تتكشفُ فوقَ العالمِ سحبُ الظلمِ والظلمات , وتفترسُ الحيرةُ أفئدة الأنام , ولا يحتاج الناسُ إلى شيء كحاجتهم إلى شمسٍ يستطيع شعاعُها اختراق السحب إلى قلوب طال فيها دجى الليل .
ويرتفع صوتٌ ينادي : أيروق لكم حديث الحبِّ في وقت حملتْ إليكم فيه الكرهَ جحافلُ الطامعين ؟
ويُجيبُ الكتابُ المنير قائلاً :
( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ )(1)
ويطلُّ علينا من أولئك القومِ وجهُ القمرِ المنير مولانا جلالِ الدين ..
البدرِ الذي استغرق قلبه في شمس الحقيقة حتى صار شمساً فأنار للخلق ربوعهم في كل حين .
وإنني إذ أخطُّ بقلمي كلماتٍ على أذيال تلك الشمس , أعترف بالعجز والقصور عن إدراك سناها العظيم , لكنها خيوط تستمد منها لتنسج على رفرف عبقريّها الحسان .
يتناول البحث الموضوعات الآتية :
1 - مولانا جلالُ الدين : سالكاً مبتدئاً .
2 - مولانا جلالُ الدين : قلباً مؤمناً مصدقاً بحقائق الوحي .
3 - مولانا جلالُ الدين : روحاً عاشقاً .
4 - مولانا جلالُ الدين :عارفاً صوفياً ذائقاً .
5 - مولانا جلالُ الدين : شيخاً مربياً .
1 - مولانا جلالُ الدين : سالكاً مبتدئاً .
لم يكن غريباً أن يسلك مولانا الرومي ذلك المسلك وطفولته وشبابه وأسرته لا تخرج عن ذلك المضمون العلمي والعملي والذوقي ، فقد كان – كما قالوا – ( مصباحاً مطهراً منظفاً سكب فيه الزيت ووضع له الفتيل وابتغاء إشعال هذا المصباح لا بد من النار ) (2)
فوالده (3) واعظ صوفيٌ عالم
وطفولته شهد تاريخها أعلام الذوق والمعرفة كالعطار(4)، وابن عربي الذي صرخ – كما يروى – حين رآه في طفولته ماشياً خلف والده : (سبحان الله محيط يمشي خلف بحيرة )(5).
وأغنى سلوكه سفره المتواصل بصحبة أسرته من الشرق إلى الأناضول مروراً بمكة ودمشق وحلب(6).
ودفعته سريعاً إلى الصدارة وفاة والده وهو في ريعان الشباب(7).
وقربه من روحانيته أكثر فأكثر قدوم ( برهان الدين ) أحدِ تلامذة والده من الشرق ، فصحبه وتأثر به(8).
لكن الحدث الأكبر الشهير الذي أدخله في السلوك الصوفي حقيقة كان لقاؤه بشمس تبريز(9)، وأنشده الشمس من ديوان سنائي :
( إذا لم يحرر العلم النفسَ من النفس
فإن الجهل خير من علم كهذا )(10).
فأشعل في قلبه جذوة الشوق إلى المعرفةِ ، ودخل مع شمسه خلوة أنضجته(11).
قال مولانا الرومي :
( دون العون المنقذ لسيدي شمس الحق التبريزي
لن يكون في وسع أحد أن يتأمل القمر أو يغدوَ البحر )(12).
ومع أن صحبته للشمس كانت قصيرة ؛ لكنها أغنت روحه بأشواق وأحراق، فلما غاب الشمس غيبته الأولى ألهب بغيبته قلبه ، ولما غاب غيبته الثانية(13) نظر في باطنه فوجده فيه(14)..
وبعدها سلك سلوكاً خاصاً بارتكاب المشاق ملتذاً بها أيما التذاذ ، فكان في الشتاء القارس يصعد إلى السطح ويقضي الليل كله في الصلاة والنحيب, حتى تتورم قدماه(15)، وكان يصوم إلى درجة الهزال والنحول(16).
