عن أَبِي عبد اللَّه جابر بن سمُرَةَ رضي اللَّهُ تعالى عنهما قال:(( كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم الصَّلَوَاتِ، فَكَانَتْ صلاتُهُ قَصدًا وخُطْبَتُه قَصْدًا)) رواه مسلم.
قولُهُ: قَصْدًا: أَيْ بَيْنَ الطُّولِ وَالْقِصَرِ.
هذا الحديث نوع من أنواع السنة التي يخبرنا فيها صحابي عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصحابة نقلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله صلى الله عليه وسلم، وعند أهل الأصول، لو تعارض حديثان في نفس الدرجة من الصحة، أحدهما يُروى عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني يُروى عن فعله صلى الله عليه وسلم، يقدَّم الحديث المروي عن قوله، لأن الفعل موصوف من الصحابي، أما القول فإنه كان حافظة ناقلة، لأن الصحابي ربما يكون في وصفه شيء من انفعالاته، أو شيء من محبته، أو شيء من رغبته، أما حين يروي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ينقل عن سيدنا رسول الله لفظه.
وهذا الحديث حديث عظيم، صحيح رواه الإمام مسلم، يحكي عن صلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحكي عن صلاة واحدة، وقد بين الصحابي أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه جابر أنه كان يصلي هذه الصلوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يروي أنه صلى صلاة أو صلاتين، إنما كان يلازم الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعندما يروي الصحابي تكرارًا، وقد تأكد من خلال العود، ثم العود، ثم العود إلى نفس الأمر، فإنه يرتقي بهذا ارتقاءً كبيرًا.
ووصف الصحابي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كان يصلي صلاته بالناس قصدًا، وكان يخطب بهم قصدًا، ينقلنا إلى المعاملة التربوية، أو ما يتعلق بشؤون الناس، وفيه فارق عن ما يتعلق بك وحدك، وقد ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالسور الطوال وحده، وقد يقول قائل: لكن صلى بالناس بالسور الطوال، مثل صلاة الكسوف، نقول: صلاة الكسوف استثناء، وفيها من حال الخوف، وهي بالأصل صلاة نافلة ليست من الصلوات المفروضة، والناس يكونون في وقت الصلاة في حالة خوفٍ، وذلٍ، وانكسارٍ {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا}[الإسراء: 59] إذًا هذه آية من آيات الله، أرسلها الحق تخويفًا فهو خائف، والخائف يقف، الخائفون يوم المحشر يقفون مدة طويلة، يقفون خمسين ألف سنة، فهذا الوقوف الاستثنائي في صلاة الكسوف مذكر بذلك الوقوف الشديد الذي معه حال الخوف، لكن عندما نلاحظ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس الصلوات المفروضة، كما يروي هذا الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه أنها كانت متوسطة، فما كان يقصِّر كثيرًا في الصلاة ولا يطيل كثيرًا.
إذًا هذا أصل من الأصول، عندما يكون الأمر في العبادة، أو في الدعوة إلى الله، أو فيما يتعلق بفعل الخيرات، متعلقًا بك فلا مشاح، ولا مانع أن تتقرب بما تشاء، وأن تأخذ بالعزيمة، وأن تأخذ بالأشد، لكن حينما يكون الأمر راجعًا إلى مصاحبة جماعية فينبغي أن يراعى في هذه المصاحبة الجماعية وجود الاستعدادات للرخص، والاستعدادات للعزائم، قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل: 20] فأشار إلى ثلاثة أنواع من الناس:
النوع الأول: أضعفَه ما في بدنه من البلاء {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}[المزمل:20 ]وهذا الصنف الأول، همة عالية، لكنه مريض مبتلى، والحق سبحانه وتعالى يكتب للمريض ما كتبه له في وقت صحته.
النوع الثاني: جهاده بالمال {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وهذا خادم للرسالة بماله.
النوع الثالث: جهاده بالنفس {وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[المزمل:20 ] يجاهد بنفسه.
أما المريض فإنه ليس عليه حرج، وقد أعفاه الحق سبحانه من الجهاد، وأعطاه ما يعطي المجاهدين لأنه قد ابتلي في جسده فتضاعفت درجاته، وبقي جهادٌ بالمال، وجهادٌ بالنفس.
وقيام الليل نوع من أنواع العبادة، نقل المسلمين من السكون إلى الحركة، قال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20 ] اجعلوا عباداتكم موزعة، كما تقدم في الحديث (فإِن أَحدَكم إِذَا صلَّى وهُو نَاعَسٌ) [متفق عليه] فأوجد بهذا الحديث أيضًا تأصيلاً من خلال هذا التوسط في الصلاة، حتى لا يكون ورد الإنسان منحصرًا في الصلاة حين يكون مع الناس، لأن الناس فيهم أوراد مختلفة، نعم إذا كنت أنت في وقت من الأوقات وردك لمدة أسبوع صلاة طويلة، ذكر طويل، هذا شأنك، لكن ربما يكون هناك طالب ورده دراسته، ربما يكون هناك طالب علم، يريد أن يتعلم أو يعلم، ربما يكون هناك خادم لله تعالى في المال، وهذا ورد عظيم، ربما يكون هناك من وهب نفسه لله، في أوراد كثيرة، كل واحد عنده أوراد، وقربات خاصة، غير موجودة عند أخيه، فلا ينبغي على الإنسان أن يفرض ورده على غيره، إنما المطلوب من الجميع التوسط عند الصحبة الجماعية.
نريد أن نعمل برنامج تعليمي نلتزم فيه التوسط، وأن نعمل برنامج تعبدي جماعي نلتزم فيه التوسط، لأن المبالغة والإفراط ينبغي أن تكون متناسبة مع الاستعدادات، وهذه الاستعدادات لا يمكن أن توجد في حال الصحبة الجماعية، فكلٌ من أفراد الجماعة يبالغ في ورد يتناسب مع استعداده، هذا أصل مهم وضروري أن نعرفه، لأنه يتفرع عنه أمور كثيرة، ((فإن المنبت لا ظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع)) فتنبهوا إلى هذه النقطة، حينما تفكرون في الترتيب الجماعي التزموا التوسط، لكن فيما يتعلق بالاستعداد الخاص فلا مانع.
والإنسان ربما يكون في أول الأمر مندفعًا، ثم بعد ذلك يفتر فتورًا شديدًا، لكن لو أنه منذ البداية بدأ متوسطًا، وبشكل آخر لو وجد في الجماعة من يكبح اندفاعه عند ابتداء أمره، فهو في نفسه يقول: كيف وأنا مندفع يحصل تقليل لهذا الاندفاع؟ نقول له: إنك في العمل الجماعي ينبغي أن تقلل من هذا الاندفاع، مثلاً: قرر رجل وهو في الصحبة الجماعية أن يبالغ في الخدمة، وتراه أول ثلاثة أو أربعة أيام، كثير الحركة والخدمة، وبعد ذلك لم تعد تراه بتلك الهمة، وهذا من الإفراط، فإذًا هذه فائدة متعلقة بالصحبة الجماعية، لنفسك التزم وردك كيف ما أحببت، كان وردك علميًا، أو عمليًا، فهذه القربات أبوابها كثيرة، كل واحد فتح عليه الله بنوع من أنواع القربات، لكن في الصحبة الجماعية عليه أن يلتزم التوسط، فهذه فائدة عظيمة مسلكية تربوية، ينبغي علينا جميعًا أن نستفيد منها لأنها مستمدة من فعل سيدنا وإمامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. |