بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال صاحب جوهرة التوحيد رحمة الله عليه:
فأرشَدَ الخَلقَ لدينِ الحَقِّ.............. بِسَيفِهِ وهديِهِ للحَقِّ
قوله: فأرشد الخَلق، أي أرشد سيِّدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الخَلقَ، فإذا كان معنى "أرشد" أي دلَّ، فيكون المقصود من الخلق كلُّ الناس، وإذا كان معناها: صيَّرهم راشدين، فيكون المقصود من الخلق الذين آمنوا.
لدين الحَقِّ: أي لدين الله، فالحق هنا اسم من أسماء الله سبحانه.
بسيفه وهديه للحقِّ: أي بهديه صلى الله عليه وسلم للطريق المستقيم الصواب، وبسيفه.
وهذا شرحٌ للمفردات.
لكن أعداء الله يُثيرون الشُّبَهَ على الإسلام، ويقولون: إن الإسلام لم ينتشر بسبب قوة مبدئه، إنما بقوة سيفه.
ولو صحَّ كلامهم فسنكون مثل أمريكا: تفرض العولمة (أو بعبارة أدق الأمركة) بالقوة والطائرات والأسلحة، والمبدأ الذي لا ينتشر إلا بالقوة، فإذا انـزاحت القوة عنه لم يجد مُدعِّمات لوجوده، ليس بمبدأ.
وقوله هنا: "بسيفه وهديه للحقِّ" لا يُقصَدُ فيه الترتيب، بمعنى أنه يريد الجمع، أي: انتشر الإسلام بالهدي وبالسيف.
وسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم دلَّت أنه هَدَى أولاً، ولم يكن مولانا قد أَذِنَ بالسيف، فالسيف آلة الجهاد وقتها.
قدم سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مع جمع من الأصحاب في مكة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً، حيث لم يأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال، فقال: إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ، فَلا تُقَاتِلُوا).
وهذا أشدُّ بكثير من تشريع الجهاد والقتال، وذلك حينما يُعلِّمُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه الانضباط، حيث تُقتل سمية، ويُعذّب بلال، وتُفقأ عين عثمان بن مظعون، ويُخنق سيِّدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نفسُه، ويُوضع عليه صلى الله عليه وسلم سلاءُ الجزور، والأصحاب كلٌ منهم يفديه صلى الله عليه وسلم، وليس أسهل من اغتيال أبي جهل وعقبة وأمية، فالآخرة عندهم أحبُّ من الدنيا، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ).
هذه الحالة من الانضباط، مع التحمّل الشديد، ومع رؤية قتلى، ومع رؤية الإيذاء، لكنهم يلتزمون الامتثال والتحمُّل والصبر، وهذا هو الجهاد الباطن، عندما تثور النفس ويملكها الإنسان، فالجهاد حقيقة إذا لم يُهيأ له بالجهاد الباطن لا يكون بصورته وحقيقته التي أرادها الله، والمولى سبحانه وتعالى يُنـزل الآيات ويقول: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] ويقول صلى الله عليه وسلم: (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ)، ويقول: (أَفْضَلُ الجِهَادِ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في ذَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) كما في حديث الطبراني ... فهذه كلها تهيئة باطنة، واليوم هناك اختلاط كبير بين الحَميّة والجهاد لإعلاء كلمة الله.
تدريب الصحابة رضي الله تعالى عنهم دام أكثر من ثلاثة عشر سنة، وهم يلتزمون الصمت ويصبرون ويكبتون انفعالاتهم، فهذا الجهاد أشدُّ من جهاد السيف، لأنه ارتقاء بالنفس.
يُحكى أن أحد الصالحين حدَّثته نفسه بالقتال، فقال لها: اصدقيني، فأنتِ عادةً تأمرين بالسوء، فلِمَ تأمرينني بالقتال؟ فأجابته: أنت في كل يوم تقتلني ألف مرة، فإذا خرجْتَ إلى القتال، قُتلتُ مرةً واحدةً وينتهي الأمر.
