عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حُجِبَتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِه). /متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: حُفَّتْ بدل حُجِبَتْ، وهو بمعناه، أي بينه وبينها هذا الحجاب، فإذا فعله دخلها.
الحديثُ المشهورُ وإن كان ليِّنًا لكن معناه صحيح، فعندما دخل صلى الله عليه وسلم المسجدَ فرأى الحارث قال:كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِث؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، ولما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة إيمانه قال فيما قال: وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة، وكأني أنظر إلى أهل النار في النار.
وهذا الحديث تشهدُ له أحاديثُ صحيحةٌ كثيرة، منها الحديث الصحيح الذي قال فيه سيدنا حنظلة لسيدنا أبي بكر رضي الله عنهما: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، ولما دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: تحدِّثُنا يا رسول الله عن الجنة وكأنها رأي عين.
إذًا، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في الدنيا، لكن مُلكيةَ الدنيا لم تحجب مَلَكُوتَهم وأرواحَهم وقلوبَهم عن رؤية الجنة والنار.
فأجسادُهم في الدنيا وجوارحُهم وحواسُّهم ترى المحسوس، لكن قلوبهم وأرواحهم كانت تنظر إلى جنة الله سبحانه، وتنظر إلى ما أعدَّه في النار لأهل النار.
فما سرُّ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الجنة ويرون النار وهم في الدنيا، أمَّا نحن فإننا لا نرى إلا الدنيا ونحن في الدنيا؟
السِرُّ هو: أن الشهواتِ تحجُب عن رؤية النار، والمكارهَ تحجب عن رؤية الجنة.
فعندما تثور في النفس الشهوة وينجذب إليها، تُعميه عن النار، ولو أنه رأى النار لما أقبلت تلك الشهوة ولا هيمنت عليه، ولكانت الشهوة مضبوطة بالشريعة.
نذكر مثالاً:
ماذا لو أن شخصًا وهو في أحد طرقات لبنان أو فلسطين، والطائرات تقصف وتُدمِّر، والانفجارات والحرائق مندلعة، وهو يرى هذه الانفجارات والحرائق وهذا الدمار، هل يُتَصور أن هذا الإنسان إذا رأى فتاةً، يمكن أن تجذبه هذه الفتاة في وقت مثل هذا الوقت؟
وهل يمكن أن تأخذ من قلبه ذرة واحدة، وهو يرى الطائرات تقصف، والدمار يحصل، والحرائق تشتعل؟
قطعًا لا، لأن هول هذا المشهد يحجب الإنسان عن الشهوة، كما أن الشهوة تحجب الإنسان عن هذا المشهد.
فالذي يكون واقفًا مع هذه الشهوة، مختبِئًا في جُحره، قد ينسى وهو في هذه الحالة ما سيُحيط به بعد دقائق، لأن شدة انجذاب النفس إلى الشهوة يُعمي.
هذه معادلة، وهذه المعادلة منظورة في حق أبناء الدنيا.
وكذلك عندما يرى الإنسان الشهداء والجروح والطائرات المعتدية تمزّق الأشلاء، ربَّما يُحجَب بهذا المشهد الذي تكرهه النفس عمّا أدركه هذا الشهيد.
فتمزيق الأشلاء هو مما تكرهه النفس، فربَّما حَجَبَ هذا المشهدُ الفظيعُ، وهو يقف أمامه فلا يشهد إلا تمزُّقَ الأشلاء، مشهدَ حياةِ هذا الشهيد في الجنة، ونعيمِه وسرورِه وفرحِه، والله سبحانه وتعالى وصف هذا الممزَّقة أشلاؤه بأنه فَرِح: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 169-170].
فأنت في حزن وأنت ترى جسده ممزقًا أشلاءً وقِطَعًا، فهو مشهد فظيعٌ مكروهٌ للنفس، لكن هذا الشهيد في حالة فَرح: {فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ}، وفي حالة استبشار: {وَيَسْتَبْشِرُونَ}.
فانظر عندما يُهيمن المحسوس على القلب، فكلُّ ما تكرهه النفس يحجب عن الجنة، وكل ما تشتهيه النفس يحجب عن النار.
وهذا يقود إلى الدواء.
إذًا، حتى لا نُحجَب عن الجنة، علينا أن نقتحم المَكاره، ونخرق هذا الحجاب.
فالنفس تكره التخلِّي عن مالها، فإذا تخلّى عن ماله أو كثيرٍ من ماله من أجل الله، فقد اخترق بذلك المكاره، وإذا به ينظر إلى الجنة.
والنفس تكره البذل في الوقت، وتريد أن يُوفَّرَ الوقتُ لمُتَعِها وحظوظها الشخصية، فإذا اخترقَتْ هذا المكروه، وأعطَتْ وقتَها أو كثيرًا من وقتها لله، لا للمُتَعِ الشخصية الفردية، فإنها تكون بذلك قد خرقت حجاب المكروه، وعندها لا يكون بينها وبين الجنة حجاب.
