عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم أَخَذَ سَيْفًا يَومَ أُحُدٍ، فَقَالَ:
مَنْ يَأخُذُ منِّي هَذَا؟ فَبَسطُوا أيدِيَهُمْ، كُلُّ إنسَانٍ مِنْهُمْ يقُولُ: أَنَا أَنَا، قَالَ: فَمَنْ يَأخُذُهُ بحَقِّه؟ فَأَحْجَمَ القَومُ، فَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنا آخُذُهُ بِحَقِّهِ، فَأَخَذَهُ فَفَلقَ بِهِ هَامَ المُشْرِكِينَ. /رواه مسلم.
اسم أبي دجانةَ: سماك بن خَرَشة، قوله: "أحجَمَ القَومُ": أي توقفوا، وَفَلَقَ بِهِ: أي شقَّ، هَامَ المُشرِكينَ: أي رُؤُوسَهم.
الحديث مليء بالمعاني، وتلمع وتطلع منه الإشارات الكثيرة، لكننا نأخذ بعضًا من قوت القلوب, لأن القلوب لا تشبع من الأنوار، ولا ترتوي من راح الأسرار.
فهذا الحديث فيه معنى من الحقيقة ومعنى من الشريعة.
قال أهل الله رضي الله عنهم: "الصوفي لا يسأل, وإذا أعطي لا يَرُدُّ", والأصحاب رضي الله تعالى عنهم هم سادة الصوفيَّة وسادة أهل الفهم، وكلُّهم على هذا المشرب، يفهمون أنَّ من الأدب أن لا يُردَّ العطاءُ، لأنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم عرض عليهم عطاء مطلقًا، وكلُّهم علموا أنَّ من الأدب مع الله تعالى أن يأخذوا ما أعطوا.
وهم يعلمون ما الغرض من السيف، فيعلمون وهم في غزوة أُحُد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعطيهم السيف ليضعوه على الجدران، ولا ليزيِّنوا به صدورهم وأحزمتهم، بل يعلمون أن هذا العطاء فيه تكليف، والتكليف فيه ظاهر، فالسيف يؤخذ ليُستعمل في الجهاد في سبيل الله, وهنا الموطن موطن جهاد في غزوة أحد.
فما أحد من الأصحاب رضي الله عنهم توهَّم انفصالاً بين هذا العطاء الذي هو فيضٌ من الحقيقة, والتكليف الذي هو توظيف هذا السيف، ما أحدٌ منهم شكَّ أبدًا أن مع هذا العطاء تكليفًا.
لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قيَّد هذا العطاء بقولٍ يفهمه أهل الفهم - وكلُّهم أصحابُ فهمٍ - فقال:
فَمَنْ يَأخُذُهُ بحَقِّه؟ أي من يبلغ به أقصى ما يستطيع من التكليف وأعلى درجات التكليف؟
فلما علموا هذا أحجموا, لذلك قال: فَأَحْجَمَ القَومُ.
وهناك فارق كبير بين أن تأخذ المال، وهو عطاء من الله سبحانه وتعالى وفضل، وبين أن تبلغ بهذا العطاء أعلى درجات التكليف فلا تستعمل ذرَّةً منه إلا في أعلى درجات الاختيار.
فإذا أعطي قوَّةً فهذا عطاء من الله سبحانه وتعالى، والقيام بحقِّ هذا العطاء أن يوظفه في أعلى درجات التكليف.
وإذا أعطي وقتًا فهذا عطاء من الله سبحانه وتعالى وفضل، وكلُّنا يأخذ من هذا العطاء، لكن هذا العطاء ينبغي أن يكون مقيَّدًا بحقِّه وهو أن يصرف هذا الوقت في أعلى درجات التكليف.
وكذلك إذا أعطي علمًا، أو جاهًا، أو صحبةً، أو فهمًا، أو خبرةً، أو صنعةً، أو قدرةً ... فإنه يأخذ ذلك كلَّه، ولكي يكون بحقِّه فعليه أن يستعمل هذا العطاء في أعلى درجات التكليف.
لهذا أحجموا، وما أحجموا تكاسلاً ولا تخذيلاًً، لكنَّ كلَّ واحد منهم ظنَّ من نفسه أنها لن ترتقيَ إلى أعلى درجات التكليف، فقد يُقصِّر وهو يأخذ هذا العطاء، ولذلك أحجموا.
لكنّ أحد الأصحاب فهم أن هذا العطاء عظيمٌ، وأنَّه موفَّقٌ إن شاء الله في استعماله في أعلى درجات التكليف، فأخذه.
ثم نلاحظ أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال لهم:
مَنْ يَأخُذُ منِّي هَذَا؟مع أن العطاء هو من الحقّ.
لذلك أحجموا كلُّهم، لأن الأمر بالنسبة لهم مشهد، إنه وارد الحقيقة ويأتي من الواسطة العظمى، سيِّدِ الوجود، والسببِ في كلِّ موجود صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا، فالذي يكون ذاكرًا لله سبحانه وتعالى، ذائقًا سرُّه الاستغراقَ في التوحيد، فإنه يشهد فيض العطاء من الحقيقة مع التكليف الشرعيِّ.
وأهلُ الطريق أكرمهم الله سبحانه وتعالى فكانوا موصولين بالواسطة العظمى صلى الله عليه وسلم، فبعضهم موصولٌ بالواسطة العظمى عن طريق القمر الصِدِّيق أبي بكرٍ رضي الله تعالى عنه، وبعضهم عن طريق البدر المنير سيِّدِنا عليٍّ رضي الله تعالى عنهم جميعًا.
