عن أبي سِروعَة (بكسر السين المهملة
وفتحها) عُقبةَ بن الحارث رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : صَلَّيتُ وَرَاءَ النَّبيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بالمَدِينَةِ العَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ
مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ
النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيهمْ، فَرأى أنَّهمْ قَدْ عَجبُوا مِنْ
سُرعَتهِ، قَالَ: ذَكَرتُ شَيئاً مِنْ تِبرٍ عِندَنَا فَكَرِهتُ أنْ يَحْبِسَنِي
فَأمَرتُ بِقِسْمَتِهِ./ رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ: كُنتُ خَلَّفتُ في
البَيْتِ تِبرًا مِنَ الصَّدَقةِ فَكَرِهتُ أنْ أُبَيِّتَهُ.
التِّبْرُ: قِطَعُ ذَهَبٍ أَوْ
فِضَّةٍ.
كما أورد الإمام النوويُّ رحمة الله
عليه في مقدِّمة هذا الباب قولَه تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] أتى بتطبيق سيِّدِنا رسولِ الله صلى الله عليه
وآله وصحبه وسلم لهذه المسارعة، فما كان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم
يتخلف عن امتثاله، بل كان الأول في ذلك.
وكانت الآية من القرآن تنـزل فيتخلَّق
بها أولاً سيِّدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم, ويتأدب بأدبها, ومنه معنى:
(أَدَّبَنِيْ رَبِّيْ), فكانت كلُّ آية تنـزل تعطيه صلى الله عليه وسلم أدبًا
جديدًا وخلقًا جديدًا.
وهنا هذه الحادثة التي يرويها
سيِّدُنا عقبة، حين صلى العصر وراء سيِّدِنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ويصف
لنا كيف قام صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة مسرعًا.
وهذا حديثٌ عظيمٌ يفيد أمورًا كثيرة،
منها: صلة الصلاة بما بعدها، فالصلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر وحسب
{إنَّ
الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 44] إنما أثرُ الصلاة
دوامُ صلة العبد بربِّه خارج الصلاة، فيكون العبد في الصلاة متجرِّدًا في الظاهر
والباطن، فإذا خرج خارج الصلاة بقي باطنه متجرِّدًا, ليكون في حال مَنْ قال الله
فيهم: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}
[النور: 37] أي إذا اشتغلت ظواهرهم بالتجارة والبيع لم تنشغل قلوبهم عن ذكر الله.
وقال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ
لِذِكْرِي} [طه: 14] أي إنَّ نتيجةَ إقامة الصلاة التي هي التواصل دوامُ ذكره،
ليدوم في القلب ذكره.
ومن أثر الصلاة إعانةُ العبد في كل
أموره, لأنه يستمدُّ في الصلاة التأييدَ, ويقول فيها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فتكون الصلاة سببَ إعانة, ومنه قوله تعالى:
{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: 45] وكان صلى الله عليه وسلم
إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
والذكر الذي نذكره يعين قلوبنا, حتى
إذا ما دخلنا في الصلاة كان القلب فارغًا من سوى مولاه.
يسأل كثيرٌ من الناس: ما دواء الغفلة
في الصلاة؟ ما دواء الشرود؟ ما دواء ذكر الأشياء في الصلاة ...؟
نقول في الإجابة: لا شكَّ أن الدواء
هو ذكر الله تعالى قبلها, والذي يكون سبب تصفية، أما ذكر الله بعدها فإنه نتيجة,
قال صاحب الحكم العطائية: "ذَاكِرٌ ذَكَرَ لِيَسْتَنِيرَ قَلْبُهُ، وَذَاكِرٌ
اسْتَنَارَ قَلْبُهُ فَكَانَ ذَاكِراً".
فالذكر قبل الصلاة لتكون صلاتُه في
محلِّ الصفاء، فإذا حصَّل حقيقة الصلاة وكانت له صلةً بربِّه يكون بعدها ذاكرًا،
فالذكر قبلها سبب صفائها، والذكر بعدها نتيجتُها وأثرُها.
ثم قال: ذَكَرْتُ شَيئاً مِنْ تِبْرٍ
عِنْدَنَا، فما كان يذكره إلا بعد صلاته، فكان في الصلاة ذاكرًا لله، فلما ذكر الله
ساقه ذلك إلى ذكر أحكامه، قال سبحانه وتعالى: {إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل
لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي نورًا تُفرِّقون به.
وهكذا فإن التمكُّنَ في مشاهدة
الحقيقة ومراقبتها وذوقها يسوق إلى تطبيق الشريعة, دون أن يجد في ذلك التطبيق وذلك
الامتثال مشقَّةً أو كلفةً أو معاناةً, فانتقل صلى الله عليه وسلم من ذكر الله في
الصلاة إلى ذكر أحكامه بعد الصلاة.
وفي طريق أهل الله: آخرُ مقامات
العارفين الوقوفُ مع أحكام الله، فيكون في طريقه مستغرقًا في الله، وفي نهاياته
مستغرقًا في أحكامه.
وكما أن الذكرَ قبل الصلاة هو سببُ
تصفية، والذكرَ بعد الصلاة أثرٌ ونتيجةٌ, فكذلك امتثال أمره تعالى الشرعيِّ قبل ذوق
الحقيقة, هو ليكون ذوقه صفائيًّا، وأما امتثال أمره تعالى الشرعيِّ بعد ذوق الحقيقة
فهو كالنتيجة والأثر.
فإذا وجد الإنسان ضعفًا في امتثال
الأمر فإنَّ هذا إن كان في الفرق الأول قبل الجمع وقبل ذوق الحقيقة، فإنه يدلُّ على
أن مجاهدته لنفسه ضعيفة، لأن الذي يدعو إلى امتثال الأمر الشرعيِّ قبل ذوق الحقيقة
مجاهدةُ النفس, وأما امتثال الأمر الشرعيِّ بعد ذوق الحقيقة فيكون انفعالاً
للأنوار، وأثرًا لما تفهمه الأسرار.
