بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، اللهمَّ صلِّ على سيِّدِنا محمَّدٍ عبدِك ورسولِك النبيِّ الأمِّيِّ وعلى آله وصحبه وسلِّم.
وصلنا إلى قول صاحب جوهرة التوحيد رحمة الله عليه:
فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا وَجَبَالِلَّهِ والجائِــــزَ والمُمــتَنِعَـــا
عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَدْ وَجَبَاوَمِثْلَ ذا لِرُسْلِهِ فَاسْتَمِعَـــا
وقد ذكرنا أنه من الواجب علينا أن نتعلّم كمالات الله سبحانه وتعالى التي أمرنا أن نتعرّف عليها، وكمالات الرُسُل عليهم الصلاة والسلام، وما يمتنع في حقِّهم.
ولنقف على قوله رحمة الله عليه: (فَاسْتَمِعَا)، وهذا موضوع كبير، لأننا نعيش اليوم في الأمة الإسلامية هذه المشكلة الكبيرة: قضية السمع والاستماع.
فنسمع في كُلِّ جمعة خُطبةَ الجمعة، وربّما في كل يوم نسمع دروسًا كثيرة، تارة في الفقه، وتارة في الحديث، وتارة في العقيدة.. فنلاحظ أن السمع كثيرٌ، بينما الانفعالُ والأَثَرُ التغييريُّ على مستوى السلوك ضعيفٌ.
فهل يمكن أن يكون متناسبًا مقدارُ ما يُسمع مع آثاره على المستوى السلوكي؟
لا أعتقد ذلك، فالذي يُسمَع كثيرٌ، والآثار قليلة.
وهذا موضوع لا بد من التفصيل فيه لأنه قضية كُبرى، لذلك رجعت إلى القرآن الكريم أستقرئ منه قضية السمع، فرأيت أشياء كثيرة، يجب تدارسُها:
أولاً: حالة السمع مع الرفض والعصيان:حيث سَمِع ورَفَضَ وعَصَى.
نقرأ مثالاً على هذه الحالة قوله تعالى لليهود: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} ونجد هنا التهديد، فالجبل مرفوع ويريد أن يهرسهم، ويقول لهم: ستأخذون الكتاب بقوة أم أنكم لن تأخذوه؟
ثم قال: {وَاسْمَعُوا} أي اسمعوا وامتثلوا.. اسمعوا وطبِّقوا.. اسمعوا وتخلَّقوا وتحققوا.. {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93] أي سمعنا وأعلنَّا العصيان، ورفضنا الطاعة.
وهذا هو الواقع الذي نراه كلَّ يوم، ونسمعه في الأخبار... إنه الواقع القديم الجديد، الواقع اليهوديُّ الصهيونيُّ، والذي نرى فيه أبشع الصُّور التي لا صِلة لها بالإنسانية.
قبَّح الله من يخدم الصهيونية، وقبَّح الله أذيالها الذين يخدمونها، لكن دون أن نشعر بهم، ودون أن نعرف أنهم أذنابٌ لها، وأنهم يُنفِّذون ما تمليه عليهم الصهيونية.
وقال سبحانه وهو يخاطب هذه الأمة: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] أي لا تكونوا كالذين قالوا: سمعنا، وعصوا، أي سمعوا وعصوا ورفضوا التنفيذ.
يقول الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة المحمدية: يا أمة حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم، لا تكونوا كاليهود، الذين {قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} فكان قولهم: {سَمِعْنَا} مع رفضهم وعصيانهم.
وقال سبحانه وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20] أي ولا تعرضوا وأنتم ترون هذه الرسالة الإسلامية العظيمة.
فياللعجب من عاقلٍ يستطيع أن يفهم الإسلام والقرآن، وهو مُصِرٌّ على عدم السماع!