والنفس تحبُّ النوم وتكره القيام، فإذا أراد أن يرى الجنة، فليخرق حجاب النوم، وليقم من الليل، فإذا فعل هذا، لا يبقى بينه وبين الجنة حجاب.
إذًا، الجنة يحجُبُ عنها كلُّ مكروه، لأن النفس تكره ما يروّضها.
فكلُّ جُهدٍ يبذله في نفسه أو ماله أو وقته أو صحته .. تكرهه النفس، إلا في حالة واحدة، وهي أن يكون من أجل شهرتها وسمعتها، فيلتبسُ الأمرُ، لذلك الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ ليُقَالَ عَنْه.
فلا بد أن يكون الإنسان مع جُهده هذا متوجِّهًا إلى الله تبارك وتعالى وحده، حتى لا يُلبَّس عليه.
ويكون الإنسان مُخترِقًا المكارهَ عندما يدخل المكاره الحقيقية.
حجَّ أحد رجال القوم رضي الله عنهم ماشيًا كذا وكذا مرة، وكان يبذُل المشاقَّ الشديدة، وكان لا يجد من نفسه ثِقَلاً، وبعدها طلبَتْ منه أمُّه أن يذهب ليستعذب لها الماء، فثَقُل ذلك على نفسه، فقال: فأدركت أن كلَّ ما فعلتُه من تكرار الحج كان فيه حظُّ نفسٍ، فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقًّا.
ومن علامات اتِّباع الهوى المسارعةُ إلى النوافل، والتكاسل في الفرائض.
إذًا، النفس تكره أن تبذُلَ وأن تُعطي وقتًا وجُهدًا ومالاً .. دون أن يسمع أحدٌ، لكنها تُحبُّ أن تعطيَ والناس يسمعون ويعرفون.
فإذا تحقَّق في الإنسان سِرُّ الإخلاص، عند ذلك لا يبالي.
إذًا، إذا استطاع الإنسان أن يخترق حجاب المكاره، فإنه يعيش وهو يرى الجنة، وهو في الدنيا.
اقتحم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم المكاره:
فهناك من اقتحم تحمُّلَ الأذى من المشركين..
وهناك مَنْ تَحمَّلَ ما تكرهه النفس من مفارقة الأوطان..
وهناك مَنْ تَحمَّلَ ما تكرهه النفس من مفارقة الأهل: فكم من وَلَدٍ فارق أمَّه المُشرِكة، وكم من زوجة فارقت زوجها المُشرِك..
فقد تحمَّلوا ما تتحمله النفس، لذلك لم يُحجبوا عن الجنة، وقال أحدهم: "إني لأشمُّ ريح الجنة دون أُحد".
وعندما يستغرق الإنسان في الشهوات فإنها تحجبه عن مشهد النار، وقد جعل الله سبحانه وتعالى في النار مقعدًا للطائع ومقعدًا للعاصي، فلا يوجد مخلوقٌ خلقه الله سبحانه إلا وله مقعد في نار جهنم، لكنه سبحانه وتعالى إذا أدخله بفضله الجنة يُطلعه عليه بمنِّه وفضله، ويُقال: "هذا مقعدك من النار، والله سبحانه وتعالى تفضَّل عليك، وأكرمك فلم تكن في ذلك المقعد"، ليُظهر امتنانَه عليه.
كُنت أتفكّر في قوله تعالى: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285]، فقوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} المناسبُ بعدها أن يقال: فكافئنا، لكن الحقَّ قال: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا}.
قد يقول قائل: لعل السياق: سمعنا وعصينا غفرانك.
لكنه قال: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ} ليُفهمَنا أننا في طاعاتنا بحاجة إلى مغفرته، فكم تدخل علينا الشوائب فيها؟
ومَنْ مِنَّا الذي أدَّى الطاعة؟
ومن منا الذي فعل الطاعة، وخالقُ الطاعة والمُتفضِّل بها إنما هو الحقُّ سبحانه؟
لذلك كان بعد الصلاة الاستغفار.
فهذا حديثٌ عظيمٌ، له معانٍٍ كثيرةٌ، وقد أشرنا إلى معنىً واحدٍ من معانيه، وهو المعنى الذي في الدنيا، وفي الآخرة أيضًا الذي يقتحم المكاره يجتاز إلى الجنة، بفضل الله وجوده وكرمه، والذي يُكثر من الشهوات المُحرَّمة فإنه يكون - والعياذ بالله - قد خطَّ طريقه إلى نار جهنم.
وما أعجبُ أن يأتي السياق بالفعل المبني للمجهول! فما قال: حَفَّ الله النارَ بالشهوات، إنما قال: (حُفَّت) وكأنه ينبِّهُ إلى النفس، لأن الذي يُوقع في الجهالة إنما هو النفس.
قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا} [المجادلة: 11] فما أتى بالصيغة في المجهول، لكنه قال هنا: (حُجِبَتْ)، فالذي حَجَبَ إنما هو النفس.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يرفع عن بواطننا الحجاب، ونسأله أن يتوب علينا توبة نصوحًا لا ننقض عهدها، ونسأله أن يتقبَّل منا وأن يقبلنا، والحمد لله رب العالمين. |