قال الله تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].أصل الفعل: سَبَقَ، ولمَّا طلب سبحانه التسابقَ قال: "استبقوا"، فأضاف هذه الأحرف الزائدة ليُشعر الإنسانَ بهذا الطلب المتوجه إليه من الله تبارك وتعالى, وهو يطلب منه أن يكون من السابقين.وهذه الآية فيها كلمتان, لكنها عنوان كبير يحوي مضمونات لا حصر لها:الأولى: فيها طلب السباق والاستباق، والثانية: الخيرات.أما الكلمة الأولى {فَاسْتَبِقُواْ}: فهي عنوان على الركن الثالث من أركان هذا الدين الذي هو الإحسان, فتارة عبَّر عنه بالإحسان, وتارة عبَّر عنه بالسبق، وذلك بقوله: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 7-11] فجعل القربَ لأصحاب السبق, وفي الآية السابقة: استبق وطلب السبق, وهنا قد ينحصر فهم الإنسان فيها في عالمه المادي، وهذا لا يسمى سبقًا, إنما يسمى تفاخرًا وتكاثرًا في الأموال والأولاد، وما ورد في القرآن الكريم لفظ السبق بهذا المعنى، إنما أتى به بعبارات التكاثر والتفاخر: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ} [الحديد: 20] فهذا هو العالم المادي الذي يتفاخر بالزينة, ويتكاثر في المادية.وفي موضع آخر في القرآن الكريم قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] فجعل هذا النوع المادي شاغلاً حينما يكون توجُّهُ الإنسان مجرَّدًا إليه, وقال سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].فانحصار نظر الإنسان في عالمه المادي يسمى تكاثرًا ولا يسمى تسابقًا، لأن السبق ينبغي أن يكون سبقًا في المعنى, ثم تـتبعه المادة، فتبعية المادة للمعنى تُلحِقُها بالمعنى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ، وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 200-201] فهذا هو التوازن الذي يُتبع الدنيا للآخرة، فيكون السبق للمعنى أصلاً.قد يقول قائل: إن قوله تعالى: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} طلبٌ, فأين يوجد معنى التبعية؟نقول: أول ما خرج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله, قال له سبحانه: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولَى} [الضحى: 4] وقال في موضع آخر: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] وقال: {مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النساء: 134] ففهمنا أن قصد المادة المجرَّد لا يُلتفت إليه ولا يُعتبر في مضمار السبق أبدًا، بل أمر نبيَّه أن يُعرض إعراضًا تامًّا عن أصحاب المادية المجردة وذلك بقوله: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29] فهذا هو الانحصار في التكاثر: حيث في نومه يفكر بالمادة، وفي نهاره يفكر بالمادة، وفي مقاصده يفكر بالمادة ... فهذا كله لا قيمة له, ويأمر الله نبيَّه أن يعرض عنه.لكن حينما تتبع المادَّة المعنى يدخل الإنسان في حلبة السباق، فتلتحق المادَّةُ وتَتْبَعُه {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] وإرادة الدنيا والآخرة مندرجة ومستهلكة ومستغرقة في إرادة الحق تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28].وقوله تعالى: {فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي إذا طلبت اللهَ تَبِعَتْ مخلوقاتُه المسخَّرةُ لك والتي منها الدنيا والآخرة هذا المقصودَ الأعظم.وهكذا يرتقي الإنسان في السبق، فإذا تحقَّق له هذا المقصودُ: "يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" يصير من أهل السبق لأن الحق سبحانه يُتبع المُسخَّر للمسخَّرِ له، فتخدمه الدنيا والآخرة.