تلك هي عناوين سلوكه في مبتدئه الروحي .
2 - مولانا جلالُ الدين : قلباً مؤمناً مصدقاً بحقائق الوحي .
وها هنا نجد قلباً آمن وصدق حتى صار صدِّيقا ، وبدلاً من الخوض في متاهات التخيل العقلي جلا مرآة قلبه فانطبعت فيها من غير كلفة حقائق الغيب .
وقال لأصحابه :
( جاء صديقٌ ليوسف من السفر فسأله يوسف : ماذا أحضرت لي من الهدايا ؟ فقال الصديق : وأي شيء ليس عندك ، وأنت محتاج إليه ؟ ولكن لأنه لا يوجد من هو أجمل منك أتيت لك بمرآة لكي ترى فيها وجهك كل لحظة .
فأي شيء ليس عند الحق تعالى , وهو محتاج إليه ؟
ينبغي أن يقدم الإنسان للحق تعالى قلباً صافياً مضيئاً ليرى ذاته فيه
( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ) اهـ(17).
فإذا جليت مرآة القلب فلن ترى فيها غير المحبوب ، والقرآن هو وصف المحبوب لأن الكلام صفة المتكلم ، لهذا لم يكن مولانا الرومي يبحث عن المحبوب إلا في المحبوب ، وقال :
( التمس معنى القرآن من القرآن وحده )(18).
وكأنه يتمثل في ذلك قول سنائي :
كل شيء لا تحصل عليه حتى تبحث عنه إلا هذا الحبيب لن تبحث عنه حتى تحصل عليه(19).
ورسخ الشمسُ التبريزي لديه الاستمدادَ من ينبوع الوحي ، لأن كل الكلمات و روائعِ الأدب الصوفي لم تكن عند شمس ترقى إلى رتبة حديث نبوي صحيح واحد(20).
دافع مولانا بقوة عن كل حقائق القرآن ، وصرخ في أسماع العالم مبيناً له أنها ليست من وضع النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :
( رُغم أن القرآن من شفتي النبي فإن كل من يقول إن الحق لم يقله كافر)(21).
وكذا بقوله :
كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يخبر عن أناس وأنبياء مضوا قبل وجوده بعدة آلاف من السنين وماذا سيكون حتى آخر الدنيا وعن العرش والكرسي ........................ كيف يخبر الحادث عن القديم وهكذا غدا معلوماً أنه ليس الذي هو كان يقول بل الحق هو الذي يقول :
( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى , إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)(22).
وتفاعل مع كلمات القرآن تفاعلاً كبيراً ، فكان تارة يكررها بألفاظها :
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(23) ، ثم يعلق بقوله :
( ولأن الله قال : ( زُين ) فإنها ليست جميلة حقاً بل إن الجمال فيها مستعار, وآت من مكان آخر . عملة زائفة مطلية بالذهب )(24).
ومن أكثر الآيات وروداً في كتبه ودواوينه : آية النور في سورة النور (مثل نوره ) ، وآية المعرفة في سورة الأعراف ( ألست بربكم ) .
وكان تارة أخرى يقتبس من معاني القرآن أو يعبر عن آياتٍ بنفس معانيها ، لكنْ بألفاظٍ أخرى .
ومن ذلك قوله :
( طرنا مع آية الكرسي نحو العرش فرأينا الحي ، وبلغنا القيوم )(25).
( لِمَ يبكي الإنسان على يوسف النفس في البئر؟)(26).
( فاجذب مثال ( إنا أعطيناك ) إلى السائل المحروم ..
عندما تتلو الشفة ( الحمد ) أعطها نقلاً وخمرة من دون حد ..
وعندما تتلو ( ولا الضالين ) اجذبها إلى الدلائل ..
أسير الألم والحسرة أعطه رسالة ( لا تأسوا )(27).
( يونس السجين في بطن الحوت نجا )(28).