فعلى مستوى الاقتصاديين مثلاً، نجد أن آخر الدراسات الاقتصادية، وبعد زمنٍ طويلٍ من استعمال الربا، تثبت الآن أن أكبر أسباب الفشل والتقهقر الاقتصادي هو التراكمات الربَوية التي تحصل على الدول، مما يؤدي إلى ديون وقروض يحصل نتيجتها استعمارٌ وهيمنةٌ، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] فإذا تحدّثنا بالمفهوم الاقتصادي وبالمنطق الملموس، دون أن نتحدث بقضية غيبية، نقول: إذا كانت أموال الغني مُكَدَّسةً، وكان هناك فقراءُ كُثُر، فكيف يمكن للغني أن يبيع ويحرك سِلَعَهُ إذا لم يكن هناك سيولة عند الناس؟
فإذا تصدَّق الغني سيشتري الفقير من عنده، فعادت الصدقات اقتصاديًّا عليهم جميعًا.
تقول نظريات الاقتصاد: إذا لم يكن هناك مالٌ بيد الفقير لكي يشتري، فلن تُباع السلعة، ولن توجد أية حركة اقتصادية.
إذًا: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} لأنهيوجد تراكمية، {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} بسبب تحرُّك هذا المال.
ولم يفرض الله سبحانه وتعالى الزكاة على المال المُتحرِّك، إنما فرضها على المال الجامد، حتى يُعلِّمنا أننا أمةُ حركة.
فأول نوع إذًا: سمعٌ، ولكن معه رفضٌ وعصيانٌ.
ثمّ نجد أن القرآن قبل أن يُحدِّثَنا عن السمع مع الطاعة، الذي من المفروض أن يحصل، يُحدِّثُنا عن سرِّ هذا، فلماذا يسمعون ولا يُطبِّقون؟
إن القرآن لا يقوم بتوصيفٍ ظاهرٍ فقط، إنما يُعالج أصل المشكلة، ويَنْفُذُ إلى أعماقها، إذ نجد في القرآن صيدليةً كبيرةً جدًّا: {وَنُنـزلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82] فليس فقط إذا مَرِض الإنسان نقرأ القرآن عليه ويُشفى، لا، إنما نُنـزل في القرآن شفاءً لكل المشكلات، فلا يوجد مشكلةٌ إلا وفيه شفاءٌ لها، وكلّما مرضَتِ الأمَّةُ وجدت الشفاء في القرآن، لأن المرض ليس فقط المرض الجسمي، إنما أيضًا المرضُ المعنويُّ، والمرضُ الخُلُقيُّ.. قال سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] فهل معنى ذلك وجودُ تضيُّقٍ في الشرايين الإكليلية للقلب، وهي بحاجة إلى توسيعٍ وقثطرة؟
لا، فالآية تشير إلى أن أخلاقَ قلوبهم سيئةٌ، وأنه لا يوجد في قلوبهم أنوار، فهم يعانون من الحسد والحقد والكذب والبغضاء والعداوة... وهذه هي الأمراض المعنوية.
إذًا: نجد أن القرآن يُقرِّر وجود المرض المعنويِّ، وهو (أي القرآن) شفاءٌ لهذا المرض المعنويِّ، وهنا نجد المعالجة، ونجد توضيح سِرِّ عدم الاستجابة.
يقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]
قد يقول قائل: هذا الكافرُ المُعرِضُ الفاسِقُ المكابِرُ المُجرِمُ قد سَمِع، والله يقول: {لَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا}، فما تعليل هذا؟
نقول: دخل الصوت إلى أذنه، لكنه ما سمع.
فإذا دخل الصوت إلى الأذن، وطرق طبلة الأذن، ووصل التنبيه إلى العصب السمعي فالدماغ، فقد فَهِم الدماغ الكلمات ودلالاتها الظاهرة، فإذا وصل إلى القلب فقد سَمِع، وإذا لم يصل بَقِي في الآذان.
إذًا: يصل الصوت من الآذان إلى الدماغ، وذلك من الصيوان، إلى مجرى السمع، إلى الأذن الوسطى، فالأذن الداخلية والدهليز حتى العصب السمعي فالمركز السمعي في الدماغ.
فإذا وصل إلى القلب الروحاني، يكون قد دخل إلى الآذان ثم سَمِع، وهذا توصيفٌ عجيب.
فهذا إخبارٌ قرآنيٌّ أن مركزَ السمعِ الروحانيِّ الحقيقيِّ هو في القلب.
فالذي يدرس الطِبَّ الظاهرَ الآن، يتعلم أن المركز السمعي يكون في الدماغ، فالعصب السمعي هو الطريق إلى مركز السمع، والعصب البصري هو الطريق إلى المركز البصري، وبالتالي فالمركز البصري هو النهاية، والمركز السمعي هو النهاية.
