بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، اللهم صلِّ على سيِّدنا محمَّد عبدك ورسولك النبيِّ الأمِّيِّ وعلى آله وصحبه وسلم.
قال صاحب الجوهرة الإمام اللقاني رحمة الله عليه:
مُحَمَّدُ العَاقِبْ لِرُسْلِ رَبِّهِ............وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَحِزْبِهِ
ما يزال الإمام رحمة الله عليه في مقدِّمته، وبعد أن ذكر الوصف الذي هو النبيُّ, صلى الله على نبيّنا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى آل كلٍّ وصحب كلٍّ وسلم، صرَّح باسمه صلى الله عليه وسلم، فقال:
مُحَمَّدُ العَاقِبْ لِرُسْلِ رَبِّهِ, والاسم الشريف (محمَّد) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أصله من: حُمِّد, فهو مُحمَّد، وهو أبلغ من قولهم: حُمِدَ فهو مَحْمود، و(حُمِّد) للمبالغة فهو (مُحمَّد).
ومن أسمائه الشريفة: أحمد، وهو اسمٌ ورد أيضًا في القرآن الكريم، فالاسم (محمَّد) يفيد أنه ممدوح، أي أنه يُحمَدُ في صفاته وأخلاقه وأفعاله، فإذا نظرتَ إليه صلى الله عليه وسلم في ذاته وصفاته وأفعاله حَمِدْتَه، أما الاسم (أحمد) فيُفيد كثرة حمده لله، أي أنه يحمد الله سبحانه كثيرًا، أما الاسمان (محمَّد ومحمود) فمعناهما أنه صلى الله عليه وسلم يُحمَد فيما يُرى من سيرته العطِرة وشمائله الطيبة المباركة الكريمة.
فهو صلى الله عليه وسلم ممدوحٌ, قد حُمِدَ فأثنى اللهُ سبحانه وتعالى عليه، وكم نقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى من الثناء عليه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم, قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1-4] وحَمِد صدره، ولسانه، ونُطقه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4] وحَمِد ثباته: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] وحمد أدبه وحياءه وخُلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إذًا هو محمودٌ مُمتدَحٌ عند الله، كما تحمده الملائكة أيضًا وتُصلّي عليه وتُثني عليه, صلى الله عليه وسلم، ويحمده الرُسل، وكم ورد في الأخبار عن الرسل عليهم الصلاة والسلام الثناءُ والحمدُ عليه، بل وإن كلَّ العقلاء يحمدون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرون فيه من صفات الكمال.
ويعرف أكثركم أن الباحث المُجرَّد وضع للحاسوب صفاتٍ عامَّةً، وغذّاه بالصفات الكمالية عند عظماء البشر، وذكر من جملتهم سيِّدَنا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وهو كافر ليس بمسلم إنما يُجري نوعًا من الدراسة الاستقرائية بين البشر من خلال الحاسوب، فكان الأول وفق المعايير الكمالية سيِّدَنا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وهذه قضية أصبحت مشهورة في هذا العصر.
ثم إن الحمد موضوعٌ كثير الأهمية في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه وأمته وفي ما سيؤول الأمر إليه:
- فاسمه صلى الله عليه وسلم: محمَّد وأحمد ومحمود.
- وأمته ورد وصفها في الكتب السابقة بأنها: أمّة الحمّادين.
- وأتباعه صلى الله عليه وسلم ورد وصفهم في الكتب السابقة بأنهم: الحمّادون، أي يحمدون الله في السَّرَّاء والضَّرَّاء: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ, إِنّ أَمْرَهُ كُلّهُ له خَيْرٌ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ), فهو يحمد الله تعالى.
