بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، اللهم صلِّ على سيدنا محمّد عبدك ورسولك النبيّ الأُميّ وعلى آله وصحبه وسلم.
ما نـزال في جوهرة التوحيد في معنى قوله:
فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا وَجَبَالِلَّهِ والجـــائِزَ والمُمتَنِعَــــــــا
عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَدْ وَجَبَاوَمِثْلَ ذا لِرُسْـــلِهِ فَاسْتَمِعَــا
وقد مرّ معنا أن هناك حالتين مُبيَّنَتَين في القرآن:
الأولى: سمعٌ وعصيان.
الثانية: سمعٌ وإيمانٌ وطاعةٌ وموافقةٌ لله تبارك وتعالى.
كما مرَّ وصفُه تعالى لمن عصى بعد السمع في قوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93]، وعرفنا لماذا لم يحصل هذا السمع، وفرَّقنا بين من يسمع بالآذان ومن يسمع بالقلب، كما قال سبحانه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] فقرّر القرآن الكريم أنّ هؤلاء الذين عصوا، مع سماعهم للهدى، سمعوا بآذانهم دون وصول هذا السمع إلى قلوبهم.
وقال سبحانه: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101] ففسَّرَ عدم السمع بوجود الغطاء الذي يحجب عن الإبصار والسمع.
ولكنه سبحانه بيَّن أيضًا أنَّ هذا الغطاء إنما هو غطاءٌ تراكميٌّ بكَسْبِ الإنسان، قال تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وكذلك قال سبحانه: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم: 15] فهو يسمعها بالآذان، لكنّه يُكذِّب، وفسَّر تعالى ذلك بقوله: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
ففهمنا أنّ هذا الغطاء حَجَبَ القلوبَ عن الفقه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}، حيث تسمع الآذان، لكنّ القلوبَ لا تفقه ما سمعت ولا تنفعل له، أي لا يصل إليها معنى أنوار الخطاب، إنما يصل الخطاب إلى الدماغ أو الذهن.
ولذلك لم تحصل الخَشية، مع أنَّه: {لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
ننتقل إلى الحالة الثانية التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهلها، وهي:
ثانيًا: السمع مع الامتثال والطاعة:
نعلم أن المُكلَّف هو كلٌّ من الإنس والجِنّ، وكلاهما أُرسل إليه سيدُنا محمدٌ عليه الصلاة والسلام، حيث نجد في القرآن قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} وهو خطابٌ متكرِّر.
قال الله سبحانه وتعالى على لسان الجِنّ: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} أي سمعوا القرآن من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، {آَمَنَّا بِهِ} [الجن: 13] وهنا نجد سمعًا يتلوه إيمان.
وقال سبحانه في حقِّ بعض الإنس الذين وفَّقَهم للطاعة: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وأحسنُ الحديث كتابُ الله، كما بيَّن ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ألا إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ)، أي يسمعون أحاديثَ كثيرة لكنهم يتَّبعون أحسنها وهو القرآن.
فهم سمعوا القرآن فاتبعوه، وسمعوا اللغو فأعرضوا عنه.
فهناك إذًا قلبٌ يميّزُ بين ما هو ربّانيّ، وما هو ظلمانيٌّ، أو نفسانيٌّ، أو شيطانيّ.
وقد وصف الحقّ سبحانه وتعالى هذا التمييز في مواضع من القرآن، منها قوله سبحانه: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي نورًا قلبيًّا تُفرِّقون به، وذلك كما تُميِّزُ العينُ الماءَ والطعامَ الشهيَّ فيُقبِل الإنسان عندما يراهما، وتُميِّزُ الأفعى والعقربَ فيُعرض عندما يراهما، وذلك لأن هذا البصر أبصر فميَّز من حيث الحِسِّ ما ينفعه.
فإذا رَزَقَ اللهُ سبحانه وتعالى العَبدَ فُرقانًا، فإنه يستطيع أن يُفرِّقَ به بين ما ينفعه وما يضرُّه في المعنى لا في الحِسّ.
وقد تكون الموازين في بعض الأوقات صعبةً على البعض، لكن عندما يعطي الله سبحانه الإنسان هذا الحِسَّ القلبيَّ فإنه يدرك ويستشعر في قلبه أن هذا مجلسٌ نورانيٌّ، وذاك مجلسٌ ظلمانيّ، وعندها لا يستطيع أن يكذب أو يغتاب أو يأخذ الرشوة أو يرتكب المُحرَّمات.. وعندها يستطيع أن يتلذَّذ بما يُرضي الله سبحانه وتعالى، وهذا هو نور الفرقان الذي هو نتيجة التقوى {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}.
