بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، اللهمَّ صلِّ على سيِّدِنا محمَّدٍ عبدِك ورسولِك النبيِّ الأمِّيِّ وعلى آله وصحبه وسلِّم.
وصلنا في جوهرة التوحيد إلى قول الناظم رحمة الله عليه:
فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا وَجَبَا.......عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَدْ وَجَبَا
لِلَّهِ والجائِزَ والمُمتَنِـــــــــــــعَا.......وَمِثــــْلَ ذا لِرُسْلــــــــــِهِ فَاسْتَـمِعَا
وقلنا: لا بد للدخول إلى هذا العلم من امتلاك مفتاحه، ومفتاحُه اصطلاحُه، فإذا لم نتمكن من معرفة اصطلاحه لا نستطيع فيما بعد أن نتعامل معه.
فكما أننا حينما ندرس علم الفقه لا بد لنا من تصوُّر معنى الشرط والركن ومعنى الصحيح والفاسد ... كذلك فإن من أبجديات هذا العلم معرفةَ أقسام الحكم العقليِّ.
ونلخص بسرعة ما مرَّ سابقًا فنقول:
عندما نقول: "جامع" فهذا تصوُّر، وعندما نقول: "مدرسة" فهذا تصوُّر، أي لدينا تصوُّرٌ عن هذا الشيء، وهذا التصوُّر لا توجد بينه وبين شيء آخر أيَّةُ رابطة.
لكن عندما ننتقل من البسيط إلى المركَّب نحصل على الحكم، ونلاحظ في الحكم وجود ارتباط بين أمرين، وهذا الارتباط إما أن يكون إثباتًا أو أن يكون نفيًا.
وقد مرَّت معنا أمثلة كثيرة لكننا نوجز ونختصر للتذكير:
- عندما نقول على سبيل المثال: "الجامعُ جميلٌ" فهذا حُكْمٌ، فلولا تصوُّرنا عن الجمال وعن الجامع لَمَا استطعنا أن نربط بين الأمرين بحكم.
- وعندما نقول: "المدرسة متخلِّفة" فهذا حُكْمٌ، فلولا تصوُّرنا عن التخلُّف وعن المدرسة لما استطعنا أن نربط بين التصوُّرين لتكوين حكم.
والتخلُّف يعني التأخُّر عن الركب الذين ساروا في طريق العلم وعدم اللحاق بهم، لكن هناك مدارس متقهقرة، أي ترجع إلى الوراء.
فلا بد أيضًا أن يكون لدينا تصوُّرٌ عن معنى التقهقر ومعنى التخلف ومعنى التقدُّم، حتى يكون لدينا حُكْمٌ، لأن الحكم هو فرعٌ عن التصوُّر.
- وعندما نقول: "هذه المدرسة ليست متخلِّفة" فهذا حُكْمٌ أيضًا، لأننا ربطنا بين تصوُّرين بنفي.
ففي الحُكم إما أن نربط بين التصوُّرين بإثبات أو بنفي.
ونلاحظ في التصوُّر عدم وجود ارتباط بين شيء وآخر، أما في الحكم فهناك ارتباط بين تصوُّرين بإثبات أو بنفي، فالحكم مركَّب من أكثر من تصوُّر.
* فإذا كان الحاكم بالإثبات أو النفي الشارع سبحانه وتعالى فهو حُكْمٌ شرعيٌّ.
* وإذا كان الحاكم بالإثبات أو النفي التجربة أو التكرار فهو حُكْمٌ عاديٌّ.
* وإذا كان الحاكم بالإثبات أو النفي العقل المجرَّد، لا الوضع من الشارع سبحانه ولا التجربة والتكرار، فهو حُكْمٌ عقليٌّ.
وقد أتينا من القرآن ببعض الأمثلة، نعيدها للتذكير باختصار:
أ- أمثلة عن الحكم الشرعيِّ:
1- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ونلاحظ هنا وجود تصوُّرين هما: الصيام والوجوب، وهذه الرابطة الإثباتية بينهما شكَّلت بهذا المركَّب حكمًا، لكنَّ هذا الحكمَ شرعيٌّ.
فقد ربطنا بين تصوُّرين:
أ- تصوَّرْنا معنى الوجوب أو الواجب، أي أن الله سبحانه وتعالى يثيب فاعله ويعاقب تاركه، فمن صام يثيـبه الله سبحانه وتعالى، ومن ترك صيام فريضة رمضان مع القدرة والاستطاعة يعاقبه، فمن خلال هذا التوضيح فهمنا التصوُّر عن الوجوب.