ونذكر هنا مسألة:
هناك بعض الناس يحفظون عبارة: الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سِواه, وهي عبارةٌ فيها سوءُ أدبٍ مع الله سبحانه، فإذا أردت أن تحمد الله في ضرَّاء أو مكروه أو شِدة أو مِحنة، فقل: الحمد لله على كلِّ حال, لأن أفعال الله سبحانه وتعالى كلَّها أفعالٌ خَيِّرة، فلا ينبغي أدبًا مع الله جلَّ وعلا أن يُذكَرَ مثلُ هذا، وإذا أردت حمد الله على خير أو نعمة أصابتك فقل: الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.
إذًا: في الضراء قل: الحمد لله على كلِّ حال, وفي السراء قل: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
- ثم إن أول ما نفتتح به الصلاة: الحمد لله رب العالمين, فالصلاة التي هي عمادُ الدِين والركنُ الأهم في العبادات، أول ما يُفتتح فيها بالحمد.
- ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يفتتح رسائله وكتبه وخطبه بالحمد لله.
- ثم إن لواء الحمد بيده صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وسيِّدُنا آدم فمن دونه تحت هذا اللواء، لأنه أعظم لواء، فهنيئًا لأتباع سيِّدِنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وإن كان أعداؤهم يريدون إذلالهم، لكنهم الأعلى، لأنهم ينتسبون للِّواء الأعلى.
قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا} أي إياكم أن تشعروا بالهوان, {وَلاَ تَحْزَنُوا} مهما رأيتم وزراء يُختطفون ويُعتقلون، فلو لم يكونوا إسلاميين وصادقين لن يحصل هذا، إذ لو كانوا عملاء وموالين فلن يجرؤ أحدٌ على مثل هذا، ويقولون في المنطق الدولي: "هذا له حصانة دبلوماسية وسياسية"، لكن نُسفت كل هذه الكلمات حينما كان إسلاميًّا.
فأعداء الله يعتبرون أن الإسلام عدوٌّ لهم، لكن هذا لا يُؤثِّر على أهل الاستقامة والثبات، لأنهم يستمدّون من قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} مهما أصابكم من المِحَنِ والشدائد, {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] فأنتم تنتسبون إلى من يحمل لواء الحمد، فيُحمَدُ بكلِّ ما في ذاته وصفاته وأفعاله وسلوكه وهديه وإرشاده وعلومه وعمله ...
وهكذا ينتسب المؤمن إلى هذا النبيِّ الكريم، حاملِ لواء الحمد، فيكون الأعلى {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالإيمان هو الذي يُلحقك بصاحب لواء الحمد صلى الله عليه وسلم، فتكون ممن قال فيهم ربُّنا: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}.
- ثم حينما يذهب ويسجد تحت العرش حتى يشفع في الخلائق، يفتح اللهُ عليه من المحامد التي يَحْمَدُ اللهَ بها، فما حَمِد اللهَ بها أحدٌ غيرُه, ويقول له: اشفع تُشفَّع.
وهذا كله من معاني: "محمَّد" صلى الله عليه وسلم.
- وهو صاحب المقام المحمود المُصرَّح به في القرآن الكريم، قال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79] وإذا قال ربُّنا: عسى, فهي تفيد التحقيق، أي إن الأمر محقَّق.
وحينما يشفع صلى الله عليه وسلم لكلِّ الناس، يستفيد من تلك الشفاعة حتى الكفارُ، لأنهم يقفون يوم الحشر منتظرين خمسين ألف سنة، والشمس قد دنت من رؤوسهم، ومنهم من يلجمه العَرَقُ (أي: يغرق في عَرَقه), فهم لا يقفون يومًا فقط, ولا سنة ولا سنتين ولا ثلاثة ... بل خمسين ألف سنة, فيتدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشفع لهم طالبًا من ربِّه أن يحاسِبهم، فهم يتمنَّون أن يُساقون ولو إلى نار جهنَّم، لأن الانتظار صعب، إلا أهلُ الإيمان الذين يكونون على منابر النور، المُظلَّلين في ظل العرش, (سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ اللهُ في ظِلّهِ يَوْمَ لا ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ بالمَسَاجِد..) الحديث.