فكلُّ من دخل في هذا الطريق بمقدار ما يتمكَّنُ قلبُه في التوحيد بمقدار ما يكون راسخَ القدم في التكليف الشرعيِّ.
إذًا، هذا الحديث ظاهره واضح، يدلُّ على فضل سيِّدِنا أبي دجانة، وأن سيِّدَنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان لا يضع الشيء إلا في محلِّه.
فالحكمة من ظاهر الحديث عظيمة، فلا ينبغي أن يُوضَع السببُ إلا في محلِّه، فإذا وضع في غير محله فقد ضُيِّع.
فكلُّ من وضع مالاً في غير محلِّه فقد ضيَّعه..
وكلُّ من وضع وقتًا في غير محلِّه فقد ضيَّعه..
وكلُّ من وضع علمًا في غير محلِّه فقد ضيَّعه..
ومن هنا قال الشافعي رحمة الله عليه:
لَعَمْرِي لَئِنْ ضُيِّعْتُ في شَرِّ بَلْدَةٍ لَئِنْ سَهَّلَ اللَّهُ العَزِيزُ بِلُطْفِـــــهِ بثثْتُ مُفِيدًا واسْتَفَدْتُ وِدَادَهُــــمْ وَمَنْ مَنَحَ الجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَــــــهُ
فَلَسْتُ مُضِيعًا فِيهِمُ غُرَرَ الكَلِمْوَصَادَفْتُ أَهْلاً لِلْعُلُومِ ولِلْحِكَـمْ وَإِلاَّ فَمَكْنُونٌ لَدَيَّ وَمُكْتَتَـــــــمْوَمَنْ مَنَعَ المسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَــمْ
إذًا، الحديث في ظاهره حديثٌ عظيمٌ، فيه الحثُّ على الجهاد، وفيه الترغيب في المبادرة إلى الخيرات، ونشهد فيه مسارعة الأصحاب رضي الله تعالى عنهم إلى تنفيذ الأمر، وإقبالَهم جميعًا على تلبية أمره صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وفيه فضلُ المختصِّ الذي اختصَّه الله سبحانه وتعالى وأكرمه فكان المستحِقَّ.
ومما دلَّ على استحقاقه وفضله وقيامه بما أُمر به أنه فلق بالسيف هامَ المشركين، وما فلق به هام المشركين بغيًا ولا عدوانًا إنما جهادًا وإعلاءً لكلمة الله.
فلو أن هذا الرأس وعى وفهم وتفكَّر ولم يستسلم لهوى النفس وجحودها ومكابرتها لحُفظ.
وعلى كلٍّ فقد خصَّ الله سبحانه وتعالى جزيرة العرب بخصوصية، وهي أن لا يؤخذ من وثنيٍّ عهدٌ، ولا يصالَح.
ولما خرج الأصحاب خارج الجزيرة العربية قبلوا المصالحة حتى من الوثني.
وصالح سيِّدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ أبى الدخول في الإسلام من أهل الكتاب، حيث عرض عليهم الإسلام، فلما أحجموا صالحهم وأخذ منهم الجزية.
أما خارج هذه البلاد ذات الخصوصية فقد اتسع الأمر.
فكانت الخصوصية لمحو الوثنية من جزيرة العرب مما اختصَّ به المولى سبحانه وتعالى هذه البقعة المباركة، التي فيها أمُّ القرى، وفيها مدينةُ سيِّدِنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا قرأنا هذا الحديث ولم نـزن قلوبنا عليه، ولم نـزن نفوسنا وسلوكنا عليه، لا نستفيد، لأنَّ أحاديث سيِّدِنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تأتينا ممَّن رووها رضي الله عنهم، مفصلين أقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، حتى نتأسَّى ونعتبر، ولكي يخاطب كلٌّ منا نفسه ويقول: أين أنا من القيام بالتكليف؟ وكم أعطاني الحق؟
فعلى كلِّ واحدٍ منَّا أن ينظر إلى ما أعطاه الحقُّ، فقد يتميز شخصٌ بمال، وقد يتميز آخر بعلم، وآخر بلغة، وآخر بصحة، وآخر بجاه ...
فكلٌّ منا خصَّه الحقُّ سبحانه وتعالى بشيءٍ يتميَّز به.
لذلك أشار سيِّدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مزيَّة بعض الأصحاب عندما قال: (أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ، وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ، وَأَقْرَؤُكُمْ أُبَيّ)، وهذه المزايا موجودة في كل زمان.
فعلى الإنسان أن يفهم أن الله سبحانه وتعالى خصّه بشيء تميَّز به عن غيره، وخصَّ غيره بشيء تميَّز به عنه.
فكلُّ واحدٍ تميَّز بشيءٍ، لكن هذا الذي تميَّز به والذي هو عطيَّةٌ من الله سبحانه وتعالى، ماذا عن التكليف فيه؟
هذا هو السؤال الذي على كلِّ واحدٍ منا أن يسأله لنفسه وقد سمع هذا الحديث، ويحاسب نفسه عليه.
ماذا فعلتُ أمام هذا العطاء الذي أعطانيه الحقُّ سبحانه وتعالى؟
وأين أنا من القيام بحقِّه؟
فإن لم أقم بحقِّه، أين أنا من التكليف فيه؟
وكم حقَّقتُ من التكليف فيه؟
فإذا استفدنا من هذا الحديث هذا الدرس الخاصَّ الذي نسأل به أنفسنا، فإنه درس عظيم يكفينا العمر كله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمُنَّ علينا بصفاء معرفته، وأن يقطع عن قلوبنا علائق الأغيار، وأن يرزقنا الاستقامة على منهاج شريعة حبيبه صلى الله عليه وسلم، والحمد لله ربِّ العالمين. |