ب- ولا بد أن نفهم أيضًا معنى الصيام، وأنه الامتناع عن الطعام والشراب والجماع وما هو معلوم في فريضة الصيام.
فبعد هذا الفهم نربط بينهما، فيكون لدينا حُكمٌ، وهو: صيامُ شهر رمضان واجبٌ، فهناك تصوُّران ورابطة بينهما بإثبات، وهذا الحكمُ شرعيٌّ، لأن الذي أوجب هذا الإثبات إنما هو الشارع سبحانه.
2- قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187] فهناك رابطة بين الرفث الذي هو مباشرة الزوجة، وبين التحريم، والرابط بينهما نفي، أي ليس الرفث بمحرَّم في ليلة الصيام، لكنه محرَّم في نهاره.
فلا بد أن يكون لدينا تصوُّرٌ عن معنى الرفث وعن معنى التحريم، وعندما تمَّ الربطُ بينهما بنفي فهمنا معنى الحكم: ليس الرفثُ بمحرَّمٍ في ليلة الصيام، وهذا الحكم شرعيٌّ.
ب- مثال عن الحكم العاديِّ:
- قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي ثيابًا خاصَّةً للوقاية من الحرِّ {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] وهي الدروع.
ونحن لدينا تصوُّرٌ عن الدرع الذي هو اللباس الواقي والذي يحمي الجسد من الجراح، ولدينا تصوُّرٌ عن الوقاية التي هي الحماية والمنع، فلما وُجِدَ بين التصوُّرين رابطٌ بإثبات تكوَّن لدينا حكمٌ, والتجربة والتكرار هي التي أعطت هذا الحكم.
فالحكم على هذا الثوب بأنه واقٍ أو لا, حصل بالتجربة والتكرار, لذلك فهذا الحكم عاديٌّ.
- والأمثلة على الحكم العاديِّ كثيرة:
فنحن في حياتنا عندما نقول: المكيِّف يبرِّد تبريدًا جيِّدًا، فهذا نوع من الحكم العاديِّ، لأن الذي حَكَمَ عليه إنما هو التجربة والعادة، ومثل هذا في الأدوية، وفي الأطعمة ...
فمثلاً نقول: هذا الطعام خفيف على المعدة، وهذا مناسب للمريض، وهذا غير مناسب ... فعندما يقول المريض: عندي آلام في بطني، نقول له: ماذا أكلت؟ فيقول: طعامًا فيه شيء من الدسم و ... فنقول: هذا الطعام يسبب شيئًا من عسر الهضم، وخاصَّةً إذا كان متراكمًا، أما إذا قال: تناولت حساءً من الخضار، فنقول: هذا الطعام لا يسبب تلك الآلام، فابحث عن سبب آخر.
وهذا كلُّه عرفناه بالتجربة والعادة والتكرار، فهذا أيضًا نموذج من الحكم العاديِّ.
ج- مثال عن الحكم العقليِّ:
الحكم العقلي يستند إليه عِلم التوحيد، إذ أدلة علم التوحيد نقليَّة وعقليَّة:
- نقليَّة: أي: قال اللهُ، وقال رسولُه.
- وأما الحكمُ العقليُّ فهو دليلٌ آخر.
وعند أهل السنة والجماعة: النقلُ مقدَّمٌ على العقل، والعقلُ خادمٌ للنقل، خلافًا للمعتزلة الذين جعلوا العقلَ مقدَّمًا على النقل.
والمثال عليه قوله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] وجسم الجمل أكبر من ثقب الإبرة، والأكبر لا يمكن دخوله في الأصغر، فالإنسان دون أن يكون لديه أي تجربة أو عادة ولا سمع بحكمٍ شرعيٍّ يقول: هذا صحيح ومؤكَّد وكلُّ العقول تتَّفق عليه.
فالعقل هنا هو الذي ينفي أن يكون من الممكن ولوج جسم الجمل في ثقب الإبرة، فالحُكمُ إذًا عقليٌّ.
فإذا انتقلنا من الأمثلة إلى التقسيم والتعريف والتوضيح نقول:
يقول علماء التوحيد: ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجب.
