بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ على سيِّدِنا محمَّدٍ عبدِك ورسولك النبيِّ الأمِّيِّ وعلى آله وصحبه وسلِّم.
وصلنا إلى قول صاحب جوهرة التوحيد رحمة الله عليه:
فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا وَجَبَا.......عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَدْ وَجَبَا
لِلَّهِ والجائِزَ والمُمتَنِعَا.......وَمِثــــْلَ ذا لِرُسْلهِ فَاسْتَـمِعَا
وبهذا نكون قد وصلنا إلى بوابة علم التوحيد.
ولكننا في هذا البحث سنبقى قبيل الباب، ليكون البحث القادم إن شاء الله تعالى تفصيلاً للباب، وهو قوله: "مَا قَدْ وَجَبَا لهِب, والجائِزَ, والمُمتنِعَا", لأن معرفة الواجب والمستحيل والجائز هي باب علم التوحيد, وقد استُعْمِلَ لفظُ "امتنع" هنا مرادفًا للفظ "استحال".
وأما بحثنا هذا, الذي هو قبيل الباب, فهو لفظ: كُلِّفَ، وكُلِّفَ شرعًا، ولفظ عَرَفَ.
أي: إن باب علم التوحيد الذي يدخل الإنسان من خلاله في التأمُّل والنظر هو معرفةُ حكم العقل، لأن الله سبحانه وتعالى لم يكلِّف الإنسانَ أن يعرف إلا بعقله، فجاء النقل هاديًا ومرشدًا، وساق العقلَ ليفهم وليعرف.
قال الناظم: فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ, فما معنى كُلِّفَ؟
الكُلفة تعني في أصلها المشقَّة، أو الجهد، أو التعب، أو النصب ... أي أن يبذل الإنسان جهدًا, ولا يكون هذا الجهد مما تلتذُّ به النفس.
فعندما يقوم الإنسان بخدمة أخيه مثلاً، تقول له نفسه: ما لك ولهذا التعب؟ اخدم نفسك، ترفّه، تمتّع ... أمَّا أن يقوم بخدمة أخيه عِلمًا أو عملاً أو يعاونه في أمرٍ يرضي الله ... فلا.
يقول صاحب الحِكَم: "إذَا التَبَسَ عَلَيْكَ أَمْرَانِ، أي: هل أفعل هذا أم ذاك؟ هل أجلس في بيتي أم أقوم بخدمة أخي؟ ... فَانْظُرْ أَثْقَلَهُمَا عَلَى النَّفْسِ فَاتَّبِعْهُ، فَإِنَّهُ لا يَثْقُلُ عَلَيْهَا إِلاَّ مَا كَانَ حَقًّا".
جاء في الحديث: (حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ, وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ).
أيُّهما ألذُّ للدنيويِّ المادِّيِّ: أن ينام في وقت السحر في الساعة الثالثة ليلاً, أم أن يقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ, ويناجيه, ويسجد، ويبكي، ويطلب رفع البلاء عن الأمة، ويطلب النصر على الأعداء ...؟
وأيُّهما أثقل على النفس؟
الأثقل أن يقف هذا الموقف, والأكثر راحةً أن ينام في أول الليل ثم لا يستيقظ إلا على حرِّ الشمس، فهنا تكون النفس مرتاحة تمامًا وليس في ذلك أيُّ مشقَّة.
أيهما أكثر راحة للإنسان: أن يصوم في يوم الحرِّ ويتقرَّب إلى الله، أم أن يأكل في الصباح وفي الغداء وفي العشاء طعامًا دَسِمًا لذيذًا؟
فمن خلال هذه الأمثلة نستطيع أن نفهم معنى الكلفة، فلا بد من مشقَّة.
لكنَّ الله سبحانه وتعالى يمنُّ على عبده بمِنَّة، حيث يصعُبُ عليه في بداية الأمر قيامُ الليل، والصيامُ في الحرِّ، وخدمةُ إخوانه، والتضحيةُ والجهدُ ... لكنه من أجل الله يتحمَّل المشقَّة.