( أعدّ صومعة مريحة ليونس في الحوت ، وأخرج أخيراً يوسف من غيابة الجب )(29).
( يوسف بعد احتمال محنهِ بصبرٍ نَعِمَ بالسعادة ووصل إلى أعلى وظيفة في مصر )(30).
( إبراهيم الخليل خليل الله هو المسلم الحق الذي لا يحب الآفلين لكن النار صارت برداً وسلاماً عليه )(31).
( فِيَلةُ العدو قُتِلت على نحو معجز بوساطة الطير الأبابيل )(32).
( ومن هنا فإن فكّ الأغلال الخارجية يوم البعث , عندما تُخرج الأرض أثقالها(33) سيكون تحريراً للبشر )(34).
ويذكر النبي يوسف مفسراً للأحلام(35).
ويذكر عادَ وثمودَ(36).
ويذكر أيوب الصابر في بلواه ..
ويحكي كيف أصيب يعقوب بالعمى من الحزن واشتياقاً إلى يوسفَ مثالِ الجمال..
ويشبِّه نفسه بداود الذي يخاطب الطير مرتلاً أغزاله كأنها كتاب المزامير(37).
وترى مولانا الرومي بعد هذا يدافع بقوة عن أحكام فقهية قرآنية ، كدفاعه عن حكم القرآن في القصاص من القاتل بالقتل فيقول :
( قال الله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) ، لا شك بأن القصاص شر وهدم لبنيان الله تعالى ، ولكن هذا شر جزئي ، وصون الخلق عن القتل خير كلي ، وإرادة الشر الجزئي لإرادة الخير الكلي ليست بقبيحة ، وترك إرادة الله الجزئية رضاء بالشر الكلي فهو قبيح )(38).
ويحكم مولانا الرومي بحكم القرآن الكريم على الخنزير أنه نجس ، ويستخدمه للتمثيل بالصفات البشرية المنحطة(39).
ولم يكن مولانا يعبر في بيانه عن حقائق القرآن وحسب ، إنما كان يعبر عن الوحي الثاني في الحديث النبوي الشريف ، إما بإيرادٍ للحديث بلفظه ، أو بإدخال شروح دقيقة تبرز ما خفي فيه من المعاني .
يقول مولانا الرومي :
( قال النبي عليه الصلاة والسلام : اعلم أن ( المؤمن كالجمل ) , ثمِلٌ دائماً بالحق الذي يقوده كسائق الجمل )(40).
ولفظ الحديث : الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ ( أي الذلول ) حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ(41).
فأورد لفظ الحديث ثم دخل إلى حقيقة تستتر خلف ألفاظه بقوله ( ثمِلٌ دائماً بالحق الذي يقوده ) وهو بيان لسر سهولة انقياد المؤمن الذي ورد في مناسبة هذا الحديث .
ومما تقدم يظهر انفعال مولانا الرومي الكبير لحقائق الوحي تصديقاً وإيماناً ومنافحة .
3 - مولانا جلالُ الدين : روحاً عاشقاً .
العشق في روح العاشق الرومي خراب ، ومن يدعو العشق إليه كطائر يدعو جملاً إلى عشه وحين يضع خفه فيه يُخْرِبُه(42)، وعش الطائر العقل .
إنه آكل الناس ، وعلى الإنسان أن يجعل نفسه لقمة أمامه ، وما أتعس من كان لقمة حامضة للعشق ، لأن هضمه سيكون بطيئاً جداً ، أما الولي فهو لقمة حلوة يسهل على العشق هضمها(43).
يحدث هذا العشق عندما تمسك يدُ القلب يدَ الحبيب ؟(44).
وعندها يظن أنه سيصطاد الغزال لكنه يصاد بذلك الغزال(45).
وعندها يندفع سكره وخُماره بالمحسوسات لأن الحبيب الساقي أدار عينه النرجسية المسكرة(46).
وعندها ومع طلوع الشمس تمحى كل الأقوال(47).
ويصير رداء العقل – العالمِ النحريرِ – وعمامته رهناً عند كأس العشق(48) ..