فبداية الأمر جُهْد، لكن قد لا يكون معه في مُبتدى الأمر فُرقان، وقد لا يكون مع هذا الإنسان ذاك الحِسُّ الباطن، لكنه يُصِرُّ بإرادةٍ وتصميمٍ على اتِّباع أمرِ الله سبحانه وتعالى واجتناب ما نهى عنه.
وهذا الإصرار سمّاه الله جهادًا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وهذه آية مكيَّة نـزلت قبل أن ينـزل أمرُ الله سبحانه بالقتال، فذهب المعنى إلى بذل الجهد.
فكأن الحقّ سبحانه يريد مِنَّا أن نتعب في أول الأمر دون أن نستشعر في قلوبنا معنى ما نتعب من أجله، وبعد ذلك يُكرمنا بالفُرقان، فإذا ظهر الفرقان في قلوبنا ميَّزْنا وأدركْنا أن حضورَ مجلس العِلْم نافعٌ، وحضورَ المجالس التي فيها ما يُسخط الله سبحانه وتعالى ضارٌّ، مَكرًا كانت أو خديعةً أو غِشًّا أو تدبيرًا من أجل الإيقاع بالإسلام وأهله..
وهكذا فعندما يُحِسُّ القلب بهذه المعاني يُحبِّها، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] وعند ذلك نرى أننا نُقبل على ما يُحبُّه الله، ونُحبُّه وإن خالف ما يحيط بنا من العادات.
ولننظر إلى سيّدنا إبراهيم عندما أمره الله سبحانه وتعالى بذبح ولده، فوافق أمرَ اللهَ تعالى، ووافق ولدُه هذا الأمر، وقال سبحانه وهو يصفهما معًا: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 103].
وكذلك عندما زار سيِّدُنا إبراهيم ابنه سيِّدَنا إسماعيل وقد كَبِر وتزوَّج، رأى ظلمانية زوجته التي تزوجها، فقال: "َقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ"، وهو بهذا يأمره أن يُطلِّق زوجته وأن يتزوَّج غيرها، وهو أمرٌ من الله تعالى، لأن سيِّدَنا إبراهيم رسولٌ لا يتكلّم إلا بوحي، فإذا بسيّدنا إسماعيل يلبّي أمر الله.
وهكذا نرى أنَّ القلب الذي فيه الفُرقان ويميِّز بين النافع والضارّ، أصبحَ يسمع ويستجيب، أما القلب الذي لا يسمع فلن يستجيب.
مشكلتنا أننا لمَّا وقعنا في الظلمانيات، وأكثَرْنا من المخالفات، وُجِدَ الغطاء على القلب فانعدم تمييزه، ولم يكن عندنا هذا الحِس الباطن.
كان أحدهم يُفضِّل أن يُرمى في نارٍ محسوسةٍ من الدنيا، على أن يفعل أمرًا يُغضب الله سبحانه.
ولما صُلِبَ سيِّدُنا خُبَيب وأرادوا قتلَه، قالوا: أما تتمنى أن تكون في أهلك ويكون مكانُك هذا لمحمَّدٍ عليه الصلاة والسلام؟ فقال: "والله ما أتمنى أن أكون في أهلي ويُشاك رسولُ الله بشوكة"، أي لو خيَّروني بين أن أُصلَبَ أو يُشاكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة واحدة فقط، فإني أفضِّل أن أُصلَب.
قال الإمام الشعراني رحمه الله: "من معنى: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، أي: أنت يا رسول الله في أمان من أن نُخالف شريعتك".
وأعمالُنا تُعرَضُ على رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فعندما نفعل المخالفة من خلال رعونات النفس فكأننا بذلك نقدِّم شوكةً في جسده الشريف صلى الله عليه وسلم، فكيف بنا وقد أعرضنا عن شريعته في عاداتنا ومعاملاتنا وفي أسواقنا وبنوكنا وأحوالنا الاجتماعية والسياسية، وفي تركيباتنا الإقليمية...؟!
