عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ) /رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
كنوز هذا الحديث كثيرة، ومن جملتها التي تلوح - وقد روى هذا الحديث نور النبوة عن حضرة الألوهية - نلاحظ في الحديث قوله:
وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ.
وبعد أن حصل القرب والمحبة قال: فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ.
ولنلاحظ الفارق بين:(يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ)وهذا يشير إلى محلِّ البعد، لأنَّه ما يزال يتقرَّب إليه، فهو ما يزال في الجرِّ (إليه)، وبين:(سَأَلَنِي) والتي قد تكون وهو في محلِّ البعد والحجاب، وقد تكون (سألني بي)، وهي في هذا المقام: سألني بي لا بنفسه، وهذا هو الشاهد الذي سنقف عنده.
ما الفارق بين أن تسأل مولاك بنفسك، وأن تسأل مولاك بمولاك؟
بين أن تسأل مولاك بقوتك، وأن تسأله بقوته؟
بين أن تسأل مولاك بعلمك، وأن تسأله بعلمه؟
بين أن تسأل مولاك بإرادتك، وأن تسأله بإرادته؟
بين أن تسأل مولاك بك، وأن تسأله به؟...
ودلَّ على هذا قولُه: (كُنْتُ).
ولقد سمعت الشيخ عبد الله سراج الدين رحمة الله عليه يروي الرواية عن والده من إحدى الطرق، فقال:(فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُهُ) أي يسأل بي.
فهذا هو سرُّ العطاء، وسرُّ أولياء الله، فهم يسألون بالله.
يقول ابن عطاء الله السكندري في حكمه العطائية: "مَا تَوَقَّفَ مَطْلَبٌ أَنْتَ طَالِبُهُ بِرَبِّكَ، وَلا تَيَسَّرَ مَطْلَبٌ أَنْتَ طَالِبُهُ بِنَفْسِكَ".
فإذا لم يستشعر العبدُ تمامَ فقره، وتمامَ عجزه، وتمامَ جهله، وتمامَ فاقته، وأنه من غير مولاه صفر.. فكيف يسأل بالله؟
تالله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
ونقرأ في القرآن قول سيدنا شعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ} [هود: 88] فهذا هو الحال المطلوب فيك، وسرُّك ليس فيه إلا هذا.
ففي الظاهر نتعلَّم ونصلي ونقرأ القرآن ونتسابق في الخيرات.. ويثيبنا الحق على هذا، فهذه لغةٌ شرعيَّةٌ تنسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى، ومن عطّلها تزندق، فلا ينبغي أن يُعطَّل الظاهر.
أما في سِرِّك فلا يصح أن ترى استنادًا إلى أحد، ولا يصح أن ترى وجودًا لأحد، ولا يصح أن ترى شيئًا.. لأنَّ الحقيقة المطلقة هي: مولاك هُوَ هُو، هذا هو الحال.
فمن كان في هذا الحال يستشعر أن هذه الشريعةَ التي يقوم بها، وهذه الأعمالَ التي يُوفَّق فيها، هي بإعانة الله، ونحن نقرأ في الصلاة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فلا نُصلّي إلا بإعانته.
هذا الحال يُخرِجُ الإنسانَ عن الدعوى، والتكبُّر، والأنانية.. فيرى فضلَ الله عليه، وأنَّ الله سبحانه وتعالى إذا تفضّل عليه فهذا منه وإليه، فلا يرى له فضلاً على أحد.
هذا هو سِرُّ الصفاء.
وينبغي هنا أن نتنبّه إلى لفظة "وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ" لأنه سألني بي، واستعاذني بي.
قد يقول قائل: أقرب المقرَّبين إلى الحقِّ سبحانه وتعالى هو سيِّدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال له: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] أليس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذا يسأل بالله؟
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] وكذلك ألم يطلب الرُسُلُ عليهم الصلاة والسلام ومنهم سيِّدُنا نوح: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45].
فهنا نرى طلب أحبِّ أحبَّاء الله إليه: رُسُله وأنبيائه، والله يقول: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ}.
فنرد ونقول: إنَّ الحق سبحانه يعطي عطاءً مؤكَّدًا، فلا يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من أولياء الله، إلا والله سبحانه يعطيه، لكنه يعطيه كما يريد هو.
فالعطاء مُحقَّقٌ، وما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمنافقٍ إلا وأُعطي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد لا يُعطى المنافق.
إذًا: "وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ" لكن على مُراد الله، وفي الوقت الذي يريد، وكما يريد.
فالذي يشُكُّ في العطاء يَخْرُجُ من الإسلام، لأن الحقَّ يقول في نص القرآن: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ} [البقرة: 186] فالإجابة محقَّقةٌ عند السؤال، وهي مضمونة، لكنَّ الحق يجيب كما يريد.