أي لمَّا كان المكلَّف لا يستطيع أن يتعلم علم التوحيد إلا بمعرفة أقسام الحكم العقليِّ كان من الواجب عليه أن يتعلَّمها.
فما هي أقسام الحكم العقليِّ؟
أقسامُه ثلاثة: الواجب والمستحيل والجائز، أو الوجوب والاستحالة والجواز.
فما معنى كلٍّ منها؟
الواجب هنا غير الواجب الشرعيّ، فالواجب الشرعيُّ إذا فعله العبدُ يثيبه الحقُّ سبحانه، وإذا تركه يعاقبه.
أما الواجب العقليَّ فهو: ما يقبل الثبوت فقط، أي لا يقبل الانتفاء بأي حال من الأحوال.
وأما المستحيل فهو: ما يقبل النفي فقط.
وأما الجائز فهو: ما يقبل الثبوت والنفي.
نـأتي بأمثلة للتوضيح:
1- أمثلة عن الواجب العقليِّ:
الواحد نصف الاثنين، وهذا يقبل الثبوت فقط، أما الثلاثة نصف الأربعة، أو الثلاثة واحد (كما يقول النصارى) فهذا مما لا يقبله العقل، إلا إذا جنحوا إلى التركيب، كما حين تُقسِّم الدائرة إلى ثلاثة أقسام وتقول: الثلاثة واحد، وهذا يسمى باصطلاح علم التوحيد: "شركَ التركيب"، أي جعلوا الله بعضًا من كلٍّ، والعياذ بالله، تعالى الله عن ذلك.
وهم يعانون من التناقض الشديد جدًّا، فهم في أنفسهم لا يتفقون إلى الآن، لقد وقعوا في خطأ شنيعٍ جدًّا وهو تأليهُ المسيح عليه الصلاة والسلام ثم حاروا بعد ذلك، فتجد العقائد المسيحية في حالة من التناقض والحيرة والخلاف الشديد، وكلُّ فرقة تعتقد شيئًا.
فلما قالوا بألوهيَّة المسيح عليه السلام، قالوا: هل المسيح إله أم بشر؟
فقال بعضهم: عنده طبيعتان: طبيعة بشريَّة، وطبيعة منتسبة إلى الألوهيَّة.
وقال بعضهم: الله هو المسيح.
وقال بعضهم: إن الله صفة، ومحلُّ هذه الصفة ذاتُ المسيح.
إذًا هناك تناقض كبير، والعقل لا يقبل هذا.
وقد اجتمعتُ مع عدد من الباحثين وكبارِ رجالٍ متميِّزين في الغرب كانوا قد دخلوا في الإسلام، فقلت لهم: اصدُقوني، لماذا دخلتم في الإسلام؟ فقالوا: لأننا كنا نعاني من التناقض وعدم منطقية العقائد، وكنا نريد أن نصل إلى عقيدة منطقيَّةٍ يقبلها المنطق، فهربنا إلى الإسلام لأننا وجدنا أن عقيدة الإسلام منطقيَّة جدًّا ويرتاح العقل إليها.
فالواجب يقبل الثبوت فقط، أي لا يصدق العقل انتفاءه، فلا يقبل إلا ثبوته.
والمستحيل لا يقبل العقل إلا نفيه، أي لا يصدِّق العقل بثبوته أبدًا.
2- مثال عن المستحيل العقليِّ:
أن لا يكونَ للصندوق أيُّ حجم، ولا يأخذَ حيِّزًا من الفراغ، وهذا لا يقبله العقل أبدًا.
3- مثال عن الجائز العقليِّ:
أن يجلس في مكان ما متعلِّمون، فهذا يقبله العقل، أو أن يجلس في مكانٍ آخر جاهلون، فهذا أيضًا يقبله العقل، وهو منطقيٌّ وممكن ومعقول، وهذا مما يقبل العقل ثبوته ويقبل نفيه فهو جائز.
ثم إن كلاًّ من الواجب والمستحيل والجائز ينقسم إلى قسمين: ضروريّ (أو بديهيّ) ونظريّ.
والضروريُّ: ما يدركه العقل من غير تأمُّل، أي دون تفكير.
فعندما نقول: الواحد نصف الاثنين، فهذا يقبله العقل من غير تأمُّل أو تفكير.
لكن عندما نقول: الواحد رُبْعُ عُشْرِ الأربعين، أو أي معادلة من المعادلات الرياضيَّة التي نصل إلى حلِّها بعد وضع القوانين اللازمة، فهذا يدركه العقل بعد التأمُّل والنظر.