ويغدو ذلك العقل حيرانَ جاهلاً مذهبَ العشق ، مع أنه مطلع على جملة المذاهب(49).
وعندها يصير القالب الجسماني أيضاً راوية يروي عن العقل الذاهل والروح العاشق(50).
فترى في ذلك القالب الجسماني وجهاً شاحباً وشفة جفت(51)...
ويظهر فيه المرض السماوي العجيب الذي لا يعرفه جالينوس
المرض الذي لا فائدة للدواء والعلاج في بلائه
وينوح حتى تنوح السماء لنواحه(52).
ويأرق حين ينام غيره ممن لا يعرفون للعشق إليهم سبيلاً(53).
ويظهر ذلك العاشق بين مائة شخص وضاءاً
كالقمر اللألاء في السماء بين الكواكب(54).
وبعدها يتعلم آلاف الآداب الروحية التي لم يكن له أن يتعلمها من المكاتب(55).
ويقدم الروح قرباناً لروح روح الروح الذي جاء(56).
ويحني عنقه لمعشوقه قائلاً : ( قد سببت لك صداعاً , فاقطع عنقي عمداً)(57).
ويرى المجانسة بين استعداده واستعداد المنصورين الذين لا يعرفهم أحد ، الذين تركوا القول على المنابر واعتلوا المشانق(58).
إنهم عرفوا أن الدنيا سجن العاشق ، وأدركوا أن العيش الحق لا يكون إلا بخراب السجن(59).
وليس كل عاشق يتجلى فيه هذا الاستعداد لأن خياط العشق يفصل لكل عاشق قباء على قدر قدّه(60).
وحين يصح العشق يتبدل في الإنسان كل شيء ويتحول الأرمني إلى تركي(61).
وتظهر العبودية لوجه المعشوق فيقسم بحياته : ( إن كل شيء ما خلا رؤية وجهه ، حتى لو كان ملك الأرض ، خيال وخرافة )(62).
يعلم أن الشهرة سدٌّ عظيم في الطريق إلى محبوبه ..
والذي عشقه ودينه خدعة ورياء ، عليه أن ينام ..
لأن طريق العشق خارج عن الاثنتين والسبعين ملة(63).
ثم هو يذكر المعشوق الذي ( أسرى بعبده ليلاً ؟ )(64).
إنه نفس معشوقه ، لأن معشوقه أزلي أبدي ..
وفرع عشقه في الأزل وأصله في الأبد(65).
فإلى متى يعانق الحمقى معشوقاً ميتاً ؟!(66).
هل السّكّر أحلى أم ذلك الذي يصنع السكر ؟
هل القمر أجمل أم ذلك الذي يصنع القمر ؟(67)
معشوقه جُعِلَتِ الدنيا والآخرة نِثاراً على جماله(68).
أما الكلام على العشق فهو غير درسِ أبي حنيفة ورواية الشافعي لأن علم : ( يجوز ) و( لا يجوز ) مستمر حتى حين ، وعلم العاشقين ليس له نهاية(69).
به صارت كل ذرة متحدثة بسبب عشق وجه الحبيب(70).
لذلك حبس الأنفاس واكتفى لأن المعشوق نفسه ، الذي يصنع من الأذن بصراً سيتكلم(71).
4 - مولانا جلالُ الدين : عارفاً صوفياً ذائقاً.
تتجلى معرفة مولانا الرومي بالله وذوقه فيما نقل عنه من البيان و الشعر تجلياً لا خفاء فيه .
فمعارفه لم تكن معارفَ العقل المستدل بالكون على مكونه ، لكنها كانت معارفَ الروح والسر التي تستمد مواردها من الحقيقة المطلقة الأزلية الأبدية ، ثم تنزل بمشاهدها من هناك إلى عوالم التكوين.