وحينما يشفع صلى الله عليه وسلم يحمدُه كلُّ الناس، لأن كلَّ الرسل يعتذرون عن الشفاعة، وهو وحده صلى الله عليه وسلم الذي يشفع، فيحمدُه أهل الموقف كلُّهم.
- ثم إنه صلى الله عليه وسلم بكلِّ مضمونات ذاته وصفاته وهديه وإرشاده وعلمه وعمله ... محمودٌ, فكلُّ مَنْ تأمَّل في ذلك يَحمَدُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يُستأنس به (أي: ليس من الأدلة أو الشواهد) ما ورد في حديث ضعيف، رواه ابن عدي وابن عساكر وغيرهم: (اسمي في القرآن محمّد، وفي الإنجيل أحمد، وفي التوراة أَحْيَد), والذي يُشجِّعُ على ذكره مع ضعفه أن الإمام النووي رحمة الله عليه ذَكَرَه, وهو مُحدِّث وفقيه وعالم يُعتدّ بعلمه، فإننا نَذكره كما ذكره الإمام النووي اتباعًا وتأسيًا.
وسُمّي صلى الله عليه وسلم (أحيد) لأنه يُحيّد أمته ويُبعدها عن نار جهنم.
وأشرف أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم: محمد, فكما أن الاسم الجامع لكل أسماء المولى سبحانه وتعالى: "الله", فكذلك الاسم الجامع لكل الأسماء النبوية: "محمَّد"، فهو أشرف الأسماء.
ثم إن أسماء الحقِّ توقيفية, أي لا يجوز أن نُطْلِقَ على الحقَّ تعالى إلا ما أَطْلَقَ على نفسه، كالقدوس والسلام والمؤمن والمهيمن والعزيز والجبَّار ... فهو الذي سمّى نفسه بها، وهذه من المسائل الخلافية بين العلماء: هل أسماء الحقِّ تعالى توقيفية أم لا؟ أي هل يصح أن نقول: إن الله صانعُ الكون، أو مُبدِعُ الكون, أو مهندسُ الكون (كما يسترسل بعض الأدباء) ...؟
فهذا من المسائل الخلافية بين علماء التوحيد، فبعضهم قال: إذا أطلقت إطلاقًا يفيد الكمال فيصحّ، وبعضهم قال: بل هي توقيفية.
وهذا بالنسبة لأسماء مولانا سبحانه، أما بالنسبة لأسماء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يوجد خلاف بين العلماء في أنها توقيفية, لأن الإنسان قد يتساهل في حقِّ من كان من البشر، لكنه أمام الذات الأقدس سبحانه يأخذ بالأحوط, لهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالأسماء التي سمّاه الله بها.
وجدُّه عبد المطلب هو الذي سمّاه محمَّدًا على الصحيح، وفي رواية أضعف أمُّه، إلا أن المُسمّي له على الحقيقة إنما هو الله سبحانه، فهو الذي بيده القلوب، وبيده سلوك الناس، وهو الذي أظهر اسمَه قبل أن يُولَد حين بَشَّر به، وفي الإنجيل جاء اسمه أيضًا على لسان سيِّدنا عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
ثم قال: العَاقِبْ, فأتى باسم آخر من أسماء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو "العاقب"، ومعناه: الذي ليس بعده نبيّ, قال صلى الله عليه وسلم لسيِّدنا عليّ: (أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى, إِلا أَنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي), وجاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ, وَأَنَا أَحْمَدُ, وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ, وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ, وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ) وهذه رواية مسلم, وفي رواية الطبراني: (وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لا نَبِيَّ بَعْدِي) أي هو النبيُّ الذي ليس بعده نبيٌّ، وهو الرسول الخاتم الذي خُتمت به كلُّ الرسالات.