فإذا انتقلنا إلى الكلمة الثانية {الْخَيْرَاتِ}: نجد أنه سبحانه أورد في بعض الآيات لفظ الخير مفردًا ليشير إلى الجنس {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] لكنه صرَّح هنا بالكثرة حين قال: {الْخَيْرَاتِ} وهذه الكثرة تفيد التباين, وإلا لما صح أن يَجمع، فلو كانت كلها من نوع واحد لما صح أن يقول: "الْخَيْرَاتِ", إذ من الخيرات ما هو حسِّيٌّ، ومنها ما هو معنوي, ولقد ورد في الحديث أن رجلاً لم يعمل خيرًا قط, أزال عن طريق الناس غصنَ شوكٍ, فشكر اللهُ له فغَفَرَ له، وهذا من الخير الحسي.والخير الحسي نوعان: خير حسي يلتحق بالمعاملة، وخير حسي يلتحق بالعبادة، فإذا صلى العبد فهذا خير، وإذا أنفق الزكاة، وكذلك الحركة المالية ... وهذا بقطع النظر عن المعاني الباطنة للصلاة أو الزكاة أو الحج أو الصيام ... فمجرد الوصف الظاهر في العبادة هو خير، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلاً يصلي لكنه يفعل كذا وكذا من الأعمال غير المتناسبة مع صلاته, فقال: (سَتَنْهَاهُ صَلاتُهُ), وهذا يعني أن هذا الخير الحسي سوف يطرد الشرَّ الحسِّيّ، فإذا دُعِّم هذا الخير الحسي بخير معنوي, يتغلب الخيرُ عند ذلك في سَعته على الشرّ.وروي أن رَجُلاً لدغه عقرب, فقال رجلٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ)، أي حينما تملك شيئًا نافعًا فلا تحتاج إلى استئذان، فحينما جاء الرجل يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال له في عبارة مطلقة: (مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ), وليس فقط غصن الشوك هو الخير الحسي, فتقول: أبحث إذًا عن غصن شوك، بل إذا استطعت أن تُخرج برنامجًا مضادًّا للفيروسات التي تصيب الحاسوب فهذا كإزاحة الشوك عن الطريق, لأن هذا يعتبر إزاحة غصن شوكٍ عن طريق العلم، إذ الذي يدخل الفيروسات إلى داخل أجهزة الحاسوب يؤذي ويضع الشوك، لأن الطريق كلمة كبيرة جدًا، فهناك طريق معنوي، وهناك طريق عملي ... إذًا أول نوع من الخير: الخير الحسي.ثم هناك الخير المعنوي, وهذا الخير هو الذي يمثل حالَ الإنسان، فحينما ترحمُ فقد قمتَ بخيرٍ قلبيٍّ، قال صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ مِنّا مَنْ لَمْ يوقّرْ كَبِيرَنَا, وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا), والرحمة هنا ليست فقط لصغير السن, بل هي أيضًا للصغير في العلم، وللصغير في الأعمال، أي ليس لديه أعمال كثيرة، فهو صغير في عمله، وإن كان كبيرًا في سنه، وللصغير في حاله ... وكذلك قد يكون الكبيرُ صغيرَ السن، فيكون كبيرًا في علمه، أو كبيرًا في عمله، أو كبيرًا في حاله ...إذًا هذا التوقير خيرٌ لكنه قلبي، وهذه الرحمة خيرٌ لكنها قلبية، كما أن هناك شرورًا معنوية: كالحسد، والبغض، والحقد ... لذلك تكلَّم أهلُ الله كثيرًا عن غِيْـبَةِ القلب.وأنت إذا توجَّهْتَ بقلبك ولم يتحرك لسانك أبدًا, وقلتَ: "يا الله" بكل انطراحٍ في أعتابه، وتذللتَ بقلبك, وقلت: "يا مولاي, أسألك لفلان أن تعطيه، وأن تكرمه ..." ولم يَرَكَ أحدٌ تخرج مالاً، أو تتحرك في خدمة، فإن قلبك قد فعل فعلاً معنويًّا.بل إن من العجيب ما ورد في الحديث النبوي: (مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَم يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ), وذلك كما لو رأيت أخاك في حالة من الظلمانية، أو الهم، أو الحزن, أو الكآبة ... فغيرته بقلبك, بأن تتوجه إلى الله، وتنطرح في أعتابه, وتقول: يا مولاي, أسألك بحقِّك، وبعزَّتك، وبقدرتك, أن تكشف عنه الغم والهم ...