عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. /رواه مسلم.
الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ: عبارةٌ فيها دلالتان: إيمان وقوة، فالقوةُ فرع التمسُّك بالشريعة، والإيمانُ هو تعلُّقُ الباطن بالغيب.
فالمؤمن القويُّ هو المؤمن الذي قَوِيَ بالشريعة، فالشريعة جاءت بالعِلْم، وجاءت بالعمل، وجاءت بالخدمة، وجاءت بالتفكُّر..
فكلما كان هذا المؤمن المُتعلِّقُ بالغيب مُستمِدًّا ومُطبِّقًا ومُحقِّقًا، في ذاته وفي إخوانه وفي أصحابه وفي مجتمعه.. كلما كان مُحقِّقًا لما أُمِرَ به أكثر، كان قويًّا.
لذلك بيَّن سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي على حسب القوة، لأن الاستطاعة كلما قَوِيَتْ، كان الاستعداد أقوى، فتحمَّلَ أكثر.
لذلك أنـزل الله على سيدنا يحيى قوله: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] أي لا تترك شيئًا من هذا الكتاب إلا وتحقَّق به وتمسك به.
فالمأمورات كثيرة، لكنه قال: "فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، فإذا استطعتم أن تتمسَّكوا بأمر الله سبحانه وتعالى لكم بالسير في الأرض، فسيروا في الأرض.
وإذا استطعتم أن تتمسكوا بأمر الله سبحانه وتعالى لكم بزيادة العِلْم، فازدادوا من العلم.
وإذا استطعتم أن تتمسكوا بالشريعة من خلال الإنفاق، أنفقوا.
وإذا استطعتم أن تتمسكوا بالشريعة من خلال الجهد بالنفس، جاهدوا بالنفس، وهكذا..
فكلما قرأت القرآن الكريم وجدت في الأحكام والأمر الربّاني أمرًا، وقد تجد من نفسك تحقيقًا لبعضه، فالذي يُفرِّق بين القويِّ والضعيف هو استعدادك واستطاعتك.
فإذا استطعت أن تأتي بالعبادة البدنية، والعبادة المالية، والعبادة العلمية، والعبادة العقلية ... فافعل.
فإذا استطعت أن تكتب كتابًا فاكتب، وإذا لم تستطع ففيك خير.
لهذا قال: وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، وهي عبارة تربوية عظيمة.
فإذا نظرت إلى رجلٍ يخدم الإسلام بفصاحته وأنت لا تملك هذه الفصاحة، فاستأنس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ"، أي فيك خير.
فتستطيع بحسب استطاعتك أن تقوم بشيءٍ ما، لكن ربما يوفِّقُ الحقُّ سبحانه وتعالى من هو أقدر منك وأقوى منك باستعداده، فيكون فصيحًا، ويكون كاتبًا، ويكون عالمًا، ويكون عاملاً، ويكون مجاهدًا ...
فليس مفهوم القويِّ هنا بالعضلات، فهذا فهمٌ قاصرٌ، إنما نفهمها من خلال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} فالقوَّةُ هنا قوَّةُ تمسُّكٍ في الإيمان، لأن الدين جزءٌ باطن هو التعلُّق بالغيب، وجزءٌ ظاهر هو الأثر الذي يظهر في السلوك.
والأثر الذي يظهر في السلوك، كما إذا استطاع شخصٌ أن يسير في العلوم الكونية وأن يقدّم شيئًا ما، علمًا أو كتابةً أو كلامًا أو عملاً .. فهذا كله من المأمورات الشرعية، التي قد تكون من الفروض العينية وقد تكون من الفروض الكفائية.
فبقوله: خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، كأنه يدلُّنا على طريق العروج، فإذا أردت أن تكون الأحبَّ، وأن تكون الأكثرَ خيرية، انظر كم تُقدِّم؟
فإذا رأيت أنك تُقدِّمُ بفضل الله وتوفيقه وكرمه شيئًا كثيرًا، في العِلْم والعمل والخدمة ... فافهم أنك الأحبُّ إلى الله واستبشر، لكن لا تركن إلى عملك، إنما إلى فضل الله سبحانه وتعالى، وانظر أنه سبحانه تفضّل عليك فوفَّقك، فَظَهَرَ كلُّ هذا.
وكلما استزدت أكثر، في العِلْم والعمل والخدمة والأقوال والأفعال والأحوال ... فهذا يجعلك الأقوى في الشريعة، والأحبَّ إلى الله سبحانه وتعالى، والذي هو أكثرُ خيريَّةً.