أخوك ينفعل عليك ويشتُمُك، فتكظم الغيظ، فمن أجل أيِّ شيء تعاني هذه المعاناة النفسية وتكظم غيظك؟
من أجل الله..
فيمُنُّ الله على عبده فيجعل هذه النفس مروّضة، فبعد أن كانت تجد صعوبة في تلك الأمور أصبحت تلتذُّ بالطاعة، وهذا من التأييد والمِنّة والوهب والإعانة لأولياء الله وأحبابه في الدنيا.
ففي البداية كلما أقبلتَ على نوعٍ من أنواع الطاعات, ماليَّةً كانت أو بدنيَّة, تجدُ مشقَّةً وصراعًا مع النفس، لكنك بعد ذلك إذا أنفقتَ في سبيل الله, وإذا وقفتَ تصلي في الليل, وإذا صُمتَ لله، وإذا قمتَ بخدمة أخيك، وإذا غضضتَ بصرك من أجل الله، وإذا كظمتَ غيظك من أجل الله ... تشعر بلذَّة, فإذا رأيت ذلك فاستبشر أن الله سبحانه وتعالى يقبلك، فإنه علامة قبول الله لك.
وهذا من الإعانة.
والنفس لها سبع مراتب, وهذا الفهم مستمدٌّ من كتاب الله, لأن هذه النفوس مذكورة في كتاب الله، وهي من الأدنى إلى الأعلى:
1- النفس الأمَّارة بالسوء: فهي لا تأمر صاحبها إلا بالسوء, فلا تأمره بخيرٍ قطّ، ومثالها المجرمون الذين لا يتألمون لذنبٍ يفعلونه، ولا يعانون من عذاب الضمير أبدًا، فهم يفعلون أكبر الجرائم دون أن تهتزَّ فيهم شعرة.
2- النفس اللوَّامة: وقد أقسم الله بها، وهي ما يسمَّى اليوم بعذاب الضمير، فكلما أخطأ صاحبُها تَعَذَّبَ.
3- النفس الملهَمَة: وصاحبها يُلهَم فعل الطاعات، وفي بعض الأوقات يُلهَمُ فعل المعصية لكنه يستغفر بعدها ويتوب وينكسر, فيبدِّل اللهُ سيِّئاتِه حسناتٍ، قال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8].
4- النفس المطمئنة: التي اطمأنت لأمر الله، ولدين الله، ولكتاب الله، واطمأنت لسيِّدِنا محمَّدٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فما عادت تستطيع أن تلتذَّ بالمعصية, بل صارت تحبُّ الطاعة، وهي التي أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فكلُّ ما هو نورانيٌّ أصبح محبوبًا.
وسيِّدُنا يوسف عليه الصلاة والسلام نموذجٌ من النماذج التي تعرَّضت للمحن, وكان مع هذه المحن خيرٌ كبيرٌ، فلقد راودَتْه امرأةُ العزيز، وهي امرأةٌ حسناءُ ذاتُ منصبٍ وجمال, تأمرُ فتطاع، ولا يقدر أحدٌ أن يتمرَّد عليها، فها هي تطلبه إلى لذَّته، وإلى إشباع غريزته، وإلى ممارسة فعل الفاحشة, وذلك في ظرفٍ فيه غايةُ الرفاهية، وعلى أنعم الفُرُش الحريرية، وفي قصر من أعظم القصور ... لكنه يقول: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 34] وهذا لأن نفسه كرهت المعصية.
فحتى لو كانت المعصية على فراشٍ من حرير، وفي قصر السلطان, فهي معصية، وهي مما يكرهه الله، فصار يكره ما يكرهه الله، لكنَّ السجن مما يتعذَّبُ فيه الجسدُ، وتتنعَّم الروح.
فالنفس المطمئنة أحبَّت الطاعة، وأحبَّت الإيمان ولوازمه, وكرهت الكفر والفسوق والعصيان.
