لم تزل نفوس البشر متباينة بين عليٍّ ودنيّ، تجذبها المكارم تارة فترتقي بها إلى سماوات المعاني وتنحدر بها الرذائل تارة أخرى فتهبط إلى حضيض الرعونات.
ولكلٍّ من الارتقاء والهبوط أسبابُه ومؤيداتُه، وعلى مبادئ المعاريج وحدود المنزلقات نادى دعاة الخير "حيّ على الفلاح"، ونفخ غواة الشر في أبواق المفاسد فزيّنوا للناس سبلها وأوقعوا بكلِّ جاهلٍ أو غرّ.
لهذا كانت دعوة الرسل وكان إرشاد المصلحين.
والأدب دعوة، ومنه قيل للصنيع الذي يُدعى إليه الناس "مأدُبة"، وما سُمّيَ الأدب الذي يتأدّب به الأديب من الناس أدباً إلا لأنه يأدِبُ الناس -أي يدعوهم- إلى المحامد وينهاهم عن المقابح (انظر لسان العرب لابن منظور – مادة أدب ) ومن هذا المعنى يظهر للمتأمّل أن الأدب مسؤولية فاضلة كريمة ينهض بها أفذاذ الناس تسوق الإنسان إلى الفضائل وتحجبه عن الرذائل.
وحين يُضافُ الأدب إلى الإسلام أو يوصَفُ به فإن ذلك يعني استمداد الأديب مضامين أدبه ووسائِلَه من مصادر التصوّر الإسلامي عن الإنسان وعن حياته ومآله وصلته بالكون الذي يحيط به ثم هو بعد ذلك يُسَخِّر ما أفاده عبر موهبته المتميّزة للتهذيب والتوجيه ويُبرِزه بأشكال متنوّعة تؤثّر في النفوس تأثيراً بليغاً ينفذ إليها من خلال إمتاعها وجذبها إلى متفرِّدٍ آسِرٍ بعيداً عن الوعظية المباشرة أو السطحية الباردة.
وما تقدم من التبيين يضعنا أمام أمور عدة :
أولاً – إن مفهوم الأدب تعرّض في تاريخنا لتشويه كبير ووُصِفتْ بالأدب صناعات لغوية فارغة من مضامين الأدب، ولم تكن تُقدِّم للإنسان إلا انحداراً إلى الرذيلة ولم تجد لمفهوم الأدب طريقاً إليها.
جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :
( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) ( عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى ابن السمعاني في أدب الإملاء ، وقال صحيح .)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه :
( إن أدب الله القرآن ) ( سنن الدارمي .)
ثانياً – إن الذي يُنتج الأدب إنما هو الإنسان في لحظات تساميه ، وكما أن الإيمان يزيد وينقص، فإن ملكة الأدب التي تُفيض على الناس إشراقتها تتقوى في أوقات يكون فيها الإنسان مترفِّعاً إلى إنسانيّته ولن تجد في حالات إنحدار الإنسان أدباً
( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات )
وبهذا نستطيع الجزم بأن الأدب الإسلاميّ هو الأدب الإنسانيّ، وأن الأدب الإنسانيّ هو الأدب الإسلاميّ، ولا نستغرب أن يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( آمن شعر أُميّة بن أبي الصلت وكفر قلبه ) ( الجامع الصغير – عزاه إلى ابن عساكر والخطيب في التاريخ وابن الأنباري في المصاحف .)
فقد تسامى وقتاً إلى إنسانيّته فنطق بأدب شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان .
ثالثاً – فهل لنا إذاً أن نتجوَّز في لفظة "الأدب المضادّ" والمضادّ لا يكون أدباً ؟
رابعاً – إن اعتبار اللغة العربية المصدر الأول للأدب الإسلاميّ ينبغي أن لا يحجب أنظارنا عن روائع الأدب الإسلاميّ الإنسانيّ التي عبّر الأدباء عنها باللغات الأخرى كالفارسيّة ولغات المشرق الإسلاميّ، لأنها تحقق شرط الانتماء إلى الأدب الإسلاميّ .
خامساً – إن مسؤوليّتنا الأدبيّة أمام الناشئة المسلمة تسوقنا إلى فرز جديد للنصوص القديمة التي تُقدَّم إليها، فليست المسؤولية تنحصر في تقديم النّتاج الجديد لكنها تمتدّ إلى إعادة التقويم للقديم، والتعريف بالغثّ والسّمين، والنافع والضار .
الخلاصة :
إنني أدعو إلى التفاعل مع أدب يحمل مفهوم الأدب، يكون إسلاميّاً إنسانيّاً يمتلك الأداة ويتفوّق بالشكل والمضمون فإنه من غير شكٍّ دعوة تامّة ورسالة كاملة يرتقي بالأمّة أفراداً وجماعات، ويعيد للمسلم إسلامه وإنسانيّته .
|