فرَّقنا الأمة، وصرنا نعيش القطرية والإقليمية والقومية وقضايا لا نهاية لها، وكلّها بعيدةٌ عن التركيبة التي أرادها الله تعالى لنا، والمبيَّنة بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]، وقولِه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
إذًا: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} أي يستمعون ما يُقال، {فيتَّبعُونَ أَحْسَنَهُ} وهو القرآن، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 18] وهؤلاء هم المهديّون أهل الألباب، أي أهل العقول التي وصل النور إليها، فإذا تنوَّر العقل سُمِّي لُبًّا، وما وردت الألبابُ في القرآن الكريم إلا على سبيل المدح لعباد الله، أما العقول فيمكن أن يخاطَبَ فيها أهلُ الكُفر لدعوتهم إلى التعقُّل {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، {أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس: 64].
وهؤلاء لهم وصفان:
الوصف الأول: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ} أي هداهم الله، وهذه الهداية هي بيد الله.
وحتى لا يقول شخصٌ: هؤلاء هداهم الله، فما ذنبي أنا، فلو أنه هداني لكنت من المتّقين؟ قال معها: {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} فإذا كان لا يعرف طريق الهداية يُرَدُّ عليه ويُقال له:
إن الله تعالى بيَّن أسباب الهداية في القرآن، فذكر منها:
1- تلاوة كتاب الله {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].
2- سيِّدنا محمَّد عليه الصلاة والسلام، ومَنْ ينقل علومه {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
3- المجاهدة، أي أن تُصِرَّ على فِعل المأمور ولو كانت نفسك لا تشتهيه، مع أنّك لا تشعر في باطنك بدافع وحافز نحوه، وهذا مُبيَّنٌ في قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ}.
إذا قُلنا: هذا أطعمه الله، فهل هناك تناقض مع قولنا: إنَّ الذي أتى بالطعام وحمله هو فلان؟
فالذي خلق الإطعام هو الله سبحانه، وفلانٌ يُؤجَر على إطعامه، قال تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ} [النساء: 4] وقال: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 212] فمن حيث خَلْق الأفعال: لا يخلق إلا الله، أما من حيث الأسباب فنحن مُطالبون بها، وعلينا أن نأخذ بها.
فإذا قرأت في القرآن: {هَدَاهُمُ اللَّهُ} فإيّاك أن تُعطِّل الأسباب، بل ابحث عن أسباب الهداية حتى تكون ممن {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فيتَّبعُونَ أَحْسَنَهُ} ولا تقل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} فأنا ليس لي علاقة.
ثم قال: {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أولي الألباب بقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْليْ الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] أي هي علامات ودلائل تقود أولي الألباب، ثم فصَّل في وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] أي في سائر أحوالهم، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 38] فهم يعيشون حالة تدبُّر وتيقُّظ، ويخرجون عن الغفلة في كل أوقاتهم، وهذا التيقُّظ قد يبدأ باللسان، فتذكرُ الله بلسانك دون أن ينفعل قلبك وعقلك له وتقول: "لا إله إلا الله،سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله.." ثمّ بعد التكرار ينتقل هذا التيقظ إلى الأفهام والقلوب، لذلك قال صاحب الحِكَم العطائية رحمه الله:(لا تتْرُكِ الذِّكرَ لِعَدَمِ حُضُورِكَ مَعَ اللهِ فِيهِ).
لكن يجب أن لا يشغلنا العدد عن المدد، فهذا مَنْهيٌّ عنه، فالقليل الذي فيه المدد خيرٌ من الكثير من العدد وليس معه المدد، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25] وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] وقال أيضًا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة: 249].
سبِّح ثلاث مرات، بل مرَّةً واحدة وأنت تتدبَّر فيها، خيرٌ لك من أن تُسبِّح مائة مرّة دون تدبُّر، قال أبو يزيد البُسطامي رضي الله عنه: (لو صَفَتْ لي تهليلةٌ واحدةٌ ما بالَيْتُ بعدها)، أي لو قُلت مرَّةً واحدة صافية: "لا إله إلا الله" وقلبي مُنفعِلٌ لها، ما باليت بعدها.
لذلك قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} ليس معناه أن يُلقلق بلسانه، بل يعيدها على قلبه بشيءٍ من السكينة والطمأنينة، ومثل هذا تلاوة القرآن، فقراءة صفحة أو نصف صفحة بشرط أن يفهمها خيرٌ له من أن يختم القرآن دون تدبُّر.
يحكى عن سيّدنا الوليِّ العارف الشيخ محمد الهاشمي التلمساني إمامِ أهل التوحيد رحمة الله عليه، أنه جلس بعد صلاة العشاء وأراد أن يقرأ سورة المُلك، فلمّا بدأ بقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1] استوقفته هذه الآية، فبدأ يُعيدها كثيرًا ويتأمّل في معانيها وهو يغوص ويغوص... حتى طَلَع الفجر عليه، وهو يتأمّل في {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فدخل عليه خادمه فسأله الشيخ: في أيِّ سورة أجد تلك الآية؟
أما نحن اليوم فإننا نعيش حالة تكاثر الركعات، دون أن نلاحظ المضمون.