5- النفس الراضية: فالنفس المطمئنة أحبَّت الطاعة وكرهت المعصية، أما النفس الراضية فإنها أحبّت كلَّ ما ينـزل من قَدَرِ الله تعالى: سواءٌ نـزل بها الضرَّاء، أو المرض، أو الألم، أو نقص الأموال ... فأيُّ شيء نـزل بها من القدر فهي تحبّه لأنه من حبيبها.
وقد قالوا:
أطيبُ الطيبات قتلُ الأعادي ......... واختيالٌ على متون الجيادِ
ورسولٌ يأتي بوعـدِ حبيبٍ ...........وحبيبٌ يأتي بلا ميعـاد
فلما نظر إلى ما ينـزل به من القدر فَهِمَهُ رسالةً من محبوبه، فإذا كانت من محبوبه فهو يرضى بها ويحبُّها وإن كانت مرضًا أو بليَّة، وهذا مقامه أعلى من صاحب النفس المطمئنة.
6- النفس المَرضيَّة: فإذا صارت النفس راضية، رضي الله عنها: {رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [المائدة: 119] وقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28] فتترقى لتصبح مَرضيَّة.
7- النفس الكاملة: فإذا صارت النفس في مقام الدعوة إلى الله: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 46] فقد صارت كالسفير عن الدولة الذي يمثل تلك الدولة، وهذا يكون في مقام الخليفة عن الله تعالى في الأرض.
وقد اصطلح العلماء على تسميتها بالنفس الكاملة، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} فقد دخلت في زمرة عباده, ودخلت بين عباده تدعو إلى الله، وهذه لم تعد تريد إلا ما يريده الله تعالى.
وهكذا تحصل المشقَّة عندما تكون النفس لوَّامة، فالنفس الأمَّارة لا تعاني لأن لذَّتها وجنتها الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ).
أما النفس اللوَّامة والمطمئنة والملهمة فتجد شيئًا من المشقَّة, حتى إذا ما صارت راضيةً التذَّت بكلِّ ما يأتي من الله سبحانه وتعالى, ولم تعد تعترض عليه سبحانه.
وعندما تقع المحبَّة في القلب فإنها تقلبُ الرجال، وتُغَيِّرُ الأحوال.
فعندما تأتي شدّةٌ من المحبوب فإن المحِبَّ يراها كهديَّةٍ ومنحة، وهذا لا يكون إلا لمن صار من أهل المحبَّة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة: 165].
عندما عشق عنترةُ عبلةَ صار يعشق السيوف القاطعة ويقبَّلها لأنه رأى فيها ثغر محبوبته:
فودِدتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها لمعت كبارق ثغركِ المتبسِّمِ
وهكذا أولياء الله، إنهم ينظرون إلى المحنة فيرون فيها نور المحبوب، فإذا رأوا نور المحبوب عانقوا المحنة، وهذا لا يكون إلا بالنفس الراضية والمرضيَّة والكاملة، حيث لم تعد هناك كلفة.
ومع الأسف سمع بعض الجهلة عبارة: "زال عني التكليف" ففهموها أنه تحلَّل من الأوامر وخرج عن الشريعة، وما أجهلهم!
ومعنى هذا القول أي: لم يعد لديَّ شعورٌ بالتكليف, ولم أعد أشعر بالمشقَّة.
وهل تشعرُ بمشقَّة الأنفاس عندما تتنفس؟
لقد صارت العبادات والطاعات والقربات في حقِّ هؤلاء الأولياء كالنَّفَس، وهل يعاني الإنسان حين يتنفس؟
فهذا هو معنى زوال التكليف عند الأولياء.
أمَّا إن فهم شخصٌ أنهم رضي الله تعالى عنهم يقولون بالتحلل من الشريعة أو ترك الأوامر فهو جاهلٌ غبيٌّ مغفَّلٌ.