وها هو ينطق بذلك قائلاً لإخوانه في مجلس الأنس :
( أصل هذه العلوم جميعاً من هناك , وقد انتقلت من عالم اللاحرف واللاصوت إلى عالم الحرف والصوت , وفي ذلك العالم يكون القول من دون حرفٍ ومن دون صوت ) (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(72) )(73).
ويدعو في قصة جرة الأعرابي إلى طهارة الحواس حتى تتصل بالحقيقة المطلقة ، فيقول :
( إن الجرة ذاتَ المنافذ الخمس ، هي الحواس الخمس ، فاحفظ هذا الماء طاهراً من كل دنس ، حتى يصبح لهذه الجرة منفذ صوب البحر ، وحتى تتخذ جرتنا طبع البحر .... ويصبح ماؤها بلا نهاية من بعد ذلك )(74).
وكأنه يشير إلى معنى الحديث القدسي : كنت سمعه الذي يسمع به ..
و يخبر عن حقيقة هذا الاتصال في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث يكون له فيها مع الله وقت لا يسعه فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب .
حيث يكون في استغراق تام وغيابٍ تبقى فيه تلك الصور جميعاً خارجاًَ , ليس لها مكان هنالك . حتى جبريل , ليس له مكان أيضاً(75).
ويفهم هذه الحال في قوله تعالى :
( الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ )(76)
فالصلاة الدائمة صلاة الروح المشاهد ، وصلاة الصورة مؤقتة وليست بدائمة(77).
وها هو عيسى عليه السلام أيضاً ثملٌ بالحق , أما حماره فهو ثملٌ بالشعير(78).
وكأنه يصنف الناس صنفين ، صنف خلف عيسى في مشاهدة الحق ، وصنف خلف ذلك الحمار الذي لا يشاهد غير الشعير .
ثم يقول مؤكداً تلك الحقيقة :
( عيسى ابن مريم , مضى إلى السماء , وحماره بقي في الأسفل ..
وأنا بقيت في الأرض , وقلبي صار في الأفق الأعلى )(79).
لكنه يبين أنه لا ينبغي البقاء في سماء الحقيقة المطلقة دون النزول إلى معرفة العوالم فيقول :
( وقد عاد محمد من المعراج ..
ووصل عيسى من السماء الرابعة ..
.........
ما أروعه من مجلس حيث يكون الساقي هو الحظ ..
وندماؤه الجنيدَ و با يزيد .
.....كنت أعاني من الخُمار عندما كنت مريداً ..
ولم أدر أن الحقَ نفسَه مريدٌ لنا .
والآن نمت ومددت قدميّ ..
عندما أدركت أن الحظ السعيد قد جذبني )(80).
إنه نزول العارف إلى معرفة العوالم ومعرفة نفسه ، ولا تتم المعرفة إلا بهذا النزول .
وحين نزل قال :
( الحق أن العالم ليس سوى زبد لهذا البحر , وماؤه هو علوم الأولياء )(81).
وقال :
( يفر الناس من التتار ونحن نعبد خالق التتار )(82).
وقال :
( لا تتحدث كثيراً عن نكبة التتار ، تحدث عن نافجة المسك لدى غزال التتار )(83).
وقال للذين لم يعرفوا نفوسهم قبل الصعود ، ولم يكن لهم نزول بعد صعود :
( أنت ذلك الرجل الذي ركب على الحمار وظل يسأل عنه هنا وهناك )(84).
( الحق تعالى جعل لك قيمة عظيمة , إذ يقول : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ )(85), أنت في القيمة أسمى من العالَمَيْنِ كليهما فماذا يمكن أن أفعل إذا كنت لا تعرف قدرك ؟!
لاتبع نفسك رخيصاً , وأنت نفيس جداً في عيني الحق )(86).
وحتى لا يبقى الجاهل حائراً ، بين له ضرورة العارف المرشد له بقوله :
إذا كنت لا تعرف الطريق إلى قصر سليمان فاسأل الهدهد(87).
5 - مولانا جلالُ الدين : شيخاً مربياً.