فإذا كنَّا نحتاج بعقولنا إلى برهانٍ ودليلٍ فهذا يسمَّى نظريًّا، كان ذلك واجبًا أو مستحيلاً أو جائزًا.
وإذا كان العقل يقبل هذا دون حاجة إلى دليل أو برهان فإنه يسمَّى ضروريًّا.
وهنا قد يتعجَّب شخصٌ ويقول: كيف يمكن لأربع مليارات شخص على وجه الأرض: صينيّ أو أمريكيّ أو هنديّ أو باكستانيّ أو من سيبريا أو من جنوب إفريقيا ... أن يتفقوا على قبول الضروريات؟ وما هو السبب؟
فهم لا يتفقون في السياسة، ولا في الاقتصاد، ولا في شيء ... إلا في الضروريات، فكيف اتفق كلُّ هؤلاء على ذلك؟
سرُّ المسألة ما يسمَّى بالضرورة، فهي فضلٌ من الله سبحانه وتعالى على الإنسان.
فهو سبحانه خلق في كلِّ عقلٍ ما يسمَّى بالضرورة، وهو الذي خلق كلَّ إنسان, فهل من إنسانٍ لم يخلقه الله؟
فإذا كانت كلُّ شركة من شركات السيارات مثلاً تعرف من خلال تصميم السيارة ما يوجد داخلها، أفلا يعلم الذي صمَّم هذا الإنسان وخلقه ما فيه, وهو الله سبحانه وتعالى؟
فلمَّا صمَّم مولانا سبحانه وتعالى الإنسان وخلق عقله جعل فيه ما يسمَّى بالضرورة، فخلق في هذا العقل جزمًا مطابقًا للواقع.
فمثلاً لا يمكن أن يكون هناك حرٌّ وبردٌ في نفس المكان وبنفس المساحة ونفس الاعتبار، أمَّا نصفه حارٌّ ونصفه باردٌ فيمكن, فكيف اتَّفق الجميع على هذا؟
وتلك الضرورة مخلوقة في كل إنسانٍ إلا المجنون, فإذا أخذ المولى العقل صار هذا الإنسان مجنونًا, وإذا أخذ ما وهب أسقط ما أوجب.
كما إذا تعطل محرِّك السيارة، فالشركة المُصَنِّعة غير مسؤولة عنها، لأنها مسؤولة عنها في حال كونها جاهزة ومزوَّدة بمحرِّك ومزوَّدة بكل ما تحتاجه.
فإذا تعطَّلت قدرة الإنسان على المشي لا يكلفه الحقُّ سبحانه وتعالى أن يدخل إلى الجهاد ليقاتل، لأن الأعرج ليس عليه حرج، وكذلك إذا تخرَّب عقل الإنسان بسبب مرض أو غياب عن الوعي ... فهو غير مكلَّف، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
فإذا أعطاك الحقُّ قدرةً على القيام كلَّفك في الصلاة بالقيام: {وَقُومُواْ لِلّهِ} [البقرة: 238] وإذا كنت لا تقدر على القيام ينقلب الأمر إلى القيام المعنويِّ، أي أن تقوموا بالصلاة، مع أن أقدامك لا تقف على الأرض لكنك قمت بالصلاة، فانقلب الأمر إلى المعنى أو إلى المجاز.
إذًا فالحقُّ لا يكلفك أن تقوم وأنت لا تستطيع القيام، كما أنه لا يكلفك أن تقعد إذا كنت لا تستطيع القعود وهكذا ... وقد يضطرُّ المريض للصلاة بعينيه، دون قيام أو قعود.
فإذا اختلَّ عقلُ الإنسان فلا نتحدَّث عندئذٍ في واجب ولا في جائز ولا في مستحيل، لأن العقل زال، إذ بمجرَّد وجود العقل توجد الضرورة.
فقد خلق الله سبحانه وتعالى في كلِّ عقلٍ جزمًا مطابقًا للواقع لا يقدر الإنسان على دفعه بالتشكيك.
فمثلاً لا بدَّ للجسم أن يتَّصف بصفة: كالحركة أو السكون أو اللون أو الارتفاع أو الانخفاض أو الجهة ... فهذه أشياء ضرورية لا يوجد من يختلف عليها.