الإمام الجنيد رضي الله تعالى عنه ورحمه عندما كان على فراش الموت قال لإخوانه: أعطوني السُّبحة, وذلك ليقرأ وِرْدَهُ، فقالوا له: يا إمام, أنت الآن على فراش الموت، وقد قضيتَ عمرك كلَّه في طاعة الله والإقبال عليه، وأنت من كبار أولياء الله، وما زلّت قدمُك، وأنت راسخ القدم في معرفة الله وفي محبَّته وفي التزام الشريعة ... وأنت على فراش الموت تطلب أن تقرأ وِردَك؟ قال: ومَن أحقُّ مني بهذا وصحائفي تطوى؟
أبو يزيد البسطامي الوليُّ يقول: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فزِنوا أعماله على الكتاب والسنة، فإن وافقتهما فهو وليٌّ لله، وإلا فاضربوه بالنعال.
سيدي عبد القادر الجيلاني يقول: طِر إلى الله بجناحي الكتاب والسنة، وادخل عليه ويدُك في يد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذا سمعتَ شيئًا من هذا في كلام بعض أهل المحبَّة والمعرفة فإنهم لا يعنون إلا زوال الكلفة، أي زوال المشقَّة.
إذًا: التكليف من الكلفة، والكلفة المشقَّة.
واختلف العلماء في معنى التكليف: هل هو الطلب أم الإلزام؟
فالذين قالوا: إنَّ معنى التكليف هو الإلزام بما فيه مشقَّة, فقد حصروه في الواجب والمحرَّم، لأن الواجبَ إلزامٌ بفعلٍ, والمحرَّمَ إلزامٌ بتركٍ.
وأما الذين قالوا: إنَّ معنى التكليف هو الطلب, فقد أدخلوا في ذلك الواجبَ والمندوبَ والمحرَّمَ والمكروهَ.
لأن الواجبَ الشرعيَّ: ما طلب اللهُ فعلَه طلبًا جازمًا.
والمندوبَ الشرعيَّ: ما طلب اللهُ فعلَه طلبًا غيرَ جازمٍ، فكلاهما طلبُ فعل.
والمحرَّم: ما طلب ربُّنا تركَه طلبًا جازمًا.
والمكروه: ما طلب تركَه طلبًا غيرَ جازمٍ.
فالذين عرَّفوا التكليف بأنه إلزام قالوا: الأحكام التكليفيَّة هي الواجب والمحرَّم.
والذين قالوا: إن التكليف معناه الطلب, فقد أدخلوا الأحكام الأربعة: الوجوب والندب والكراهة والتحريم, وأُلحِقَ المباحُ إلحاقًا من باب التوسُّع والمجاز, لأن الأحكام الشرعيَّة خمسة.
فمن هو الذي كُلِّف؟
خلق الله سبحانه وتعالى مخلوقاتٍ كثيرة، لكنَّ المكلَّفَ منها هم الثقلان: الأنس والجنّ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن: 33].
والحقُّ سبحانه وتعالى يكرِّر خطابه في سورة الرحمن للإنس والجنّ فيقول: {فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا} أي يا معشر الإنس والجنّ.
وكان الجنّ كلما سمعوا قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} يقولون: (وَلا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ, فَلَكَ الحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ).
لذلك نبَّهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه لهذا الأمر, وأخبر بأنَّ الجنَّ أفقهُ منهم، أي في هذه المسألة لا عمومًا، فالإنسُ على العموم مقدَّمون على الجنِّ, لأن الله سبحانه وتعالى في حادثة عرش ملكة سبأ قال: {قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 39-40] وهو من الإنس.
فالمخاطب والمكلف هم الثقلان: الإنس والجنُّ.
لكن هل هناك شروط ليكون الإنسان مكلَّفًا؟
فالإنسان الذي هو في غيبوبة, أو في التخدير, أو في حالة الإغماء, أو الغياب عن الوعي ... هل هو مكلَّف؟
هناك شروط أربعة حتى يكون الإنسان مكلَّفًا وهي: البلوغ، والعقل، وبلوغ الدعوة، وسلامة الحواسّ.
