين العلمي اللغوي أولاً ، والتجربة الروحية الإنسانية ثانياً ، فكان من ذلك الاجتماع رصين الأفكار ، قوي البيان ، فياض الخيال ، عميق الشعور ، بارع التصوير ، ثريَّ الشخوص الأدبية ، شائق العرض ، فاستطاع أن يكون صاحب اللغة الإنسانية العالمية ..
إنه نموذج يجدر بنا الاهتداء به ، وتنشئة أدبائنا الشباب على مقدماته التي أنتجت تلك النتائج العظيمة ..
وبمثله تتحدى عالميتنا الإنسانية عولمتهم المادية ..
والله تعالى ولي التوفيق .
|