هذا هو الإعداد الذي بقي معه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدرّبون ويتدرّبون، حتى وصلوا إلى حالة من الروحانية أصبحوا فيها يشفقون على المُجرِم، لأنهم صاروا ينظرون بمنظار أخروي، وفي هذه الحالة الروحانية كان لا بد، بسبب الخط التربوي الذي يُربيهم به ربُّنا سبحانه، أن يُعيدهم من الروحانية إلى البشرية، لذلك قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] فلما كُتب عليهم القتال كانوا قد كرهوه، فلم يعد عندهم رغبة في إراقة الدماء، فقد تعلَّموا على العفو، وعلى الحِلم، وعلى الصبر، فقال لهم ربهم: لا، بل عليكم الآن أن تقاتلوا أعداء الله، فلا يمكن للإنسان أن يعيش بعيدًا عن الواقع، وعن رؤية مفهوم العدالة، فأعادهم الحق سبحانه وتعالى إلى البشرية، ونـزل قوله تعالى في المدينة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] ونـزل قوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وكذلك قوله: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة: 36] ونـزل أيضًا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} [البقرة: 193].
وعندما نـزلت هذه الآيات، صَالَح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا على ألا يحاربوه وألا يُظاهروا عليه عدوًّا، وهم على ما هم عليه، ويحظون بالأمن في النفس والمال، أما القسم الثاني فقد حاربوا رسول الله وناصبوه العداء، وحاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقسم الثالث كانوا ينتظرون ما الذي سيؤول إليه الأمر؟ ويقولون: هل سيتغلّب محمد صلى الله عليه وسلم ومبدؤه؟ فقد كانوا في حالة من الانتظار.
ولنُفصِّل في الشُبهة التي أشرنا إليها، وهي: هل نشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام بالسيف؟
هناك طرفا نقيض:
- طرف يقول مُتجنِّيًا: إن الإسلام انتشر بالسيف، وهؤلاء (أي المسلمون) ليس عندهم مقوِّمات الحضارة، حيث حملوا سيوفهم وهم جياع، وأبادوا حضارتين، وهم ثورة الفقراء.
والذي يحاول أن ينشر هذه النظرية هو الشرق والغرب، فحينما يُتحدّث عن ثورة الفقراء، تجد الشيوعية تنتظر لتسويق هذا المبدأ، وحينما يُتحدّث أن الإسلام دين دموي، وأنه انتشر بالسيف، تجد المستشرقين الغربيين من وراء هذا التشويه.
- وعلى الطرف النقيض، تجد أن هناك من يريد تمييع الإسلام ويقول: الإسلام دين محبّة ولا علاقة له بالسيف، وهو دين الروحانية، ودين المحبة، ودين الابتسامة ...
وبالتالي لم يعُد هناك إسلام، بل صرنا لاهوتيين، وما بيننا وبين واقعية الإسلام شيء.
وإذا كان كلٌّ من الطرفين مخطئًا، فكيف يمكن أن نفهم العلاقة بين الإرشاد والهدي وبين النشر لهذا الدين بالسيف؟ كيف سنصل إلى الحقيقة؟ كيف سنصل إلى واقع الصِلة بين القوة وبين الهداية؟
يقول ربّنا سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} [الأنفال: 60] أي يوجد أناس لا تعرفونهم، يتحفزون ويتهيّؤون للمكائد، ليُوقعوا بالإسلام وأهله: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ، وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 60-61] فما معنى {أَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}؟ وهل نزلت هذه الآية في وقت وانتهى حكمها، أم هي تشريعٌ ثابتٌ باقٍ إلى يوم القيامة لا يُعطَّل أبدًا؟
المقصود من إرهاب العدو، ليس هو العدوان ولا البغي، وما يُمارس الآن على عالمنا من البغي والعدوان والظلم والمصادرة وسرقة الثروات ... هو شيء آخر، فقوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} أي توجدون قوَّةً، فإذا كان السيف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو آلة الجهاد وآلة القتال، فالقوة في زماننا لها معايير جديدة، فهناك قوة علمية، وهناك قوة عسكرية، وهناك قوة اقتصادية ... وكل ذلك مطلوب، والتشريع الربّاني ليس موجّهًا لبلد أو لقطر، إنما للأمة الإسلامية كافّة، فهي كلها مُخاطَبة بخطاب واحد، وقاتل الله من قسّم هذه الأمة.