إذًا: فالضرورة: خلقُ الله سبحانه وتعالى في كلِّ عقل جزمًا مطابقًا للواقع لا يُقدَر على دفعه بتشكيكٍ.
ولبيان معنى الضروريِّ والنظريِّ في كلٍّ من أقسام الحكم العقليِّ نذكر بعض الأمثلة:
1- مثالٌ على الواجب الضروريِّ والواجب النظريِّ:
* الكتاب ذو حجمٍ، أو يأخذ حيِّزًا من الفراغ ، فهذا مما يتَّفق الجميع عليه، ولا يختلف عليه أحد، وهذا يدركه العقل من غير دليل وبرهان، فهو واجب ضروريٌّ.
* فإذا قلنا: خالقُ العالم واحدٌ، نجد أن المجوس يقولون: بل اثنان، ويقول النصارى: بل ثلاثة، ويقول الوثنيون: بل هو النجوم والكواكب والبقر ...
فإذًا قولنا: "خالقُ العالم واحدٌ" يحتاج إلى إثبات، فهو واجب نظريٌّ.
ولو أن أصحاب العقول بسَّطوا الأمر فقالوا كما قال أبو العتاهية:
وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ.......... تدلُّ على أنَّهُ الواحدُ
ومعنى آية: أي دليلٌ وبرهانٌ، لكنه قال: تدلُّ، فهناك إذًا دليل.
إذًا فمعرفة أن خالقَ العالم واحدٌ، وأنه قديمٌ، وأنه ليس كمثله شيءٌ، وأنه حيٌّ ... يحتاج إلى دليل وبرهان.
2- مثالٌ على المستحيل الضروريِّ والمستحيل النظريِّ:
* لا يتصف كتابٌ بحركةٍ ولا سكونٍ، أي هذا الكتاب غير متحرِّكٍ ولا ساكن.
وهذا طبعًا دون تغيير الاعتبار، فباعتبار دوران الكرة الأرضيَّة فالكتاب متحرِّك، وباعتبار نظر الناظر إلى الكتاب فهو ساكن.
فإذًا: هل يصح أن لا يوصف الكتاب بالحركة ولا بالسكون مطلقًا؟
نقول: كلُّ العقلاء على وجه الأرض لا يقبلون هذا، ويدركونه بدون دليل، فهذا مستحيلٌ ضروريٌّ.
* أمَّا وجود شريك للخالق فإثبات استحالته يحتاج إلى دليل وبرهان، فهو مستحيلٌ نظريٌّ.
إذ المعتزلة قالوا: الإنسان يخلق أفعاله.
وقال الطبائعيون: النار تخلق الإحراقَ، والبحر يخلق الإغراقَ، والسكين تخلق القَطْعَ ...
تعالى الله عن أن يكون له شريك، فهو الذي يخلق النفع والضر، ويخلق القطع، والرِّيَّ، والشبع، والإغراق، والإحراق ....
قال سبحانه وتعالى: {اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وهذا سيأتي برهانه والدليل عليه بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
لكننا نورد أمثلةً عاجلةً لأننا ما نـزال عند الباب في المقدِّمات، وإذا كنت لا تملك هذه المقدِّمات فلن تستطيع أن تتابع في هذا العلم، فنحن الآن نثبِّتُ في العقول اصطلاحَ المقدِّمات.
3- مثالٌ على الجائز الضروريِّ والجائز النظريِّ:
* يتصف الكتاب بالحركة، أي صفحاته متحرِّكة، وهذا مقبول، وقد تكون الصفحات ساكنة، وهذا مقبول أيضًا.
إذًا هذا جائز ولا يحتاج إلى برهان، فهو جائزٌ ضروريٌّ.
* فإذا قلنا: قد يعفو المولى عن الفاسق المجرم، فهذا يحتاج إلى دليل، فنقول مثلاً: الله سبحانه وتعالى هو الملك، وهو السلطان، وهو الذي خلق الجنة ولم يجبره أحد، وهو الذي خلق النار دون أن يجبره أحد ... فإذا أراد أن يتصرَّف في ملكه كما يشاء فلا يستطيع أحد أن يقول له: لماذا؟
وقد ورد أن الظالم والمظلوم يأتيان يوم القيامة فيوقفهما الحقُّ تبارك وتعالى ويقول للمظلوم: أتريد حقَّك من الظالم؟ فيقول: نعم يا ربّ، فيقول له: انظر إلى ذلك القصر، وإذا به بقصرٍ لم ير مثله في حياته قطُّ، ولو وضعنا قصور حلب وروما واستانبول ... كلَّها في كفة، فإنها لا تعدل دهليز القصر الموجود في الجنة.