فلو أتى طفلٌ إلى عيادة الطبيب، وقال له: ألا تُحبّني؟ فقال الطبيب له: نعم أحبُّك، فقال الطفل: إذًا أعطني ذلك الدواء ذا الشكل الجميل والصورة الحسنة، وقد عَلِم هذا الطبيب أن مرض الطفل لا يتناسب مع هذا الدواء، فهو سيعطيه، لكنْ غير تلك العلبة التي طلبها، لأنه لو أعطاه تلك العلبة فلا يكون قد أكرمه.
فإذا فهمنا هذا نستطيع أن نعلم أن إجابة الحقِّ مُحقَّقَة ومؤكَّدة، لكنه قال: {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] وقال أيضًا: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78].
ومن لطائف ما قال الصوفية: "الصوفيةُ أطفالٌ في حِجْر الحقِّ"، فإذا اختار سبحانه وتعالى لهم شيئًا فهو يختار لهم ما يعلم أن فيه صلاحًا.
فلا ينبغي على الإنسان أن يعتدي في الدعاء، لأن فيه إساءةَ أدب، بل ينبغي عليه أن يلتزم الأدب وهو يدعو، إن كان يدعو بالله.
فإذا دعا الإنسان بنفسه ألا يُعطى؟
نقول: نعم يُعطى، لكن ليس الذي يُعطى وقد سأل بالله، كمن يُعطى وقد سأل بنفسه، فالذي سأل بنفسه يُعطي نفسَه، أي متطلباتها.
لذلك يقول سهل التُستَري رحمة الله عليه ما معناه: "هؤلاء الناس الذين يُكثِرون من الأعمال، ويستزيدون من الأشياء، وقلوبُهم مليئةٌ بهذه الأشياء، فالحق سبحانه وتعالى يُعطيهم، لكن ليس كعطائه من الأذواق والمعاني الخاصَّة".
فهناك اختصاصات.
فمن يسأل بالله يعطيه اللهُ عطاءَ من لا يُحَدُّ عطاؤه، لأنَّ الهدايا على مقدار مهديها.
فإذا سألت بنفسك تُعطى على حسب مقدار نفسك، وإذا سألت به تُعطى بما يتناسب مع فضله وجوده.
لذلك نحن نتململ في الدعاء ونقول: "لا تعاملنا بما نحن أهله، وعاملنا بما أنت أهله".
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]
هذه الأوقات مباركات، فلنُعِدْ فيها الحسابَ، وليكنْ هذا الموسمُ موسمًا خاصًّا، خاصًّا بجدّ، لا مجرَّد كلام.
فينبغي على كل واحد منا أن يُعيد الحساب منذ البداية، لأن هذا الموسم فيه عطاءٌ، وفيه خصوصيةٌ، وفضلٌ، وجودٌ، وارتقاءٌ، وصفاءٌ واصطفاء... فلعلَّه يتخلّص من أكداره عندما يُعيد الحساب، لأنّه بعد قليل سيخرج عن داره، وهذه ليست هي الدار، لأن الدار التي نريد هي: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُوفِّقنا في هذا الموسم المبارك، فشهر رمضان هو الشهر الوحيد المذكور في القرآن، رغم وجود أربعة أشهرٍ حُرُم، لكنه لم يذكر اسم أيٍّ منها، إلا شهر رمضان، لأن كلامَه قد أُنـزل فيه، وأنت أيها الإنسان مخاطَبٌ بهذا الكلام فاسمع، وقل: سمعنا وأطعنا.
فهذه هي خصوصية رمضان، الذي فيه نـزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] أي اقرأ بربك، وفيه نـزل: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]
إذًا، هذا موسم شهر رمضان لا موسمَ عادات، فلننفُذْ إلى أسراره وأنواره، ولا نبقى مع أكدار نفوسنا.
فهو دورة تدريبية عظيمة جدًّا، فلا تفوِّتها، سواءٌ في عِلْمٍ أو عملٍ أو حالٍ أو خُلُقٍ، واجتهد أن تخرج في هذه الدورة بعلاماتِ ناجحٍ بتفوُّق، لا عن استحقاق، لأن أعمالنا لا نستحقُّ عليها نجاحًا ولا تفوُّقًا، لكن إذا بذلتَ الوسع الذي تقدر عليه، ورأى الحقُّ سبحانه وتعالى منك إقبالاً وجهدًا وبذلاً للوسع والطاقة، فإنه سبحانه يقبل التوبة عن عباده، فيتفضل بجوده وكرمه، ويعطي لا عن استحقاقٍ لك، لأنك خرجت عن عملك وحولك، وإذا خرجت عن عملك وحولك وسألته به فهو يعطيك من جوده وفضله، فلا يعطيك ما يقابل عملك، وإنما يعطيك ما يتناسب مع فضله وكرمه.
اللهم أخرجنا عن نفوسنا، ولا توجِّه قلوبنا إلا إليك، والحمد لله رب العالمين. |