ثم لِمَ اختار الناظم هذا الاسم "العاقب" مع أن هناك تكلُّفًا، إذ اضطُر لتسكينه وينبغي أن يكون مرفوعًا، وكان من الممكن أن يختار بعض الأسماء التي لا يحتاج معها إلى التجوُّز, وكلها أسماء تصح في الوزن العروضي, كقوله: (محمَّد الهادي), أو (محمَّد الماحي)؟
نقول: ليدلَّ على أنه صلى الله عليه وسلم صاحبُ الشرع الناسخ للشرائع السابقة.
وهذه مسألة من مسائل علم التوحيد المهمَّة والضرورية، والتي ينبغي التركيز عليها والتنبيه إليها، لأن كثيرًا من الناس يغفلون عن هذه الحقيقة، وخاصَّة مع حَمْلَةِ التهويد التي تقودها اليهودية، وتنشر بين الناس أن هذه الشرائع شرائع سماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام شرائع سماوية، فاختر أي شريعة تريد.
وهذا كذب وافتراء، وهذا تهويد لحقائق أمتنا وثوابتها، والحقيقة التي منكرها يكفر هي أن شَرْع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخ لكل الشرائع.
فأتى بالاسم "العاقب" حتى يُؤكِّدَ حقيقة النسخ، وأن شرعه صلى الله عليه وسلم ناسخ للشرائع التي قبلها.
ثم هو صلى الله عليه وسلم الثمرة العظمى لكل الرسالات, وهل تُزرَع الشجرةُ أولاً، أم تأتي الثمرة؟
ولذلك كان آخر الرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه ثمرة كل الرسالات، وهو الجامع لكل الكمالات في الشرائع السابقة.
ثم قال: لِرُسْلِ رَبِّهِ, ولم يقل: لأنبياء ربِّه, لأن الموطنَ هنا موطنُ مدحٍ، ومقام الرسول أشرف من مقام النبيِّ، لأن كل رسول هو نبيٌّ، فقوله: رسول، جامع للوصفين: النبيّ والرسول.
فلا يكون رسولٌ إلا وهو نبيٌّ، لذلك اختار الوصفَ الأكملَ فقال: "لِرُسْلِ رَبِّهِ", وفي بداية النظم قال: "عَلَى نَبِيٍّ جَاءَ بِالتَّوْحِيدِ"، لأن معنى النبوَّة عِلْمٌ، وهو يتحدث عن علم، والمقامُ هنا مقامُ مدحٍ، فاختار الوصفَ الأكملَ الذي هو وصف الرسول, وإذا صرَّح بالرسالة فالنبوَّة إذًا مُتضمَّنَة.
قال: لِرُسْلِ رَبِّهِ, والربُّ هو: المالك, مثل: ربُّ المصنع، وربُّ العمل, وربُّ الأسرة ...
وأيضًا من معاني الربّ: السيد, والمصلِحُ، أي مصلحُ الشيء الذي يسلك به طريق التربية, والمُدبِّرُ له، والجابرُ لكسره، والقائمُ على أمره، والمعبودُ ... فهذه كلها من أسماء الربّ:
- فالله سبحانه وتعالى هو مالكُ الكون.
- وسيّدُه.
- ومُصلِحُ أمره.
- ومُدبِّرُ شؤونه.
- وهو الجابر لكسره، ومن أسماء الله الجبَّارُ، فقال بعضهم: الجبَّار من الأسماء الجمالية لأنه يجبر الكسر، وبعضهم قال: الجبَّار من الجبروت والعظمة.
- وهو القائم على الشؤون {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] فهو سبحانه وتعالى القائم على شؤون المملكة، وهو ملك الملوك سبحانه.
- وهو المعبود بحقٍّ وحده، وما سواه معبودات باطلة، فمن الناس من يعبد هواه، ومنهم من يعبد شهوته، ومنهم من يعبد الأشياء، ومنهم من يعبد المطامع ... أما المعبود بحقٍّ فهو واحد وهو الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أَدَّبَنِيْ رَبِّي), فما قال: أدَّبني العزيز, أو أدبني القدُّوس ... إنما قال: (أَدَّبَنِيْ رَبَّي), فاختار الاسم المتناسب مع التأديب، الذي هو الاسم "الربّ".