ينظر فيرى قصرًا مليئًا بالحور والخدم والحشم والفواكه ... فيقول: كل هذا القصر من أجل أن أعفو عن هذا الظالم؟ يا ربّ، أعطني هذا القصر ولم أعد أريد شيئًا منه.
فالله سبحانه وتعالى مَلِكٌ يفعل ما يشاء، فله أن يعذِّب المطيع إذا أراد أن ينفذ عدله ...
وقصة الذي عبد الله خمسمائة سنة معروفة، حيث يُبعث يوم القيامة ويوقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فيقول له الربُّ: ادخل الجنة برحمتي، فيقول: يا ربّ، بل بعملي، فتوضع نعمة البصر في كفة فترجح على كلِّ أعماله.
فإذا عذَّب الحقُّ المطيع فهذا شأنه.
فالله سبحانه وتعالى مَلِكٌ سلطان، وهو الذي وضع الشرع وقال: الذي يفعل هذا أثيبه، والذي يفعل ذاك أُعذِّبه، وهو الذي {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
ففي البداية قد يستغرب الشخص أنَّ المولى قد يعفو عن الفاسق المجرم، لكنْ عندما أتينا له بالأدلة، قال: هذا ممكن.
فهذا جائزٌ لكنه نظريٌّ، أي يوصل إلى جوازه بالنظر في الدليل والبرهان.
فعندما يُحتاج إلى دليل وبرهان في أمر جائز يصير هذا الجائز نظريًّا، وعندما لم يحتج إلى ذلك يكون ضروريًّا.
وهنا الجائز غير الجائز الشرعيِّ الذي هو المباح أو الحلال، فنحن نتحدث في الأحكام العقلية لا الشرعيَّة.
بعد هذا يوجد تفصيل دقيق جدًّا لا يسعنا الوقت لبيانه, ولا بد من دراسة هذه المصطلحات، حتى نبيِّن في البحث القادم كيف يتفرع من الجائز العقلي ما يسمى بالواجب العرضيِّ والمستحيل العرضيِّ.
وهذا أمثلته في القرآن كثيرة جدًّا، فعلى سبيل المثال نقول:
دخول أبي لهب الجنةَ بالأصل جائزٌ عقلاً، لأن الحقَّ يستطيع أن يفعل في ملكه ما يشاء، لكن عندنا خبرٌ بعدم وقوع ذلك، قال سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 1-3].
فدخول أبي لهبٍ النارَ أصبح يسمَّى واجبًا عرضيًّا، ودخول أبي لهبٍ الجنةَ أصبح يسمَّى مستحيلاً عرضيًّا، لكنه بالنظر إلى ذاته ممكنٌ أو جائزٌ.
فيمكن من حيث العقل أن يفعل الله في ملكه ما يشاء، لكنَّه أخبر بأن أبا جهل هو عدوٌّ لله ولرسوله وأنه فرعونُ هذه الأمة، وأن أبا لهبٍ سيصلى نارًا ذات لهب، فهو جائز بالنظر إلى ذاته، لكنْ بعروض خبر المولى أصبح له اسمٌ جديدٌ، فدخول هذين الكافرين الجنةَ صار يسمَّى مستحيلاً عرضيًّا، ودخولهما النارَ صار يسمَّى واجبًا عرضيًّا.
والأمثلة على انقسام الجائز إلى مستحيلٍ وواجبٍ عَرَضِيَّين كثيرة.
فمن أمثلة الواجب العرضيِّ دخولُ المؤمن الجنة، ومن أمثلة المستحيل العرضيِّ خلودُ المؤمن في النار.
وهذه العلاقة بين مفهوم الجواز والوجوب العرضيِّ أو الشرعيِّ مسألةٌ دقيقةٌ، حار فيها مَنْ لم يُثَبِّتْهُ الله على أرض العلم.
لذلك ما أحببنا أن نُثقل هذا البحث بكثرة المعلومات والمصطلحات، ولعلَّنا إن شاء الله ننتقل من هذا الاصطلاح إلى مباحث مهمَّة جدًّا ودقائق من خلالها يملك الإنسان ميزانًا علميًّا، وبعدها يستطيع أن يرُدَّ الشبه الكثيرة.