فلا يوجد في العارفين ولا في طريق
المعرفة منهجُ الزندقة الذي هو الاستغناء بذكر الحقيقة عن الشريعة، بل الشريعة في
البدء والمنتهى.
ثم قال: فَكَرِهتُ أنْ يَحْبِسَنِي,
لأنه صلى الله عليه وسلم في ترقِّياتٍ دائمة، فلا يريد أن يقف نَفَسًا: "مَا
لِلتَّرَقِّي انْتِهَاءُ"، فكان صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يُسارع في الخيرات
حتى يزداد, رغم كلِّ الزيادات, ورغم كلِّ ما منَّ الله سبحانه وتعالى به عليه
وأعطاه من الارتقاء, لكنه صلى الله عليه وسلم يطلب الزيادة، فليس هذا الحبسُ حبسَ
أغيار، إنما هو حبسُ أنوار، فأراد صلى الله عليه وسلم الزيادة في العبوديَّة لله
الواحد القهَّار.
وفي الرواية الثانية قال: فَكَرِهتُ
أنْ أُبَيِّتَهُ, وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ....
إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ
رَاحَ وَتَرَكَهَا), فعرَّفنا صلى الله عليه وسلم أن هذه الدنيا هي لقضاء الحوائج
لا للمُتَع.
إن للــه عبــادًا
فُطَنًا
نظـروا فيهـا فلمَّا علموا
جعلـوها لُجَّـةً
واتَّخذوا
طلَّـقوا الدنيا وخافوا
الفِتَنَا
أنها ليست لحيٍّ سَكَنًا
صـالحَ الأعمال فيها سُفُنًا
لقد كره صلى الله عليه وسلم أن يؤجِّل
المبادرة إلى الخير إلى اليوم التالي، فهو يقدر في هذا اليوم أن يسارع إلى الخير,
لكنه كره أن يُسَوِّفَ فيه.
وهذا درسٌ لنا، لأننا حينما نؤجِّل
خيرًا نقدر عليه قد لا نوفَّق فيه، فأنت لا تدري ما حالك غدًا، وبأي شيء تُشغل،
وبأي شيء تُحبَس {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]
فإذا وجد الإنسان أنه في ساعته يقدر على فعل خيرٍ في تعليمٍ أو إنفاقٍ أو ... فما عليه
إلا أن ينفذ ذلك الخير.
رُئي الإمام الجنيد رحمة الله عليه في
المنام بعد موته، فقيل له: خبِّرنا ما الشأن؟ فقال: ذهبَتِ العباراتُ, وغابت
الإشارات، وما بقي لنا إلا رُكيعات كنا نركعها في الليل.
جاءت السيِّدة عائشة رضي الله تعالى
عنها بالذراع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد أنفقت الشاةَ كلَّها, فقالت:
يا رسول الله, أنفقت الشاة كلها وأبقيت لك الذراع, فقال:
(كُلُّهَا بَقِيَ إِلا
الذِّرَاع).
هذا الفهم يجعل الإنسان يحسب ما الذي
بقي من وقته؟ فإذا قضى من يومه ثلاثًا وعشرين ساعة في شأنه الخاصّ وساعةً لله,
فالذي بقي من يومه ساعةٌ، وكذلك يبقى من علمه ما أنفقه، ومن صحته ما أنفقه، ومن
جهده ومن خدمته ومن ماله ... ما أنفقه.
وهذا الفهم يجعل الإنسان مدَّخِرًا,
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ} [الكهف: 46],
{وَالآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى} [الأعلى: 17].
هدَّد فرعونُ السحرةَ بأنه
سيُصَلِّبُهم ويُقَطِّعُ أيديَهم وأرجلَهم, فلما فهموا المعادلة بين الفاني
والباقي، قالوا: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي
فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}
[طه: 27] فبهذا الفهم يصير الإنسان مُرجِّحًا للباقي على الفاني.
وكم من الناس يقضي عمره كلَّه، ثم
ينظر بعد ذلك فلا يجد إلا القليل القليل الذي ادّخره عند مولاه.
حُدِّثنا عن شخص ذهب ليختصَّ في
اختصاصات عالية خارج البلاد الإسلامية, وهناك لم يكن حاله مستقيمًا, وكان يسوِّف
ويقول: حين أعود إلى البلاد الإسلامية سأستقيم, وأخدم الناس، وأنفق من علمي، وأداوي
الفقراء ... لكنه بعد أن قضى أكثر من عشر سنوات خارج البلاد الإسلامية, مات في طريق
عودته، وهو شابّ.
عندما يرى الإنسان هذه النماذج يعيد
الحساب، ويسأل نفسه كلَّ يومٍ على الأقل: ما الذي بقي من يومي؟
والجواب: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ
وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
فإذا وجد الإنسان أنه ادَّخر واستودع
عند مولاه ما يرضيه فليطلب القبول بفضله, قال في الحِكَم: "إِذَا أَرَادَ أَنْ
يُظْهِرَ فَضْلَهُ عَلَيْكَ ، خَلَقَ وَنَسَبَ إِلَيْكَ", فأنت ما وُفِّقْتَ إلا
بفضله، ثم هو بعد ذلك يقبل العمل بفضله، إذ ليس لك شيء، فاجتهد وانظر بعد اجتهادك
أنه توفيقُه {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ} [هود: 88].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوجِّه
قلوبنا إليه، وأن يجعل اعتمادنا في الأمور كلها عليه, وأن يرزقنا خير الدنيا
والآخرة، والحمد لله رب العالمين. |