بعد اختفاء شمس وفقدان مولانا أمله في الاجتماع بشبحه ، نظر في باطنه فوجد الصورة الشمسية الصفاتية قد انطبعت فيه ووجد معارف روحه قد تجمعت لديه ومن تلك الصورة الشمسية الوهاجة أشرق على مريديه مربياً ومرشداً(88).
كان يأمر مريده بالعزلة والصمت ويقول له :
( ابحث عن أمنك في العزلة ) (89)
( لكي لا تقع عين الغير على أفعالك الحسنة لا تعرضها لأعين الناس )(90).
( اصمت والزم فن الصمت )(91) ( دع عنك كل لغو مزوق )(92).
وكان يبين له أن التعلق بالحظوظ هو مقتل الإنسان ، ويقول له :
( المشانق ليست كلها من الخشب فإن المنصب والرفعة والحظوة في شؤون هذه الدنيا هي أيضاً مشنقة عظيمة مرتفعة ، عندما يشاء الحق تعالى أن يعاقب شخصاً يعطيه في هذه الدنيا منصباً رفيعاً ومملكة عظيمة على غرار فرعون ونمرود وأمثالهما ، كل هذه المناصب الرفيعة كالمشنقة يضعهم الحق تعالى فوقها حتى تطلع جملة الخلق عليها )(93).
وكان يوجه مريديه إلى التوبة عن الذنوب مهما كثرت فالاستقامة تمحو ما سبقها من العلل ، ويقول :
( لا تقل : ( إنني أحدثت انحرافات ) , الزم طريق الاستقامة , ولن تبقى بعد ذلك انحرافات )(94).
( الاستقامة مثل عصا موسى , وتلك الاعوجاجات مثل ألاعيب سحرة فرعون : عندما تأتي الاستقامة تبتلع كل تلك الألاعيب )(95).
وكان يسوق قلوب التلاميذ إلى نقاء العقيدة السليمة ، ويقول لهم :
( الحق تعالى منزه عن الأقرباء ( لم يلد ولم يولد ) , لا يجد إنسان طريقاً إليه إلا بالعبودية ( والله الغني وأنتم الفقراء) )(96).
( تكلم الحق تعالى مع موسى عليه السلام ومهما يكن , فإنه لم يتكلم بالحروف والأصوات , ولا بالحَنجرة واللسان , لأن الأحرف لابدّ لها من حَنجرة وشفة لكي تظهر , تعالى الحق وتقدّس , وهو منزه عن الشّفة والفم والحَنجرة )(97).
وكان مع ذلك يبين لهم أن العالم محتاج إلى أحوالهم أكثر من حاجته إلى أقوالهم ، فأوساخ العالم تنتظر ماء الروح غيرَ الآسن ، كان يقول لهم :
( فالماء غير الآسن هو الذي ينظف كل أوساخ العالم وهي لا تؤثر فيه , يظل صافياً ونظيفاً مثلما كان )(98).
أما من كان جافّاً من ذلك الماء الروحي فما عليه إلا أن يصحب وليّاً ينفخ فيه روح الحياة ، كما كان عيسى عليه السلام ينفخ الأرواح في الصور ، وكان يقول :
( إن العلاج للجاف ومن لا مدد لديه هو النفخة الإلهية ، والنخلة اليابسة قدمت الثمرة إلى مريم بأمر الحق ، وظفر الميت بحياة جديدة من النفخة الإلهية )(99).
وكان ينبه إلى أن تلك النفخة لا ينالها إلا من أدركته العناية ، فكم من عاملة ناصبة قَصَرت عن إدراك الفلاح ؛ لأنها حُرمت من تلك العناية ، وكان يقول :
( على أن العنايةَ من جانب الحق شيء والاجتهادَ شيءٌ آخر, ولم يصل الأنبياء إلى مقام النبوة بوساطة الاجتهاد ... ومهما يكن فإن فرعون أيضاً اجتهد اجتهاداً عظيماً في البذل والإحسان وإشاعة الخير ؛ ولكن لأنه لم يكن ثمة عنايةٌ فإن تلك الطاعة وذلك الإحسان لم يكن لها إشراقٌ وأُخفيتْ تلك الأعمال كلها )(100).