ثم قال: وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَحِزْبِهِ, فما معنى الآل؟
في مقام الدعاء هو كلُّ مؤمن، كقولنا: (اللهم صلِّ على سيِّدنا محمَّد وعلى آل سيِّدنا محمَّد، وبارك على سيِّدنا محمد وعلى آل سيِّدنا محمد), وفي مقام المدح هو كلُّ مؤمنٍ تقيّ, وأما في مقام الزكاة (أي تحريم أخذ مال الزكاة) فقد خَصَّ المولى سبحانه وتعالى أصحاب النسب الشريف, المنتسبين إلى سيدنا رسول الله باللحم والبشرة، أي سلالة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قرابته, فقد كرَّمهم ربُّنا وحرَّم عليهم أن يأخذوا من أوساخ الناس.
ورد في صحيح مسلم: (إِنّ هَذِهِ الصّدَقَاتِ) أي الزكاة (إِنّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النّاسِ) لأن الإنسان يتطهَّر بها {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] فهذه الأموال التي يخرجها الإنسان بالزكاة تطهره، فلا يقبل الله سبحانه وتعالى أن تؤخذ أوساخُ الناس لينالها قرابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم, (وَإِنّها لا تَحِلّ لِمُحَمّدٍ وَلاَ لآلِ مُحَمّدٍ) صلى الله عليه وسلم.
وربما دخل إلى بيت النبيِّ عليه الصلاة والسلام تمرُ الصدقة، أي التمرُ الذي يؤخذ من الزكاة، وقد يأتي صلى الله عليه وسلم إلى بيته جائعًا، فيجد على فراشه تمرة، وهذه التمرة قد تكون من تمر بيته المُشترى، أو الذي قُدِّم له هدية، أو قد تكون ساقطة من تمر الصدقة، فهي مجهولة الأصل، فعندما يراها صلى الله عليه وسلم على فراشه، ولا يوجد في بيته تمرٌ أبدًا, يخاف أن تكون قد سقطت من تمر الصدقة، فيمتنع عن أكلها، وهذا من ورعه صلى الله عليه وسلم.
قد يقول قائل: ربُّنا سبحانه وتعالى يُعرِّف سيِّدَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قرآن ينـزل من فوق سبع سماوات، وهو صلى الله عليه وسلم يُخبر عن أشياء بعيدة، ويأتيه السائل فيقول صلى الله عليه وسلم له: أتريد أن أخبرك بما جئت تسألني عنه؟ فلماذا لا يُعرِّفه المولى: هل جاءت هذه التمرة من الصدقة أم من الهدية؟
نقول: هذا ليَظْهَرَ لنا مقامُ سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكي نرى ورعَه، فستر الله عنه أصلَ هذه التمرة ليظهر لنا مقامُ ورعه صلى الله عليه وسلم.
مدَّ سيِّدنا الحسن يده مرَّةً إلى تمر الصدقة وهو جائع, وكان صغيرًا، وهو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد في البيت إلا منه، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه وقال له: (كخ كخ), لأنه لا يجوز لأهل البيت أن يأخذوا من تمر الصدقة، وهذا من الخصوصيات، لكن الله سبحانه وتعالى أعطى آل البيت شيئًا آخر, فعندما تكون الدولة إسلامية، وبيت المال الإسلامي موجودًا، فلهم خُمس الخُمس.
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل بيته دعاءً في الحديث الصحيح، فقال: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا) أي ارزقهم الكفاف وهم في هذه الدنيا فلا يحتاجون لأحد قطّ، أما التجميع والكرامات العظيمة فهو مُخبّأ للآخرة.
ورأى بعض المجتهدين أن أخذ آل البيت من مال الزكاة بعد تعطيل بيت المال عند الاضطرار هو كأكل لحم المَيتة للذي يخشى على نفسه الهلاك.