فقال: "وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ" حتى لا يُثَبَّطَ من لا يقدر.
فإذا وُفِّقَ شخصٌ لأن يُقدِّم خدماتٍ عظيمةً جليلةً نافعةً مفيدةً جدًّا في الإلكترون، أو المعلوماتية، أو الميكانيك، أو الإعمار، أو الطبِّ، أو الفقه، أو الرياضيات، أو الإدارة ... قد لا تستطيع أن تؤدِّيَ ما أدَّاه، فلديك استعدادك، فقم به، ففيك خير.
ثم قال بعدها: احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، أي مع أنك الأضعف، وأنت ترى الأقوى، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ.
والذي ينفع هو الشريعة بكلِّ تفصيلاتها وكلُّ ما جاءت به، وغيرُ تفصيلات الشريعة لا ينفع، والذي نهت عنه لا ينفع.
فقال: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ" أي احرص على الشريعة، واستزد منها على كل الأصعدة.
ثم قال: وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، أي إن أنت صدقْتَ في الطلبِ والحرصِ على ما ينفع، ودفعك إلى الرغبة، وخطوتَ بخطواتٍ عمليةٍ فعليةٍ حتى تتحقق بشيءٍ زائد من مأمورات الشريعة، فاستعن بالله ولا تركن إلى قوَّتك ولا إلى قدرتك، فسيعينك.
وَلا تَعْجِزْ، أي لا تستسلم لعجزك، فإذا رأيت أنك لا تحسن قراءة القرآن، داوم على حِلَقِ القرآن تجد أنك بعد مدة تصبح قويًّا في قراءة القرآن..
وإذا لم تكن تفهم القرآن، داوم على درس التفسير تجد أنك بعد مدة تصبح قويًّا في التفسير..
وإذا كنت ضعيفًا في اللغة العربية، داوم على درس النحو تصبح قويًّا..
وإذا كنت ضعيفًا في الفقه، داوم على درس الفقه تصبح قويًّا..
وإذا كنت ضعيفًا في علم العقيدة، داوم على درس العقيدة وزاحم في الرُّكَبِ تصبح قويًّا..
وهكذا.. لكل مجتهد نصيب.
ثم قال: وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فلو تعثَّرت في مسيرك هذا، فحصل عندك هيمنة خاطر شيطاني أو خاطر نفساني أو عائق من الخلق ... فتأخرت قليلاً في مسارك.
فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فالصوفيُّ ابنُ وقته، وربَّما يؤخِّرُ الحقُّ عنك خيرًا، فليس المقياسُ مقياسَ زمنٍ بالساعات، فلرُبَّما بعد أن يؤخِّرَ الحقُّ عنك هذا الشيء، يعطيك في مدَّةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ ما لا يعطيه غيرَك في سنوات.
لذلك إيَّاك أن تقولَ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ.
وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، أي هذا ما قُدِّرَ، فاجتهد فيما سيأتي، ولا تلتفت إلى الماضي، فقد قدره الله.
فإن كان الذي قدَّره اللهُ فيه بعض المخالفات فاستغفر، وإن كان فيه بعض العجز فاستعن، وإن كان فيه بعض المصائب فاصبر، وهكذا ...
انسَ الماضي، وابدأ من جديد، واستعن بالله، فقد يفتح الحقُّ سبحانه وتعالى أبوابًا ما كنت تتصور أنه يفتحها لك.
لا تفكر في الماضي، ولا تقل: لو أنني فعلت كذا كان كذا.. هذا أغلق بابه، فأنت ابنُ وقتك، فالتفت إلى ما ينبغي عليك فعله في الوقت، وإلا فستقع في المقت، وإذا بقيت تتذكر الماضي والمآسي فستصاب باليأس والإحباط.
فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِِ، وسيهيمن عليك الشيطان بـ "لو"، وتدخلُ في وسواسٍ يصعب عليك الخروج منه، لأن الوسواس يتسلَّط على الضعيف، ولما ذكر الضعيف ذكر معه الوسواس، لأن الوسواس لا يتسلط على القويِّ.
فالقويُّ الذي يستعين بالله، والذي هو صاحب همة وصاحب عزيمة، لا يؤثر الشيطان عليه، ولا يلتفت إلى الشيطان، ولا شأن للشيطان به أبدًا.
نسأل الله سبحانه التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
|