ولم يكن توجيهه الإرشادي ينحصر في عامة الناس لكنه كان يوجه العلماء والوزراء والأمراء .
ومن ذلك توجيهه للوزير برﭭانه (101) ، وربما وبخه بكلمة أو رسالة(102).
يقول مولانا الرومي :
( قلت للأمير برﭭانه : إنك في أول الأمر برزت بطلاً للإسلام . إذ قلت : سأقدم نفسي فداءً , سأضحي بعقلي وتدبيري ورأيي من أجل بقاء الإسلام , وكثرة أهل الإسلام لكي يستمر الإسلام آمناً وقوياً .. ولكن عندما اعتمدت على رأيك ولم ترَ الحق , ولم تنظر إلى كل شيء على أنه من الحق , جعل الحق تعالى ذلك السبب والسعي نفسه سبباً لنقص الإسلام , فقد حالفت التتار, وقدمت لهم العون , لتفنيَ الشاميين والمصريين , وتخربَ دولة الإسلام , ولذلك فإن الله سبحانه جعل ذلك الذي كان سبباً لبقاء الإسلام سبباً لاضمحلاله , وفي هذه الحال , توجه إلى الله عزَّ وجلّ الذي هو محل الخوف , وتصدق لعل الله يخلصك من حال الخوف السيئة هذه , ولا تقطع الرجاء منه , برُغم أنه ألقاك من مثل تلك الطاعة في مثل هذه المعصية(103).
كان غرضي أن يفهم هذا , فيتصدق , ويتضرع . فقد انحدر من حال غاية في السمو إلى حال من الضعة(104)) .
إنه مع كونه ينصح العامة باجتناب صحبة الملوك ، لكنه يفهم أن توجيههم ونصحهم هو وظيفة العلماء ، يقول مولانا الرومي :
( وخطر صحبة الملوك لا يكمن في أنك قد تخسر حياتك : فعلى الإنسان أن يخسر حياته في النهاية , سواء أكان ذلك اليوم أو غداً ..... ( لكنه ) عندما يدخل ( عليهم ) ..., فلا بد للشخص الذي صحبهم وادعى صداقتهم , وقبل أَعطياتهم أن يتكلم وفقاً لرغباتهم، وسيقبل آراءهم السيئة من كل قلبه , ولن يكون قادراً على مخالفة أقوالهم .
الخطر من هذه الوجهة , لأن ذلك يؤذي الدين )(105).
لكنه مع ذلك يبين معنى قول النبي عليه السلام ) :شر العلماء من زار الأمراء , وخير الأمراء من زار العلماء , نعم الأمير على باب الفقير , وبئس الفقير على باب الأمير )
فيقول في الشرح :
( فهم الناس ظاهر هذا القول على أنه لا ينبغي للعالم أن يزور الأمير لكي لا يكون من شرار العلماء , وليس معنى هذا القول كما ظنوا , بل معناه أن شر العلماء من يحصل على مدد من الأمراء , ويكون صلاح حاله وسداده بسبب الأمراء , وخوفاً منهم ..)(106)
( والحاصل أنه , سواء أكان الأمير هو الذي يزوره شكلياً أم أنه يذهب هو لزيارة الأمير..)(107).
الخلاصة :
مما تقدم تتبين المِساحة الواسعة التي تشرق فيها حياة مولانا جلال الدين منذ سلوكه شاباً إلى عشقه ومعرفته كهلاً ، إلى تربيته وإرشاده شيخاً.
وبقي أن نذكر أن حياة مولانا في السنوات الأربع الأخيرة كانت صامتة استغراقية(108)، فكانت تتفجر عن شمسه الأحوال ، فتغني من رآه عن الكلمات والأقوال ، وكم من ضياء حالَة ؛ يغني حاضرها عن عبارة باللسان أو مقالة .
|