كان أبو حفص النيسابوري جالسًا على حافة النهر ومعه إخوانه، فإذا بقاربٍ يمرُّ في النهر وفيه شُبَّانٌ فرحين، ويعزفون الموسيقا، ويشربون الخمور ... فغضب أصحاب أبي حفص كثيرًا, حيث كانوا في حالة من الروحانية والذكر والإنشاد ... وقالوا: يا سيدنا, ادعُ عليهم، فإن منهم البلاء, والفساد، والمنكر ... فرفع يديه وقال: اللهم كما فرَّحْتَهم في الدنيا فرِّحْهُم في الآخرة.هذا هو التفتي.. وهذا هو الخير المعنوي.. وهذا هو القلب الذي يتسع للعالم، فهذا الخير أكثر بكثير من الخير الحسي.وهذا الخير المعنوي درجات:- فمنه خير عقلي.- ومنه خير قلبي.- ومنه خير روحي.فالخير العقلي عندما ينفع بفكرة، والخير القلبي عندما ينفع بخُلُق، والخير الروحي عندما ينفع بحال.إذًا عندما يسمع الإنسان: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} لا يفكر إلا في إطعام الفقراء؟ وهل فهمت فقط الفقر الحسي؟ ألا يوجد فقر معنوي؟فإذا فهمت قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء} [التوبة: 60] بمعناه الكبير فعندها لا تكون واقفًا عند قشر اللفظ بل تدخل إلى أعماقه, فتجد فيه العجب العجاب.وقد وصف ربُّنا حبيبَه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فإذا لم يكن الإنسان أوسعَ من العالم لا يكون محمَّديًّا، وإذا كان العالم أوسع منك فأنت أنت، قال سيدي ابن عطاء الله في الحِكم: "إِنَّمَا وَسِعَكَ الكَوْنُ مِنْ حَيْثُ جِسمَانِيَّتُكَ" لأن جسمك داخل الكون, "وَلمْ يَسَعْكَ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُ رُوحَانِيَّتِكَ" فأنت في الروحانية أوسع من الكون، فجسمك هو داخل الكون, أما روحانيتك فهي أكبر من الكون لأنها عرش الله، فالعرش هو للاسم الرحمن، أما روحك فهي عرشٌ للاسم الأعظم "الله"، ومن كانت روحه عرشًا للاسم الأعظم فهو أوسع بكثير من الكون، وعندها يكون رحمةً للعالمين ويذوق هذه السعةَ، لأنه يشهد تجليات الأسماء في كل الأشياء، وعندها يصير أوسع من الأشياء، لأنه يستمد من الأسماء لا من الأشياء، فقد صار كالمُمِدِّ للأشياء، فيكون كالواسطة، وهذا لا يكون أبدًا إلا لمن ذاق الحقيقة، وذوقُ الحقيقة لا يكون مع الوقوف لا مع ظاهر الحس ولا مع المعاني، فإذا لم يتجاوز المباني والمعاني إلى مُظهِرها وبارِئها, وإذا لم يتعلق بالحقيقة المطلقة, لا يمكن أن يصير صاحب سعة، وهذا أمر لا يأتي بمجرد التعقل الذهني، بل لا بد من ذوقه, أي أن تذوقه روحه ذوقًا.وهذه هي فائدة التصوف، فالتصوف ليس فلسفات، ولا حفظ اصطلاحات ... إنما هو اتساع في المعرفة بسبب ذوق الروح، وما أندره.وما أكثر من يتحدث الآن في التصوف، ويكتب ويبحث فيه, لكنه بحث عقليٌّ مجرَّد، وهو عبارة عن فهم الاصطلاحات بحسب ما تقتضيه, ويبقى الأمر منحصرًا في مرادات العقول، وليس هذا التصوف، بل هو ذوق الروح الذي يحصل معه الاتساع المعرفي الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يكون أوسع من الكون, لأنه يستمدُّ من مُمِدِّ الكون، وعندها يكون متَّبعًا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ} [الأنفال: 94] أي اكتفاؤك بالله، {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي اكتفاؤهم بالله.إذًا هذه هي حقيقة الاتِّباع، وهي أن تكون الأوسع، لأن الذي تتبعه هو الأوسع، وهو الذي اكتفى بالله، ولن ترتقي إلى رتبة الاتباع إن لم تكتفِ بالله.هذا هو التصوف الذي من عرفه غرف، ونحن نريد التصوف لأنه الذي يجعلنا قادرين على التعامل مع الكون, فنكون خليفة لله في التعامل مع الكون.والحمد لله رب العالمين. |