بينما يُقرِّر القرآن الكريم أن المركز السمعي الحقيقي هو في القلب، فالله هو الذي أخبرنا في القرآن بذلك، وهو الذي خلق الإنسان.
فإذا قالت شركة من شركات السيارات المشهورة: إن مركز هذه السيارة هو الحاسوب، فأتى شخص وقال: لا، بل مركزها هو المُحرِّك، فقد رأيت أنه هو الذي يدور وبالتالي فهو المركز، والمُصمِّم يقول: إن مركزها هو الحاسوب، فهذا الشخص ليس أفهم من الذي صنع وصمم السيارة.
وكذلك فالذي صنع الإنسان يُقرِّر أن المركز الذي يسمى اليوم في الطب مركزًا بصريًّا هو طريقٌ أيضًا، وليس بمركز، وعلينا بالبحث حتى نصِل لذلك.
وعلى مستوى البحث الطبي نقول: يأخذ الجسم كله أوامره من الدماغ، عدا القلب، فقالوا: حركته ذاتية.
وهذه أغبى كلمة يمكن أن تُقال، لأنه في قوانين الفيزياء لا يوجد حركة إلا بمحرِّك، ولا يصدِّق أحدٌ أن تتحرك كأسٌ مثلاً دون أن يدفعها أحد، فالقلب كذلك لا بد له من محرِّك، ولا يقوم على مبدأ الحركة الذاتية.
وكذلك فإن أكثر الأمراض التي يعجز الطب عن إيجاد سببها، تُردُّ إلى المناعة الذاتية.
وداخل القلب هناك أشياء كثيرة لا يعرف أحد وظيفتها حتى الآن، فيوجد فيه عُقد عصبية، لا أحد يعرف عنها شيئًا، وليس لها علاقة مع الدماغ.
وأنت أيها الإنسان تبحث في منهج تجريبي، فقد تصل وقد لا تصل، وقد تفهم وقد لا تفهم.
وفي يوم من الأيام، في الأربعينات أو الخمسينات من القرن العشرين، كان يُدرَّس في كتب الجغرافيا في سوريا، أن الشمس ثابتة، والله يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} [يس:38] فمن أصْدَق: العالم والمجرِّب الفلكي الذي يقول: إن الشمس ثابتة، أم الذي خلق الكون كلَّه وقال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي}؟
وبعد عدة سنوات صدر تعميمٌ بحذف هذه العبارة، لأنه ثبت أن الشمس تجري.
فالذي خلق الكون قال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي}، فسواء قلتَ ذلك أم لم تقل، من أنت؟ فأنت قد تفهم أو لا تفهم، وقد تصل إلى الحقيقة أو لا تصل، لكن عليك أن تبحث.
فالقرآن يقرِّر أن مركزَ السمع ومركزَ البصر في القلب، والطب إلى الآن وصل إلى الدماغ ولم يستطع الوصول إلى أكثر من ذلك.
ثم إن سرَّ الروح لم يعرف الطبُّ عنه شيئًا، ونجد في كتب البيولوجيا التي تُدرَّس في الجامعة أن الحياة هي عملية ميكانيكية، وأنها تفاعلات كيماوية، فلو استطاع الإنسان فهم واكتشاف هذه التفاعلات لقال: نحن نحيي ونميت، وهذا لأن المادية مُصرَّة على إنكار الروح.
والذي خلق الكون قال: يا أيها المخلوق، أنا خلقت عالم المادة وعالم الروح، وعالم الملك وعالم الملكوت، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، وقال: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83].
لذلك نجد في القرآن: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} فالقلب كما يقرِّر القرآن له وظيفة الفهم، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} مع أنهم أبصروا الصور، وانطبعت في الشبكية، وانتقلت عبر العصب البصري، ثم تحللت في الدماغ، لكنهم لا يبصرون، لأنها لم تصل إلى محلِّ الفقه والفهم الذي هو القلب، {وَلَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} فكذلك لم تصل إلى محل الفقه والفهم الذي هو القلب.