فإذا تحقَّقت هذه الشروط الأربعة يكون مكلَّفًا, وهذا في حقِّ الإنس.
أما في حقِّ الجنِّ فشروط التكليف ثلاثة: بلوغُ الدعوة، وسلامةُ الحواسّ، والعقلُ, أما البلوغ فليس بشرط, لأن الله سبحانه وتعالى يخلق الجنِّيَّ منذ اللحظة الأولى كاملاً وبأهليَّة الرشد, أما الإنسان فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى مدَّةً زمنيَّةً يتهيّأ فيها ليصير صاحبَ بلوغٍ ورُشدٍ، وهي حوالي خمسةَ عشرَ سنة.
ولنا شواهد من الكائنات الحية: فعندما درسنا في كليَّة الطبِّ الفيروس والبكتيريا ... رأينا في أبحاث البيولوجيا أن الخلية الجديدة لحظة الانقسام تكون كاملة.
لكن الله سبحانه وتعالى جعل للإنس خصوصيَّة, وهي مرورهم بمرحلة من التهيئة، قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13-14] حيث يمرُّ بأول مرحلة التي سمَّاها ربُّنا الضعف، ثم القوة، ثم الضعف والشيبة..
فأوَّلُ شرطٍ في التكليف البلوغُ: فالصبيُّ الصغير الذي لم يصل بعدُ إلى سنِّ البلوغ غيرُ مكلَّف.
ويحصل البلوغ بالاحتلام أو برؤية الحيض بالنسبة للفتاة، وقد يكون هذا قبل سنِّ الخامسة عشر.
أما إذا لم يحصل الاحتلام ولم تر الفتاة علامات البلوغ, فالوصول إلى سنِّ الخامسة عشر يعني البلوغ، ويصبح الإنسان مع البلوغ مكلَّفًا تكليفًا تامًّا.
وأما سنُّ الثامنة عشر فهو مما اختُرع، فهم يعتمدونه في القوانين، لكنَّ ربَّنا سبحانه وتعالى اعتمد سنَّ الخامسة عشر لأن الإنسان في هذه السنِّ يصبح مكلَّفًا.
قد يقول قائل: إذا كان الطفل مميِّزًا وهو لم يصل بعدُ إلى سنِّ البلوغ، ألا يوجد تكليف؟
نقول: الذي توجَّهَ من الأوامر إلى الطفل قبل هذا السنِّ هو بمثابة الترويض والتدريب، كقوله عليه الصلاة والسلام: (مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ, وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)، فهذا ترويضٌ, فإذا وصل إلى سنِّ الخامسة عشر يكون عندئذٍ كاملاً ومدرَّبًا ومروَّضًا.
الشافعي رحمة الله عليه أتقن اللغة العربيَّة بكلِّ علومها وعمرُه خمسُ سنوات، وأتمَّ حفظ القرآن الكريم وعمرُه سبعُ سنوات، وكان قبل البلوغ يقف على المنبر ويخطب الجمعة ويصلي إمامًا بالناس, وهذا عند الشافعية يصحُّ, فإذا لم يكن الصبيُّ بالغًا لكنه مميِّزٌ ومُتقِنٌ وعالمٌ ... يصحُّ أن يقف ويصلي إمامًا، وكان لضعفه وصباه يشرب الماء في شهر رمضان، ويقول لهم: الحمد لله الذي أحلَّه لي وحرَّمه عليكم.
فإذا مات الطفل قبل البلوغ فهو ناجٍ وإن كان من أولاد الكفار، لأنه لم يصل إلى سنِّ التكليف، وهناك حديث في الصحيح يبيِّن أن أولاد المشركين والكفارِ يجتمعون حول سيِّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يوم القيامة.
فالصبي غير مكلَّف لأن البلوغ شرط.