قد يفوق إنفاقُك ولو كان قليلاً إنفاقَ مئات الملايين، وأنت ترى فقيرًا محتاجًا فتُغطّي حاجته، لأنه إنفاقٌ مُوظَّفٌ يغطّي حاجةً إنسانيّة.
فالكثرة لا قيمة لها، إنما ينبغي أن ننفذ إلى مضمونها.
فإذا قُلنا: اذكر الله، أي اخرج عن الغفلة، قال صاحب الحِكَم العطائية رحمه الله: (لا تتْرُكِ الذِّكرَ لِعَدَمِ حُضُورِكَ مَعَ اللهِ فِيهِ، لأَنَّ غَفْلَتَكَ عَنْ وُجُودِ ذِكرِهِ أَشَدُّ مِنْ غَفْلَتِكَ في وُجُودِ ذِكْرِهِ)، أي اذكر الله بلسانك ولو كان عقلك لا يأخذ حظه، لكن اذكر بطريقةٍ يمكن فيما بعد أن يأخذ عقلُك نصيبًا منها.
فإذا جلستَ تُكرِّر بلسانك (لا حول ولا قوة إلا بالله) ولم تفهمها، فأعدها بتأنٍّ ورويَّة، وبعد تكرارها مرة تلو أخرى تبدأ بالفهم وتقول: الحَول أي هذا الذي أراه وهذه الإمكانيات التي عندي، والقوة: تعني قدرتي على عمل شيء ما، وهكذا تصل إلى معرفة ضعفك من غير الله، وأنّك في أمَسِّ الحاجة في كل حركة تتحرّكها إلى الله، أي أنّك وصلتَ بقلبك إلى معنى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
وإذا جلستَ تُكرِّر بلسانك (لا إله إلا الله) فلا تنشغل بالعدد عن المدد، وبعد تكرارها في هدوء وسكينة، ينتقل هذا الذكر إلى فهمك وعقلك وقلبك فتصل إلى أنه لا يستحق العبادة إلا الله، فلماذا تتوجَّه إلى غيره وهو لا يستحقّ؟!
فعندما يتفاعل بفهمه وقلبه مع معنى ما يسمع سيُنتِج ذلك سلوكًا.
وما أكثر ممارساتِنا! لكنَّ التواصل بيننا وبين المضمون الفهميّ المعرفيّ فيها ضعيفٌ جدًّا.
إذًا (لاإله إلا الله) غيَّرَتْ حياتَك.
فأول وصف لأولي الألباب: يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، أي يذكرون الله في سائر أحوالهم وأوقاتهم، أي خرجوا من الغفلة، فلسانهم وإن كان صامتًا لكن قلبهم يذكر الله.
الوصف الثاني: {وَيَتَفَكَّرُونَ}: ففي أي شيء يتفكرون؟
يمكن للإنسان أن يدخل إلى مخبر الفيزياء وهو يتفكَّر في محصلة القوى.. أو إلى مخبر الكيمياء وهو يتفكّر في اجتماع ذرّات الهيدروجين مع الأكسجين لإنتاج الماء، أو في الحمض القويّ والحمض الضعيف الذي يتفكك.. أو أن يتفكّر في الحقل المغناطيسي والكهربائي...
فهل هذا هو التفكّر الذي يتحدّث عنه القرآن؟
نعم، لكن بشرط أن يَرى وراءه الفاعل أو الفعل.
قال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فلم يقل: في السماوات والأرض، لأنّ هذا يعني: تفاعلاتٍ فيزيائيّةً وكيميائيّةً وكهربائيّةً ومغناطيسيّة... لكنه قال: {فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فعندما ترى أن اجتماع ذرتين من الهيدروجين مع ذرة من الأكسجين يعطي جزيء ماء، تقول: سبحان من أوجده، وعندما ترى الحقل المغناطيسي، وترى كيف تنجذب برادة الحديد إلى المغناطيس، تقول: سبحان من جذبها، وسبحان من خلق هذا الاقتران بين المغناطيس وبرادة الحديد هذه، وهكذا...