ثم قال: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} إذًا يوجد سرٌّ خاصٌّ في الإنسان هو سرُّ قلبه، ولما فُقِد هذا السرُّ تساوى مع الأنعام، لكنه أضلُّ لأنه يملك نفسًا وعقلاً يتساعدان على إيجاد الشرور، بينما لا تستطيع الأنعام فعلَ هذا، فهو كالأنعام من جهة، وهو أضلُّ من حيث النتيجة.
ثم إن الإنسان الذي فجر قنبلة هيروشيما هو الذي أنتج هذه الشرور، فلو أحضرنا فيلاً ونمرًا وهرَّةً وجمعنا كل وحوش الأرض والقطط والحشرات والبعوض... وقلنا لهم: اصنعوا لنا معملاً لإنتاج قنبلةً ذريةً، فهل يستطيعون فعل شيء من هذا؟
لا، أما الإنسان فقد استطاع أن يصنع قنبلة ذرِّية ويخرّب الدنيا كلَّها، ويخرّب الغابات، ويهلك الحرث والنسل، وبالتالي فهو أضلُّ.
ثم قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] فهؤلاء الذين لم تصل إلى قلوبهم هذه المعاني هم الغافلون.
ولنقرأ بعض آيات القرآن في شرح معنى الغافلين:
- قال سبحانه: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} يشير القرآن إلى وجود حاجز، فالماء يأتي لكنه يجد سدًّا يمنعه من الوصول {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101] فلا يستطيع السمع، لأن السمع لا يصل إلى مركزه لوجود الحاجز.
فهناك ساقية، وفيها ماء يسقي النبات {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] لكن هناك سدٌّ بناه الغافل حتى لا يصل الماء إلى مكان النبتة، وهذه النبتة جعلها الله سبحانه وتعالى في كل قلب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] فالكلمة الطيبة التي هي الشجرة هي: لا إله إلا الله.
فهذا النهر يأتي من القرآن الكريم والهدي والأنوار ليسقي الشجرة حتى تكون {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24] فلما وَضَعَ هذا السدَّ بين الأذن وقلبه، وبين العين وقلبه، ولم يسقِ هذه النبتة الموجودة في كل إنسان، لم يظهر لها أثر.
- وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] فالذي يتكلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم،وهو أكمل الناس في القول والفعل والحال، وهو محبوبٌ وذو صوتٍ جميلٍ ووجهٍ حسن، فهو أجمل مَنْ خَلَقَ اللهُ، وأجمل من سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام، لأن سيدنا يوسف أعطي شطر الحسن، أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد أعطي الحسن كله، لكن الناس افتتنوا بيوسف عليه الصلاة والسلام، وما سمعنا بنساء قطَّعْنَ أيديَهنَّ لمّا رأوا سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن رسول الله أُعطي جمالاً يكسوه جلالٌ، فلما كُسي الجمالُ بالجلال غطَّت الهيبةُ الحسنَ، فحصل عند ذلك إجلالٌ مع عشقٍ، أما في حقِّ سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام فقد حصل عشقٌ من غير إجلال.
ورحم الله من قال:
لواحي زليخه لو رأيْنَ جبينَه
لآثرْنَ بالقطعِ القلوبَ على الأيدي
لواحي زليخة أي امرأة العزيز، لو رأين جبينه أي لو شاهدن جبين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي.
إذًا، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] فالدروس، والوعظ، والخطبة، والكلمة.. تُسمَعُ من سيِّدِنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أعظمِ مخلوق، وأعظمِ فصيح، والوُعَّاظُ والدعاةُ لا يشكلون شيئًا أمام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، لكنْ: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25] فهناك حاجزٌ وسدٌّ، فوجودُ هذا السدِّ مَنَعَ فهمَهم، فَهُمْ يسمعون من رسول الله عليه الصلاة والسلام لكنهم لا يفهمون، فالدماغ يسمع ويحلل لكن دون الوصول إلى القلب.
قد يقول قائل: الله هو الذي وضع الحاجز، وهو الذي لا يريد أن يفهم هؤلاء، حيث قال: {وَجَعَلْنَا} أي وضعنا حاجزًا بين القلوب والأسماع والآذان.
نقول: لا بد أن نُفرِّق بين خلق الله لكلِّ شيء، وهذا منه، وبين فعل الإنسان، فالإنسان هو الذي سبَّبَ هذا الحاجز، وهو الذي بناه.