ومن جملة ما يعاني منه العالمُ الإسلاميُّ اليوم الحروبُ الفكريَّةُ الموجّهةُ إليه من خلال الشُّبَه، وأخطر شيء أنهم حوَّلوا ثوابتَنا إلى محتملات، باسم الاتجاه المعاكس، أو الرأي والرأي الآخر ... فصار ما لا يقبل الاحتمال، محتمِلاً عند من لا علم له.
فأصبح كلُّ شيءٍ عندهم محتملاً، فيقولون: قد تكون الجنة غير موجودة، أو قد لا يكون هناك حساب، أو لا يوجد قَدَر الخ...
لكنَّ ديننا دينُ يقين، فالمؤمن المسلم ينطلق من يقينٍ، أما النصارى فقد عاب الله سبحانه وتعالى عليهم اتباع الظنِّ، لأنَّ الظنَّ فيه احتمالان، وهذا هو الفارق بين عقيدتنا وعقيدة غيرنا.
لذلك لما جاء أكبر علماء النصارى إلى سيِّدِنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وحاججهم صلى الله عليه وسلم، دعاهم إلى المباهلة، فأتى صلى الله عليه وسلم وأتى معه سيِّدُنا علي والسيدة فاطمة والحسن والحسين، وتوجَّهوا إلى الله لإهلاك الكذَّاب، لكنهم لم يأتوا، وذلك بسبب الظنِّ، فلو كان عندهم يقينٌ بأنهم على حقٍّ لقدموا، لأن صاحب اليقين لا يتردَّد.
وهذا دليلُ إعجاز، وتصديقٌ لما وصفهم ربُّنا به من أنهم يتَّبعون الظنَّ، لأنهم لو كانوا على يقين لجاؤوا إلى المباهلة, لكنهم هربوا.
لكن المؤمن ما عنده إلا احتمال واحد، فإذا قيل له: (قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) فما عنده شكٌّ أبدًا في ذلك.
وهل تجد أيَّ مسلم عنده شكٌّ بأن الله موجودٌ، وأنه واحدٌ، وأنَّ الإسلام حقٌّ، وأنَّ سيِّدَنا محمَّدًا هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ...؟
لا, بل يقين تام.
فهم إذًا على ظنٍّ, لكننا على يقين.
فعندما تملك مفاتيح اليقين لا يَرِدُ إليك شيءٌ من الشُّبَه والاحتمالات والمحتمِل ... وخاصة في العقائد.
فالفقه محتمِلٌ لأنَّ أدلَّتَه ظنِّيَّة, أما العقائد فلا, لأن أدلَّتها قطعيَّة، ولا يوجد فيها أدلَّة ظنِّيَّة.
لذلك لا يوجد في العقيدة محتمِلات، أما في مسائل الفقه فهناك المحتمل, ويوجد الاجتهاد، والقياس ...
والحرب الثقافية الفكرية اليوم تتوجَّه إلى عقائدنا، وقد أشرت فيما مضى إلى أنَّ من أكبر شُبَه هذا العصر قضيَّةَ عدم نسخ الشريعة المحمَّديَّة للشرائع الأخرى، وهذه مما يسعى أبناء صهيون وأعوانهم إلى تثبيتها, فإذا أحببتَ أن تعبد الله بالإسلام أو باليهودية أو بالمسيحية ... فلا مانع، لأن الشريعة المحمَّدية لم تَنْسَخ الشرائع الأخرى.
فَلِمَ ذهب سيِّدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وحاربهم؟
لمَ دعا نصارى نجران؟
لمَ بعث إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام وهو على المسيحية؟
فلو كانت كلُّ الأديان مقبولة لما فعل هذا كلَّه.
نعم, نحن لا نُكره أحدًا على الدخول في الإسلام، فهذا الدين هو الحقُّ, فإذا أحببت أن تدخل فيه فالجنة تنتظرك، وإلا فالنار تنتظرك، لكنك في هذه الدنيا أخٌ لنا في الإنسانية, نؤاكلك، ونشاربك، ونعاملك، ونعمل معك، بل ونصاهرك ... وهذا كلُّه في دائرة التعامل الإنسانيِّ.
لكن الذي لا شكَّ فيه أبدًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُثَبِّتَنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, والحمد لله ربِّ العالمين.
|