من الذي خلق هذه السنّة؟ ومن الذي وضع هذه المعادلات..؟
وهذا ما يميِّز جامعات الأمة الإسلامية، لكننا اليوم في الأمّة الإسلامية نفتقد إلى الجامعات، مع أن هناك الكثير من الجامعات التي سمِّيَت باسم "جامعة إسلامية"، أما الواقع فلا يوجد جامعة إسلامية.
في الماضي كان هناك جامعات إسلامية، وذلك في عصر النهضة والحضارة الإسلامية، حيث قرأنا كثيرًا من الكتب التي كتبها علماء الرياضيات وعلماء الطبّ..
ففي مجال الطبّ مثلاً نجد أن كتب الطبّ القديم لا تغفل عن الربط بين الفعل وفاعله، ولا تقف مع التوصيف الظاهر.
أما اليوم فجامعاتُنا هي تكريرٌ حرفيٌّ لمنهجٍ مادِّيٍّ غربيّ، ومن يترجم كتابًا من جامعةٍ غربيَّةٍ فهو السابق لغيره.
لكننا، ومع الأسف، فقدنا هويتنا وتحوَّلنا إلى ببغاوات نُردِّد أيَّ كلمةٍ يقولونها، حتى لو قالوا كلمةً في حقِّ دينهم في الغرب.
فعندما حدث صراعٌ بين الكنيسة والمختبر قالوا بالفصل بين الدين والدولة، ولمّا رأينا أنهم نجحوا في الفيزياء والرياضيات والفلك... أصبحوا أئمتنا في كل شيء، فقلنا كما قالوا: نفصل بين الدين والدولة.
وهذا لا يُقبل أبدًا، فذاك الدين غير هذا الدين، هذا دين الإسلام، وهو يدعو إلى دخول المختبر، أما هناك فقد أُحرِقَ من دخل إلى المختبر، وكذلك من قال بكرويَّة الأرض، أما الإسلام فإنه يدعو إلى المختبر، فلا يصحُّ أن نلبَس ثوبًا لم يُفَصَّلْ لنا.
نحن نقول: علينا أن نترجم أحدث الأبحاث التي وصل إليها الغرب، لأنه في هذا الوقت السابقُ في الحضارة المادية، ويجب علينا شرعًا اتّباعه في هذه المعادلات والاكتشافات، لكنْ مع ربط هذه الحضارة بفاعلها، وربطها بالفعل الذي هو خلف المادة.
ونحن نستفيد من الغرب لأنه سبقنا، لكننا في وقت من الأوقات سبقناه، وجامعاتُنا في الأندلس هي التي أنتجت النّهضة الأوربية.
لكنّنا الآن مطالبون بالبناء لكنْ دون أن نفقد هويتنا وحضارتنا المعنوية... فشعار جامعاتنا: "اقرأ باسم ربّك"، وليس: اقرأ باسم المادة، فنحن نقرأ المادة باسم ربّنا.
لذلك فالجامعةُ الإسلاميةُ اليومَ شبهُ مفقودة، ومع الأسف فالذي يسمي نفسه "الجامعة الإسلامية" هو من يدرّس علم الفقه وباقي العلوم الشرعية فقط، أما أن يدرّسَ الطبّ ويسمّي نفسه جامعة إسلامية فهذا قليل، لأنه لا يربط الطب بكل ظواهره بخالق السماوات وخلقه.
إذًا: عندنا واجب، وهو أن نتفكر في السماوات والأرض لنصل إلى خلق السماوات والأرض.
وهذا هو الفارق الكبير بين جامعاتنا اليوم داخل مساحة عالمنا الإسلامي وجامعات أسلافنا، وهذا لا يعني أن نعيد العلوم القديمة حتى تصبح جامعاتنا متطورة، لا.. بل خذ العلم الحديث المتطور، ولكنْ لا تتخلَّ عن حضارتك المعنوية التي تقرأ فيها خلف كل ظاهرةٍ كونيةٍ فعلَ مكوِّنها.
إذًا: الوصف الأول لأولي الألباب:{يَذْكُرُونَ اللَّهَ}.
والوصف الثاني: {وَيَتَفَكَّرُونَ} في فعل الله، أي يذكرون الله ويتفكرون في فعله.
الوصف الثالث: يصلون إلى نتيجةٍ، وهي أنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون فيه عبثية، قال تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 191].
إذًا أنت أتيت إلى الدنيا وستخرج منها، فما هو عملك؟ وما هي حكمة وجودك؟ وأين أنت منها؟
هل فهمت أنّك في هذا الكون صاحبُ أمانة وصاحبُ مهمّة؟ وهل قمت بأدائها؟
قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72].
