قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].قوله: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} سارع: صيغة فَاعَلَ، مثل: سابق، وكأنه يدعو بهذه الصيغة إلى المنافسة، لأن الناس يتنافسون ويتسابقون ويجتهد بعضهم أن يكون الأسرع من الآخر في المادة, لكنه سبحانه وتعالى يدعو أحبابه وعباده للمسارعة إلى فضله سبحانه وكرمه، وفضلُه وكرمه كما هو مبين في هذه الآية يتجلى من خلال العفو والمغفرة التي تستر تقصير العبد، لأنه بحاجة إلى حلم الله سبحانه ومغفرته وعفوه في أحسن أعماله, وقد ورد في الحِكَم: " أَنْتَ إِلَى حِلْمِهِ إِذَا أَطَعْتَهُ, أَحْوَجُ مِنْكَ إِلَى حِلْمِهِ إِذَا عَصَيتَهُ".لهذا كان الأنبياء - وسيِّدُهم وإمامُهم سيِّدُنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم - يستغفرون, قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ} [محمد: 9] أي اطلب المغفرة، والمغفرةُ: السترُ، فالحقُّ سبحانه وتعالى يستر فعلَ العبد بفعله سبحانه, يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] فهذا فعلكم وعملكم, {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64] وهذا فعله، فَسَتَرَ الحراثة التي هي مثالٌ حسِّيٌّ من أمثلة أعمال العبد بفعله تعالى الذي هو الزرع، وهذا في العمل الحسِّيّ.وكذلك في العمل الذي ينتمي إلى جنس الطاعة، قال سيِّدُنا شعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ} [هود: 88].بل ويستطيع العبد أن يأخذ معنى الحديث: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ) من إشارةٍ في القرآن الكريم, وهي قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] لأنه رغم كونه في الدنيا في جنة هي بستان من متاع الدنيا, فمع ذلك لم تخوِّلْه قوَّتُه وعملُه أن يدخلها، فكيف بجنةٍ لا عين رأتها ولا أذن سمعت ما فيها؟ فكيف لا يكون هذا بمحض فضل الله؟ وهل يكون هذا من استحقاق العبد؟فالجنة (التي هي البستان) لم يدخلها إلا بمشيئة الله ولم يكن له أي استحقاق لها, بل دخلها بفضله سبحانه.إذًا: فالمغفرة سترُ فعل العبد بفعل الربِّ، وعند أهل الفهم والتحقيق: سترُ وجودِ العبد بوجود الحقِّ، فهو يستر الجحود بالجود، ويستر الصدود بالشهود، فهذه هي المغفرة.لذلك لم يقل سبحانه: "سارعوا إلى الجنة", لأنكم لا تستحقونها, إنما قال: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ} فإذا ستركم وستر أعمالكم بمحض فضله أدخلكم بمحض فضله في الجنة.لكن الناس قسمان:1- قسم لا يريد الجنة.2- وقسم يريدها، وهؤلاء صنفان:- صنف أرادوا الجنة للجنة.- وصنف أرادوها لأنها محلُّ الرضوان ومحلُّ كشف الحجاب عن وجه الرحمن.فالذين لا يريدون الجنة قال فيهم ربُّنا سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ: 27] حيث حذفوا من معادلات حياتهم الجنة, وقال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى, ولعل هذا الحديث يُحمَلُ على أمَّة الدعوة لا أمَّة الإجابة، أي: كلُّ العالَم، وكثيرًا ما يستخدم سيِّدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأمَّةَ بمعنى أمَّة الدعوة، كقوله: (وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لا يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ, ثُمَّ لا يُؤْمِنُ بِي, إلا دَخَلَ النَّارَ), فهو يعني أمَّةَ الدعوة, أي كلَّ الناس، فالجنة مفتوحة للجميع إلا من أبى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ, وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى).فالذي لا يريد الجنة لم يعد هناك مناسبة بينه وبين المغفرة {إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].وكذلك قوله تعالى: {قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] يتضمن معنىً, وهو أنه سبحانه خاطب عباده، أي الذين اعترفوا بالعبوديَّة.فالذي يقول: إن الآية {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} لا تتضمن معنى {إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} فهو متوهِّمٌ, لأنه تعالى قال: {قُلْ يا عِبَادِيَ} فإذا لم يعترف بأنه من عباده لا يدخل في هذا الخطاب.فمثلاً: إذا قال شخص: "هناك دعوةٌ للأطباء", فكلُّ من وجد في نفسه أنه مندرجٌ في هذا الخطاب يحضر, حتى لو فهم بعضهم أنه مطبِّبٌ بالطب العربي أو بالطب الشعبي أو بالطب النباتي ... لكنه وجد وجهًا لاندراج اسمه في قائمة المدعوِّين.فالله سبحانه وتعالى يوجه هذه الدعوة ويقول: {يا عِبَادِيَ} فمن وجد أنه من عباده فهو مخاطب.فالحقُّ سبحانه وتعالى دعا الجميع, لكن الذي لم يضع في معادلاته المغفرة، ولا التوجُّهَ إلى الله، ولا معاني الغيب ... فهذا لم يطلب المغفرة, لأن طلب المغفرة فرعٌ عن اعتقادٍ، فإذا لم يكن معتقدًا فكيف يطلب المغفرة؟فلما سارع إلى المغفرة تلقَّتْه الجنة, لذلك قال: {وَجَنَّةٍ}.ثم قال: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} ومعنى العرض قد يكون الذي يقابل الطول، وقد يكون مِنْ باب: عَرَضَ شيئًا إذا أبرزه وأظهره، وهنا يكون المعنى: وجنَّةٍ عرضُها ملكوتيٌّ وملكيٌّ، أي يُظهِرُ الحقُّ في الجنة تجلِّياتٍ مُلكيَّةً بديعةً تتلذَّذ بها الأجساد, وتجلِّياتٍ ملكوتيَّةً نورانيَّةً تأنس بها الأرواح.فجمع في هذه الآية بين التوجُّهِ إلى الحضرة الجبروتيَّة، والتنعُّم بالفضل المُلكيِّ والمَلكوتيِّ، فلما نَسَبَ المغفرةَ إلى الاسم الربّ وجَّهَ العبدَ إلى حضرة الربوبيَّة, فتوجَّهَ إليها عبدًا يشعر بضعفه وفقره وحاجته إلى سيِّده, فقوله: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي وسارعوا وأنتم في حالة العبوديَّة.فلماذا يشتغل السالك بالذكر ويحضر مجالس الذكر ويسلك طريق التصوف؟ ألم يسمع الحديث: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)؟ أليس الأحرى والأجدى أن يشغل نفسَه بالجهد لإعلاء كلمة الله؟ فلِمَ يشغل بعض أوقاته بمجلسٍ يجتمع فيه من يريد أن يقول: الله الله, ومن يريد تصفية قلبه؟ أليس الأجدى والأنفع والأرفع أن يبذل الجهد من أجل إعلاء كلمة الله بالدعوة وبالكلمة وبالجهد المتنوع؟والجواب: إذا لم تكن كلمةُ الله فيك هي العليا لا تقدر أن تجتهد لتكون في غيرك هي العليا.إذا نظرت في ذاتك, وفي قلبك, وفي باطنك, فلم ترَ أن كلمةَ الله هي العليا فلن تقدر أبدًا أن تتحرك بجهدٍ في ساحةٍ من ساحات الدعوة لتكون فيها كلمةُ الله هي العليا، لذلك فأنت تحضر مجلسًا لا يُتَوَجَّهُ فيه إلا إلى الله حتى يتحقَّق فيك هذا المعنى فتكون فيك كلمة الله هي العليا.ثم ما هذه الصراعات التي تحصل في العالم الآن؟ هل هي مختزلة في معادلة بسيطة واضحة أم أن القضية معقدة وهناك معادلات كثيرة لتفسيرها؟والجواب أن القضية كلَّها ترجع إلى كلمات بسيطة: إما أن يكون الإنسان عبدَ الله أو عبد النفس.