الشرط الثاني العقلُ: فالمجنون غير مكلَّف, ومثلُ المجنونِ مَنْ كان غائبًا عن الوعي بسبب مرض أو سبات ... فأيُّ شيء يغيِّبه عن الشعور يُسقط عنه التكليف في حال غياب عقله أو غياب وعيِه وتمييزِه.
أما إذا وصل إلى سنِّ البلوغ ولم يكن مجنونًا, ثم جُنَّ بعد ذلك, فإنه يكون مكلَّفًا ومحاسَبًا, بخلاف ما إذا كان مجنونًا عند البلوغ.
فإذا كان جنونُه بعد البلوغ ثم مات وهو مجنون يكون محاسَبًا, لأنه وصل إلى سنِّ البلوغ قبل أن يجنَّ ولم يُقبِل على الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
لذلك إذا وردت عليك فرصةٌ للإيمان بالله فلا تتأخر, قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
الشرط الثالث بلوغُ الدعوة: فالذي لم تبلغه الدعوة ليس بمكلَّف, قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
وقد أرسل الله سبحانه وتعالى إلى كلِّ قومٍ رسولاً، وكان العرب قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، فلم تكن هناك رسالةٌ تكليفيَّةٌ موجّهةٌ إليهم، وهؤلاء يسمَّون أهل الفترة، وهم ناجون، ومنهم والدا النبيِّ صلى الله عليه وسلم: آمنة وعبد الله، لأنهما من أهل الفترة.
ماذا يقال بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
نقول: أُرسِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للعالمين، وواجبُ التبليغ لجميع العالم يقع على عاتق أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن آثمون إذا قصَّرنا في تبليغ الدعوة، فينبغي على الأمة الإسلامية أن تقوم بواجب التبليغ, وأن تبلغ الإسلام كما هو, ولو كان هذا التبليغ مختصرًا بمعانٍ أساسيَّةٍ وبثوابت كُبرى،
كأن يُقال: إن الله أرسل رسولاً اسمه محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم, وكان مؤيَّدًا بالمعجزات، وأنـزل معه كتابًا معجِزًا، وهذا الدين يدلُّ الإنسان على الفضائل وينظّم له حياته ويخبره عن الآخرة ... فمثل هذه العبارات المختصرة يعتبر تبليغًا.
صحيحٌ أنَّ التبليغ يجب أن يقوم به البعض لكي يسقط الإثم عن الجميع، لكن إذا حصل التقصير من الجميع كان الإثم عليهم جميعًا.
لكن هناك من تصله الدعوة مشوَّهة، فيسمع أن الإسلام هو الدين الذي يُذبح فيه الإنسان، فيقتُلُ فيه المسلمُ غيرَ المسلم، وهذا ما يعرفه عن الإسلام.
وقد سألني أحد القسس: لماذا يقترن السيف بكلمة: "لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله" عندكم؟ لمَ تتَّخذون السيف شعارًا؟
قلت: هذا ليس شعارنا بل شعار السعودية, فنحن شعارُنا: "لا إله إلا الله محمَّد رسول الله"، فالسيف لا يستعمل إلا من أجل ردِّ الظلم، وإزالة الحواجز، ومنع من يمنعون الإسلام فقط, فليس السيف من أولوياتنا.
فلو لم يوجد السيف أصلاً, ولم يدخل الناس في الإسلام, لكنهم امتنعوا عن قتالنا في الدين وإخراجنا من الأوطان, فلا نقاتلهم, فالذي يقاتلنا في ديننا أو في وطننا نقاتله.
فالسيف إذًا من أجل هذا فقط.
لذلك لو سئلت عن تصميم عَلَمٍ, أجعل شعارَه "لا إله إلا الله", وأجعل معها شجرة الزيتون، لأن الله سبحانه وتعالى جعله المثال والنموذج المعبِّر عن نوره, قال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور: 35] فَقَبْلَ أن تُجعَلَ الحمامتان والزيتون علمًا للسلام, جَعَلَ القرآنُ الزيتونَ شعارَ الإسلام.