فإن قال: كيف بنيته؟ وأين؟
يقول تعالى له: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]
ورد في الحديث أن الإنسان عندما يفعل الذنب تحصل في القلب نُكتة، أي نقطة سوداء، فيأتي الذنب الثاني فتتشكل نقطة ثانية، ثم يأتي الذنب الثالث وهكذا... حتى يتكون الحاجز.
وقال سبحانه في موطن آخر: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]
فهل الله هو الذي قفله؟
وأنت يا مسكين تُقبِلُ على الله في الليل والنهار، وتحاول أن تقرأ وتفهم القرآن، وتلازم الصلوات، وتصلي صلاة الفجر في جماعة.. وبعد هذا يقفل الله سبحانه وتعالى على قلبك؟
لا، بل أنت أيها الإنسان الذي صنع هذا القفل، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]
ثم يقف أمام شهوات النفس ويعطيها ما تريد، وتأتي الرعونات والذنوب والمخالفات، فيمسي آخر النهار ونفسه متَّسخة، وهي بحاجة إلى أن ينظفها ويغسلها..
إذًا، هذا هو السرُّ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] فهو يسمع، لكنْ لا يصل إلى مركز السمع الذي هو القلب.
فقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} هو من حيث {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] لكنك أنت الذي عملت بيدك: {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
فإياك أن تقرأ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] وتقول: لا علاقة لي، أو تقرأ {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [النحل: 108] دون أن تقرأ: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
إذًا، أنت أوجدت هذا الغطاء بما كسبت يدك {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101].
فهذا هو سرُّ الحاجز، وسرُّ السدِّ الذي منع تدفُّقَ المياه إلى النبتة الموجودة عندك.
ثم ذكر القرآن الكريم حالاتٍ وَصَفَ فيها الإنسان، فالإنسان عليه أن يلتزم العبودية وأن يقف عند حدِّه، فأنت حدُّك عبد، والسيِّد هو الله، فالزم حدَّك، لأن هذا مستواك، قال تعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] فوصف كلَّ المخلوقات بالعبيد.
ونحن نعاني حين نترجم للغربيين، فهم لا يقبلون أن نصف الإنسان بأنه عبد Slave، ولا حتى عبد لله، فكانوا يترجمونها: خادم Servant، محتجين بأنها صورة قبيحة من التمييز العنصري.
وهذه خلفية ثقافية فاسدة عندهم، لكنهم عبيد، ويا ليتهم مثل ذاك العبد (الرقيق)، فهم لا يملكون شيئًا، بينما ذاك العبد قد يملك، وهم أمام مولاهم وأمام ربهم لا يساوون شيئًا.
فإذا قال الله لأكملِ الناس خلقًا ووصفًا، وأكملهم جسمًا وعقلاً: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128].
وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1].
وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19].
أفأنت تتكبَّر أن تكون عبدًا لله؟
وهذا من كثرة ما قيل عن الحرية، حتى أصبح يرفض أن يكون عبدًا لله.
إن حريتك هي في المساحة التي أعطاك الله إيَّاها فقط، لأنك لا تعرف مصلحتك.
فإذا قلتَ للطفل الصغير: لديك حرية كاملة، أي كل ما يريد الطفل الصغير يحصل عليه، إذًا دع ابنك يقترب من صيدلية البيت، هل تتركه؟
لماذا تمنعه أن يمد يده إلى الصيدلية؟
سيكون الجواب: لأنه قد يتناول دواءً يتسمم به أو يميته.
إذًا، فأين الحرية؟
أين حرية الطفل، وحرية المرأة، وحرية...؟
إذًا، تنتهي الحرية عندما يبدأ الضرر.
والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقنا ونحن له عبيد، فأحسَنَ إلينا وتفضَّل علينا، فبيَّن لنا المساحة الكبيرة الواسعة التي يمكن أن نتحرك فيها، فخلق لنا الأرض، وبيَّن لنا بعض الأشياء، وحرَّم علينا بعضها الآخر التي تؤذينا وتضرُّنا، ودلَّنا على الطريق، وقال: أَهديكم وأُبيِّنُ لكم، لأنكم لا تعرفون مصلحتكم، ثم أمرنا أن نتفكر، وأعطانا مساحةً كبيرةً لنصل في كلِّ زمنٍ من خلال قواعد، ومن خلال أصول، فلم يقل: أطفئ سراج عقلك واتبعني، إنما قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] أي أفكر.