ورأى بعضهم ألا يأخذ إلا من زكاة آل البيت حتى عند الاضطرار (كما عند تعطيل بيت المال).
فمن أراد أن يتمسك بالأصل, لا يأخذ حتى من هذا المصدر, إذا كان على منهج الورع، ونسأل الله أن يعيد مجد الإسلام والمسلمين.
إذًا: الآل:
* في مقام الدعاء: كلُّ مؤمن.
* وفي مقام المدح: كلُّ مؤمنٍ تقيّ.
* وفي مقام الزكاة يوجد تفصيلٌ في المذاهب:
- فعند الشافعية: هم بنو هاشم وبنو المطلب، والمطلب هو أخو هاشم، أي هو عمُّ عبد المطلب جدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودليل الشافعي رحمه الله: عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم شِعب أبي طالب، دخل معهم بنو المطلب, فكانوا القربى، وكان يعطيهم صلى الله عليه وسلم كما يعطي بني هاشم.
- وعند المالكية والحنابلة: هم بنو هاشم فقط.
- وعند الحنفية: هم خمسة أنساب: آل سيدنا علي، وآل سيدنا جعفر، وآل عقيل، وآل العباس، وآل الحارث.
ثم إن أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم هُنَّ من آل بيته، وهذه خصوصية، إذ لم يحصل لهن النسب، لكن حصل لهن السبب، لأنهن شديدات القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والاتصال به، ومحرَّماتٌ على غيره بعد وفاته، فهذا السبب قائم مقام النسب، كما ورد في القرآن الكريم قوله سبحانه: {رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] وهذا في حق امرأة سيِّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: وَصَحْبِهِ, والصاحب أو الصحابيّ هو: الذي اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته, وآمن به.
فبحيرا اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا كان قبل بعثته، فلا يُسمى صحابيًّا, وكذلك أبو جهل اجتمع به, لكنه لم يؤمن به, فليس بصحابيّ.
إذًا: يُشترط الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم, مع الإيمان به.
فهل تُشترط الرؤية؟
لا، فسيِّدنا عبد الله بن أمِّ مكتوم ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أعمى، لكنه اجتمع به, فهو صحابيّ.
إذًا: فكلُّ من اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته وآمن به فهو صحابيّ, حتى وإن كان لم يره بسبب العمى (في بصره لا في البصيرة).
فهل يُشترط أن يروي عنه؟
لا، فقد لا يروي عنه شيئًا, لكنه صحابيّ.
فإذا ارتدَّ، هل تثبت له الصحبة؟
نقول:
- عبد الله بن خطل، اجتمع به صلى الله عليه وسلم بعد البعثة وآمن به، ثم ارتدَّ ومات مرتدًّا, فهذا ليس بصحابيّ.
- وهناك من يعود إلى الإيمان بعد الردّة، كعبد الله بن أبي سَرْح، فتعود له الصحبة، لكن دون ثوابها وفضلها، لأنه فَقَد فضلها بسبب الردّة.
- أما إذا اجتمع به بعد البعثة وآمن به، وارتدَّ ولم يعُد للإسلام إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون تابعيًّا وليس بصحابيّ، لأنه اجتمع بعد إسلامه بصحابة، ولم يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس له حكمُ الصحابيّ بل حكمُ التابعيّ.