فالذي وصله أن الإسلام هو عبارة عن قتل غير المسلم فقط، فهذا غير مكلَّف.
لكن إذا وصله أن الإسلام يدعو مثلاً إلى اقتصادٍ عادلٍ, ووصلت إليه بعض الأفكار (ولو واحدة) أن الإسلام فيه خيرٌ, فهذا مبلَّغ، لأنه مأمورٌ أن يبحث.
وأنا أتحدَّى أن يكون على وجه الأرض من ليس لديه إلا فكرة أن الإسلام يوزِّع السيوف على الناس، فلقد بدأ الناس يفكِّرون.
وقد قالت لي رئيسةُ جامعةٍ في أمريكا: قد يكون الوجه الإيجابي لأحداث الحادي عشر من أيلول أنها أيقظت الشعب الأمريكيَّ على حقيقة وجود إسلام، فبدأنا نقرأ عن الإسلام, حيث كان الشعب الأمريكيُّ مشغولاً في أعماله, فلما بدؤوا يقولون: مسلمون مسلمون ... فمِنْ باب حبِّ الاستطلاع والرغبة في المعرفة بدأنا نشتري الكتب التي تتحدث عن الإسلام, فلم يبق على وجه الأرض شخصٌ لا يعرف أن الإسلام فيه شيءٌ من الخير.
نحن لا نتحدَّث عن الذي يعرف الإسلام بعدالته الاجتماعية ومساواته وأخلاقه وكرمه وفضله ... فهذا أمرٌ آخر، نحن نتحدَّث فقط عن إنسانٍ يعرف أنَّ في الإسلام شيئًا من الخير, فهذا بَلَغَتْهُ الدعوة.
قد يقول قائل: أنتم تقولون: "إن أهل الفترة ناجون", وهناك في الأحاديث ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خصَّ بعض أسماءٍ من أهل الفترة, وقال: هم في النار، كحاتم الطائي وامرئ القيس.
وجواب العلماء على هذا:
للهِ سبحانه وتعالى أن يُعذِّبَ مَنْ شاء لأمرٍ يختصُّ به ويعلمه، إذ لا يوجد سلَّمُ علامات تعطيه لربِّنا وتقول له: هذا تعذِّبه وهذا لا تعذِّبه.
ولمّا وضع المعتزلة سلّم علامات لربِّنا, قال الإمام الأشعريُّ للجُبَّائيِّ: جلّت أحكامُ ذي الجلال, أن تُوزَن بميزان الاعتزال.
فليس على مولانا من واجب، فله سبحانه وتعالى أن يعذِّبَنا ولو كنا طائعين:
فَإِنْ يُثِبْنَا فَبِمَحْضِ الفَضْلِ
وَإِنْ يُعَذِّبْ فَبِمَحْضِ العَدْلِ
وهذا سيأتي في الجوهرة إن شاء الله تعالى.
الشرط الرابع سلامةُ الحواسِّ: والمقصود بها أن توجد حاسَّتا السمع أو البصر، فإذا غابتا معًا سقط التكليف، لأن الإنسان يرى وإن غاب السمع، ويسمع وإن غاب البصر، لكن إن غاب السمع والبصر معًا يسقط عنه التكليف.
ثم إن التكليف يتناسب مع استطاعة الإنسان, قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286], وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
فإذا كان الإنسان عاجزًا عن القيام في الصلاة يسقط عنه القيام، وإذا كان غير قادر على الصلاة إلا بعينيه يصلي بعينيه، فهذه هي منطقية الإسلام، ومنطقية التشريع.
فبسبب سلامة الحواسّ يصبح الإنسان متناسبًا مع التكليف الذي يقدر عليه.
فإذا آتاك الله بصرًا فاستعمله فيما طلب منك، وإذا أعطاك عقلاً فاستعمله فيما طلب منك، وإذا أعطاك لمسًا, أو ذوقًا، أو سمعًا، أو رِجْلاً, أو يدًا ... فاستعمل كلَّ ذلك فيما طلب منك.