إذًا فإعدادُ قوَّةٍ يعطي للمبدأ هيبته، ويمنع العدو من التفكير في أن يجعل هذه الأمة قصعةً تتداعى إليها الأكلة,كما هو الحال الآن.
فهذه القوَّة واجبٌ شرعيّ، لكن هل هذا يعني أننا سننشر مبادئنا بالقوة؟
نقول: وجود القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية ... هذا فرض على الأمة، لكن هل المبدأ يُنشر بالقوة؟ لا، فهذا شيء آخر، ولا يمكن أن نربطه بما نتحدث به.
السيف يحمي المبدأ، والقوة تعطي للمبدأ هيبةً في نظر العدو، لكنها لا تُجبر على تبنّي المبدأ، فهي بكل أنواعها واجب شرعي على هذه الأمة، لكن لا من أجل إكراه أحد.
واليوم يقولون: نحن سننشر الديمقراطية، وهم يعنون أنهم سينشرون قِيَم المجتمع الأمريكي، أو ما يُخطِّط له السياسيون الذين يريدون إلحاق العَالَم بهم.
فعندما يقولون: ننشر الديمقراطية، فهذا ستار، وقد ظهر كذبه عندما اختار الشعب الفلسطيني ديمقراطية، وهذا ليس بغريب على من ليس له مبدأ يعتمد الحقّ، بل هو مبدأ المصالح، والهوى ... وهو مبدأ مُتردِّد لا يوجد له اتجاه.
إذًا فوجود القوة فرض شرعي، لكنها لا تُكره أحدًا على المبدأ، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] فالإسلام لا يُكره أحدًا على الدخول فيه.
ومن الذي أكره بلالاً الحبشي على الدخول في الإسلام؟ هل أكرهه أحد، أم أن أعداء الله هم الذين كانوا يُكرهونه على ترك هذا الدِّين؟
ومن الذي أكره عمّار بن ياسر، وياسر، وسميّة، على الدخول في الإسلام؟ ومن الذي أكره صُهيبًا الرومي، وخبَّابًا، وأبا بكر، وعمر الفاروق الشجاع، وعثمان بن عفان، وسيدنا عليًّا، والسيدة خديجة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
إذًا فهذه أكذوبة.
اليوم يدخل علماءُ الدنيا (الباحثون) في الإسلام عندما يُفاجَؤون بحقائق القرآن، وكلَّ يومٍ نسمع عن شخصٍ عبقريٍّ: عالِمٍ في الفيزياء، أو في الطِب، أو في الهندسة، أو في الفضاء ... يدخل في الإسلام، فمن الذي أكرهه؟ هل هي الأمة المُستضعَفة التي ما عندها حولٌ ولا قوَّة .
ومع ذلك وفي هذا الواقع، يدخل الناس في دين الله أفواجًا.
فمن الذي يُكرِه، ومن الذي يدفع الناس بالقوة؟
أعداء الله هم الذين يُؤذون الدعوة ويُؤذون أصحابها، وهذه هي الحقيقة.
ألم يُبْقِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهلَ الذِمَّة من اليهود والنصارى؟ فلم يكرههم على دخول الإسلام، وعاهدهم، وبيّن لهم أن من الواجب عليهم أن يدخلوا في الإسلام، فقد أرسل إلى هِرقل النصراني أن يدخل في الإسلام لأن الله لا يقبل منه بقاءه على نصرانيته، وأرسل إلى يهود خيبر يدعوهم إلى الإسلام لأن الله لا يقبل منهم أن يبقَوا على اليهودية.