- وهناك من اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وقبل أن يُدفن، فقد اجتمع به صلى الله عليه وسلم بعد البعثة وآمن به، لكن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان مُسجّى على فراشه, وقد انتقل إلى الرفيق الأعلى، ورآه قبل أن يُدفن, ومن أمثلة هؤلاء: الشاعر الشهير أبو ذؤيب الهذلي, حيث جاء فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، فسلّم عليه وقبّله, وحصل له شرف رؤية الجسد الشريف، لكنه لا يُسمى صحابيًّا، لأنه ينبغي أن يجتمع به حال حياته الدنيوية صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
هل يعتبر سيِّدُنا عيسى عليه الصلاة والسلام صحابيًّا وقد اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في السماء؟
هناك خلاف بين العلماء: فسيدنا عيسى اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته وآمن به وصدّقه، وسينـزل مؤمنًا به، لكن بعضهم اشترط أن يكون هذا في محل التكليف (أي في الأرض) ليكون صحابيًّا, فالاجتماع في السماء يمكن أن يُعتبر, وقال بعضهم: لا يعتبر، بل يجب أن يكون في محل التكليف.
فعلى قول من اعتبره يكون سيِّدُنا عيسى عليه الصلاة والسلام أفضل الأصحاب، على أنه عندما ينـزل، لا ينـزل باعتبار نبوته ورسالته، بل ينـزل تابعًا لسيدنا محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: وَحِزْبِهِ, أي وجماعته, وما معنى جماعته؟
- ذهب بعضهم إلى أن حزبه هم أخصُّ من أصحابه، أي هم صفوة أصحابه، أي المقرَّبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الذين ثبتت لهم الصحبة أكثر من مائة ألف صحابيّ اجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، والأصحاب كلهم عدول، وإياكم أن تلتفتوا إلى من يُسيء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحُجة حُبِّ آل البيت، فنحن نحبُّ آلَ بيت رسول الله، ونحب أصحاب رسول الله، ولا نُسيء إلى أحد منهم، فنحب أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا، ونحب العشرة المُبشَّرين ... فهؤلاء اختارهم الله، وأكرمهم وشرِّفهم, فكانوا مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] وامتدح المهاجرين، وامتدح الأنصار, فلا يمكن لنا أن نُسيء إلى هذا المقام الشريف العظيم، ففضل الصحبة لا يعدله شيء.
فلو ذكرت أفضل الأقطاب والأولياء والشيوخ والعلماء ... فإنه لا يرقى إلى فضل صحابيٍّ أبدًا, فهذا صحابيّ, وما أدراك ما الصحابيّ؟!
وسيدنا عمر بن عبد العزيز قال كلمة عظيمة: "إن الله عَصَم سيوفنا من دمائهم، فنعصم ألسنتنا أن تلوك أعراض هذه الثلة العظيمة الشريفة".
ومن غباء الإنسان أن يفتح صفحات التاريخ، ويجعل نفسه حاكمًا على جيل له شرف الصحبة وفضله.
ينبغي أن نوسِّع دائرة الفِكر، وأن نوسّع الصدور، وألا ندخل في هذه التُّرَّهات، بل علينا أن نلتزم الأدب مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعشقَ آلَ بيته، ونحبَّ ونعظّمَ أصحابه، ونقطع لسان من يُسيء إليهم، لأنهم رموز إسلاميَّة، فلا نسمح بالإساءة إليها أبدًا, بل يجب احترام الرموز.
إذا أردتُ أن أكرِّمك كإنسان، فعليَّ أن أحترم الرموز التي تُعظّمُها، فلذلك من حقوق الإنسان أن تُحفَظ رموزُه ومقدّساته, فلا ينبغي أن يُسمح لأحد بالإساءة إلى مقام أصحاب سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وذهب بعضهم إلى أنهم كل أتباعه, أي هم الدائرة الأوسع من الأصحاب، أي هم كل من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، فنكون نحن من حزبه صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أميل إليه.
فحزب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل من تبعه إلى يوم القيامة، وهذا أحسن من التخصيص، لأنك تلاحظ أنه ذَكَرَ الآل، ثم ذَكَرَ المساحة الأوسع التي هي الأصحاب، ثم ذَكَرَ الحزب الذي هو المساحة الأوسع من مساحة الأصحاب, فيكون معنى حزبه أي أتباعه إلى يوم القيامة.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من حزب رسول الله صلى الله عليه وسلم, والحمد لله ربِّ العالمين.
|