إذًا: فالمكلَّف هو البالغ العاقل الذي بلغته الدعوة وكان سليمَ الحواسّ.
ثم قال: فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا, فأهل الاعتزال قالوا: الإنسان مكلَّفٌ بعقله، أي لو لم يُرسِلِ المولى رُسُلاً ولا نـزلت شرائع فهو مكلَّف.
فردَّ على ذلك أهلُ السنة وقالوا: بل التكليف شرعيٌّ ليس عقليًّا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فلا يصحُّ التكليف بالعقل، بل بالشرع، والله سبحانه وتعالى هو الذي بيّن لنا القبيح من الحَسَنِ.
فالمعتمد عند أهل السنة والجماعة أن الحسنَ ما حسَّنَه الشرع، والقبيحَ ما قبَّحَه الشرع، لا ما استحسَنَتْه الآراء والأهواء.
فإذا تبيَّنَ بالشريعة أنَّ هذا الشيء حسنٌ فلا تستقبحْه، وإذا تبيَّنَ أنه قبيحٌ فلا تستحسنْه.
ثم قال: فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا وَجَبَا, أي افتُرِضَ عليه أو فُرِضَ، فهي من الأحكام الشرعيَّة الخمسة، أي من الواجب الشرعيِّ الذي هو أحد الأحكام الخمسة.
أما وجب الثانية: "عَلَيْه أَنْ يَعْرِفَ مَا قَدْ وَجبَا" فهي من الأحكام العقليَّة، وليس هذا وقتُ بيانها, فهي مما سنُبَيِّنُه لدى حديثنا عن الباب، لكننا (كما ذكرنا) قبل الباب.
ثم قال: عَلَيْه أَنْ يَعْرِفَ, والمعرفةُ: هي العلمُ, وقد تقدَّم ذكرُها عند بيان معنى قوله: "وَبَعْدُ, فَالعِلْمُ بِأَصْلِ الدِّيْنِ"، وبَيَّنَّا أن العلم هو الجزم المطابق للواقع عن دليل، فالمعرفة كذلك هي الجزم المطابق للواقع عن دليل.
- فإذا لم يكن جازمًا, بأن شكَّ أو ظنَّ أو توهَّمَ, فلا يكون صاحبَ معرفة.
- وإذا جزم بجزمٍ غيرِ موافقٍ للحقيقة, كأن جزم بأن الله تعالى ثلاثة, فهذا لا يكون صاحبَ معرفة, بل هو صاحبُ جهل, فلا بد أن يكون جزمُه مطابقًا للواقع.
- وإن جزم جزمًا مطابقًا للواقع ولم يكن عنده دليلٌ عقليٌّ أصلاً، فلا يكون صاحبَ معرفة, إنَّما يسمَّى مقلِّدًا.
ويكفي في الدليل العقليُّ أن يقول: هذا الكون صنعة، والصنعة لا بد لها من صانع.
والمقلِّدُ إيمانُه مقبولٌ، لكنَّه عاصٍ لله إن كان قادرًا على النظر ولم ينظر, لأن الله سبحانه وتعالى أَمَرَنَا أن نوظِّف عقولَنا، فيجب أن نستعملها فيما خُلِقَتْ من أجله، وقد خلقت لنفكِّرَ بها.
فإذا قلَّد وجزم جزمًا مطابقًا للواقع دون أن يفكِّر، ودون أن ينظر, فإيمانُه مقبولٌ, لكنَّه عاصٍ لله سبحانه وتعالى.
وبهذا نكون قد انتقلنا من مرحلة ما قبل الباب إلى مرحلة الباب, ليكون البحث القادم إن شاء الله تعالى حديثًا في الباب, وبعد ذلك ندخل إلى ما وراء الباب في علم التوحيد وتفصيلاته.
نسأل الله سبحانه وتعالى القبول, والحمد لله ربِّ العالمين.
|