فهذا سرُّ عدم الاستجابة.
ثم يصف القرآن حالاتٍ يسمع الإنسان فيها كلام الله ويستهتر ويستخف به.
فمثلاً: إذا جاء مدير المصنع وقال للصانع: اعمل على هذه الآلة، فقال له: لا أريد.
وصانعٌ آخر سمع فقال للمدير: وتتكلم معي أيضًا؟ ما هذا الكلام الذي تتكلمه معي؟ اذهب وتعلم الكلام وتعلم كيف تتكلم معي.
وصانعٌ آخر سمع وحرَّف الكلام، فقال المدير له: اعمل على هذه الآلة، فقال الصانع: سأعمل على الآلة الأخرى مخالفًا للمدير لأنه قال هذا، فهذا يسمى تحريفًا وكذبًا.
وصانعٌ آخر جاءه المدير وقال له: اعمل على الآلة، فقال له: هذا ليس بمصنعك فهو مصنعي، واخرج منه.
ولنستعرض هذه الحالات التي وصفها القرآن:
النوع الأول: سمعٌ مع استهتار واستخفاف:
قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] فالقرآن الذي قال الله فيه: {لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] وأنت أيها الإنسان تسمعه وأنت تلعب، فالجبل أفضل منك بكثير.
وقال سبحانه: {وَقَدْ نـزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} أي إذا وجدْتَ من يسمع كلام الله ويستهزئ به، ويسمع عن الإسلام ويستهزئ به، فلا تقل: هذه نكتة، وهذا من المزاح، لأنك إن فعلت هذا أصبحت مجرمًا مثله، {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] فالذي نافق والذي كفر يكونون معًا يوم القيامة، فهذا استهزأ، وهذا نافق له.
النوع الثاني: سمع واستكبار:
كما إذا تكلم شخصٌ ما معك وأنت ترى أنه أقلُّ من أن تلتفت إليه، فقد قال القرآن في مثل تلك الحالة: {يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} وكأنه لا أحدَ يتكلم معه، رغم أن الذي يكلمه هو ربُّ العالمين، ولو أن طفلاً صغيرًا تكلم معك فإنك تلتفت إليه، فالذي يكلمك ربُّ العالمين، ثم قال: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 8].
النوع الثالث: سمع مع التحريف والكذب:
قال سبحانه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَه} [البقرة: 75] وقال: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181].
النوع الرابع: سمع وبعده تتولد عداوة:
قال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} أي القرآن، {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] فأنت تتكلم معه وتعظه وكأنه يريد أن يأكلك، ويريد أن يسلط عليك كل ما لديه.
النوع الخامس: سمع مع معركة على المسموع:
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] فكلما سمعتم أحدًا يتكلم عن الإسلام، ويتكلم من القرآن، فاذهبوا وعاكسوه، وتكلموا كلامًا معاكسًا، ولا تدعوا أحدًا يسمع، فهي إعلان معركة.
وهذا كلام مَن؟
إنه كلام الله.
وقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31]
ثم بعد ذلك ننتقل إلى الحالة الثانية التي هي: الاستماع مع الطاعة والامتثال والإيمان.
وهذا لا بد له من تفصيل، وقد فصلنا فيما سبق عن السمع مع الرفض والعصيان، وسرِّ ذلك، وسبب ذلك، وتوصيف الحالات.
فإن أكرمنا الله سبحانه سندرس ما جاء في القرآن عن الحالة الثانية، التي سمعَ فيها وتفكَّرَ وتدبَّرَ ولم يبقِ بين أذنه وقلبه حاجزًا ولا غطاءً، وكيف الطريق إلى ذلك؟ وكيف يمكن أن نصبح ممن يسمع ويقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]؟
هذا الصنف الذي سمع فتدبَّر وفَهِمَ وآمَنَ وأقبلَ وصار نموذجًا، لأنه استفاد من هدية الله، واستفاد من كلام الله، ومن كلام سيده، فوظّف ما استفاد في سلوكه.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين. |