فإذا كانت كلمة الله فيه هي العليا يكون عبد الله، وإذا لم تكن كذلك يكون عبد النفس، لأن النفس من صفاتها منازعة الربوبية.فهذا المادِّيُّ الملحدُ الذي يتمرَّد على الله ويقول: أنا لا دينيّ، يعبد مَنْ؟ إنه يعبد هواه ويعبد نفسه..وهذا الذي يتمرَّد على قَبول سيِّدِنا محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام إمامًا له ونبيًّا ورسولاً هو في حقيقة الأمر متمرِّدٌ على الله, لأن الله هو الذي أرسل سيِّدَنا محمَّدًا.ولو كنا في زمنٍ أرسلَ اللهُ فيه سيِّدَنا موسى لكنا مأمورين أن نتَّبع سيِّدَنا موسى، ولو كنا في زمنٍ أرسلَ اللهُ فيه سيِّدَنا نوحًا لكنا مأمورين أن نتَّبع سيِّدَنا نوحًا، لكننا في زمنٍ جاء فيه آخرُ رسولٍ أرسله الله, وقال لنا: اتَّبعوا هذا الرسول الخاتم, وقال لهذا الرسول الخاتَم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] ففي الصين وفي أمريكا وفي سيبيريا وفي أستراليا ... رسول الله إليك.فالذي لا يقبل برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو متمرِّدٌ على من أرسله.إذًا: فهناك شخصان:- الأول: يقول: أنا لا دينيّ، فهو يتمرَّد على الله بشكل واضح وصريح، لأنه يريد أن يعبد نفسه وهواه.- الثاني: يقول: أنا لست من اللادينيين, بل أتبع دين اليهودية أو المسيحية أو البوذية ..نقول: هذا كان قبل بعثةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أما بعدها فسيِّدُنا موسى الذي جاء باليهودية يقول صلى الله عليه وسلم فيه: (لَوْ كَانَ مُوْسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِيْ), وأما السيِّد المسيح الذي تنتمي إليه المسيحية فإنه سينـزل تابعًا لسيِّدِنا محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام ليؤكِّدَ للعالَم أن هذا الزمان هو زمان الاتِّباع لسيِّدِنا محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام, فكلُّ من لم يتَّبع سيِّدَنا محمَّدًا فهو متمرِّدٌ على مرسله.فالمتمرِّدون على الله الذين يعبدون نفوسهم صنفان:- صنفٌ إلحاديٌّ يعلن أنه لا ينتمي إلى دين.- وصنفٌ أبى أن يتَّبع سيِّدَنا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم, متوهِّمًا أنه إن تَبِعَ شريعةً من الشرائع السابقة لبعثة سيِّدِنا محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام فإنه يكون مقبولاً, وهذا مردودٌ لأنه صلى الله عليه وسلم جاء بالشريعة الخاتمة التي هي لجميع الناس.إذًا فكلُّ الصراعات الموجودة على وجه الأرض الآن هي صراعٌ بين من يعبد النفوس ومن يعبد الله.فمن اجتهد لتكون كلمة الله فيه هي العليا فهو يعبد الله، ومن لم تكن فيه كلمة الله هي العليا فهو يعبد النفس، لذلك قال:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} والتقوى ثلاث درجات:الأولى: تقوى من الذنوب, أي: المخالفات الشرعية والكبائر والمنهيَّات ...الثانية: تقوى من العيوب، أي: العيوب الباطنة, فهو لا يحمل حقدًا في قلبه على أحد, ولا حسدًا, ويرحم جميع الخلق، ويتحقَّق بالأخلاق. الثالثة: هي أن يتَّقيَ التوجُّهَ إلى غير الله حتى لا يكون في قلبه محبَّةٌ لغير مولاه, ولا تعلُّقٌ, ولا انجذابٌ, فهو منجذب إلى حضرة مولاه.نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفرِّغ قلوبنا من التوهُّم والالتفات إلى السوى، ونسأله أن يقبلنا في عباده الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون, والحمد لله رب العالمين. |