فإذا فهمتَ أنّ هذا الكون ما خلقه الله سبحانه عبثًا، وأنّه سخّر لك الشمس والأرض والبحار والأشجار والنّار... وكلُّ شيءٍ مسخَّرٌ لك، فهل كلّ هذا من أجل أن تقول: الذي أريده أفعله؟
لا..
قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
فحتى تكتمل الحكمة لا بدّ من حساب، فلمّا نظرنا إلى هذا الكون على وجه الأرض رأينا الجبّار فرعون قد ظَلَمَ وتجبَّر وتكبَّر ومات ولم يأخذ جزاءه، وربّما نرى حاكمًا فَعَلَ الكثير من الجرائم وبعد ذلك حوكم في الدنيا، لكننا نرى بالمقابل الكثير من الفراعنة والجبابرة الذين فعلوا ما شاؤوا ثم ماتوا وذهبوا، فهل يمكن أن يكون هذا الكون منتظمًا وفيه حكمة دون أن يقف هذا الظالم مع من ظلمه في محكمةِ عدلٍ إلهية؟
هذا لا يمكن أبدًا.
ثم قال: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] أي: يا ربّ، لا تجعلنا من الذين تكون نتيجتُهُمُ الفشلَ عندما تظهر نتيجة الحكمة في الآخرة.
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 192] فليس أسوأ من هذا الفشل بعد أن يوقف الإنسان في محكمة العدل الإلهية فتكون النّتيجة الرسوب.
وعندما يرسب طالب الجامعة في مادةٍ ما تكون عنده فرصةٌ ليعيدها مرة أو مرتين وينجح بها، أما هناك (في محكمة العدل الإلهية) فلا يوجد إعادة.
في هذه الدنيا يمكن أن تُظلم في التصحيح، أما هناك فلا يمكن ذلك بل يقال: {كفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] أي حاسِبْ نفسَك، وضَعِ النتيجة، فالحق يرضى منك أن تحاسب نفسك.
قال تبارك وتعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 99-100] فمجرد أن يأتي مَلَكُ الموت ويأخذ الروح فقد طُويت الصحيفة، وعندها ينتبه الإنسان ويقول للملائكة: افتحوا لي الصحيفة يومًا واحدًا فقط، أعود وأعمل شيئًا حسنًا، فتجيبه الملائكة: لا، فقد انتهت الفرصة.
وقد قيل: حقوقُ الله مبنية على المسامحة، فإذا كان الأمرُ بينك وبين الله فهو يسامحك لأنه سبحانه وتعالى كريم، فإذا كنت مقصّرًا في صلاتك وصيامك وزكاتك... يسامحك، أما إذا كان الأمرُ بين العباد فيتركهم ليتحاسبوا بين بعضهم.
فالذي كان يصلي ويصوم ويزكي ويحجّ... لكنه يغتاب هذا ويغشّ هذا ويظلم ذاك بلسانه أو بيده... سيُوقف يوم القيامة، ويعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنِيت حسناته يؤخذ من سيئاتهم فتوضع عليه، وهكذا يظهر العدل، وبعد العدل يأتي الفضل.
وعندما أشارت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بيدها إلى السيدة صفية، تعني أنها قصيرة، مع أنها كانت أجمل نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لها: (لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لأَنْتَنَتْهُ) رغم أنّها لم تقل شيئًا، فكيف بالذي يغتاب ويغشّ ويظلم الناس..؟
إذًا عندما ينظر الإنسان ويرى تقصيره وحاجته إلى الله، فإنّ الله سبحانه وتعالى يتكرّم عليه، لكن بشرط إعطاء النّاس حقوقهم، فإذا كان هناك مَن اغتبته فاذهب واطلب منه المسامحة، وإلا سيوقفك على جسر جهنّم ويأخذ حقّه منك من حسناتك.
إذًا:
الوصف الأول: يذكرون الله.
الوصف الثاني: يتفكرون في فعل الله.
الوصف الثالث: يصلون إلى نتيجة وهي حكمة الله، وانتفاء العبثية.
فإذا صاروا من أهل الألباب فسيكونون ممن سمع فامتثل {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا} [آل عمران: 193].
وهذه هي المقدمات، فإذا كانت المقدمات صحيحة ستكون النتائج صحيحة، وعندها لن يكون سمعٌ وعصيان، لكن بدون مقدمات سيظهر السمع والعصيان.
نسأل الله سبحانه وتعالى القبول، والحمد لله ربّ العالمين.
د. محمود أبو الهدى الحسيني |