ويجب أن نفهم أن اليهودية تُشيع الآن أنه يَصِح للإنسان أن يبقى على اليهودية، أو على المسيحية، فهذه شرائع سماوية، وهذا كله كَذِب وافتراء، فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الروم الذين كانوا على المسيحية، ودعا يهود خيبر الذين كانوا على اليهودية إلى الإسلام، فنحن لا نُجبرهم إنما ندعوهم وننشر المبدأ.
قد يقول قائل: نقرأ في كُتب الفقه أن الحروب الإسلامية يجب أن تنتشر وأن تتوسع لتعود مرحلة الفتوحات من جديد، فهل هذا فقهنا اليوم؟
نقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم وديننا لا يريد إراقة الدماء، وهذه حقيقة، لكن طالما أن الله أرسل سيِّدَنا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافّة: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وقال صلى الله عليه وسلم: (بَلِّغُوا عَنِّي)، وأمَرَنا أن نقوم بالنيابة عنه في نشر هذا الدين، ولأن الرسالة موجّهة إلى كل العالَم , صار واجبًا علينا شرعًا، أن نُبلِّغَ هذه الرسالة إلى العالَم كله، بحيث لا يبقى بقعة في العالَم إلا ونشرح لهم فيها الإسلام بتفصيلاته، ودقائقه.
فإذا كان الأمر مُيسَّرًا ويمكن لنا أن ننشر الإسلام، وأن نُبلّغ رسالة الإسلام تبليغًا صحيحًا في كل مكان، فالجهاد الذي هو فرض الكفاية مُحقَّق، ولا أعني بكلمة "ننشر" أن نُكره الناس على الدخول في الإسلام، إنما أن يسمع الناس التفصيل عن هذا الدين العظيم.
أما الفتوحات الإسلامية التي تمت فكانت لإزالة العوائق، ولإزالة الحواجز وتكسيرها، حتى يسمع الناس الرسالة.
فإذا استطعنا اليوم أن نُبلِّغ العالم بكل أجزائه، وبكل الوسائل البشرية وغير البشرية، تفصيلاتِ هذا الدين، فالفرض الكِفائي من الجهاد مُحقََّق، لأنه يعني تبليغ الإسلام إلى كل العالم، فإن وقف عائق أو طاغوت في وجه الدعوة ليمنعها، وَجَب شرعًا إزالته، وهذا هو الفرض الكفائي.
إذًا يتبيَّن لنا ضرورة القوة، لأنه يجب أن تكون هناك قوَّةٌ بأمر الله تُعطي المبدأَ هيبةً في نظر العدوّ حتى لا يطمع في هذه الأمة، ثم إذا أمكن أن نُبلِّغ الإسلام في كل مكان فقد تحقق الفرض الكفائي في الجهاد، وإذا وقفت العوائق في وجه الدعوة وَجَب شرعًا أن نـزيلها.
الفرض العيني: إذا هوجِمَ بلدٌ من بلاد الإسلام وجب شرعًا على سكان تلك المنطقة وجوبًا عينيًا أن يقوموا بردِّ العدوان وإخراج العدوّ، سواء المرأة، أو الطفل، أو الكبير، أو الصغير، أو الشاب، ولا يُستأذن الأب ولا الأم، فهذا فرض عيني.
فإذا لم تتحقق الكفاية في سكان المنطقة الجغرافية أو الإقليم، نبدأ كما نصّ على ذلك الفقهاء بالأقرب فالأقرب، فإذا لم يكن أهل البلاد قادرين على ردِّ العدوان، فيجب على الأقرب فالأقرب المساعدة، والمساعدة تكون بحسب المُتطلَّب، أي بما تقوم به الكفاية لإخراج العدو، فإذا كانت المساعدة المطلوبة بالمال يساعدونهم بالمال، وإذا كانت بالسلاح المتطور يساعدونهم، وإذا كانت بالرجال يساعدونهم، فإذا بقي العدوُّ في هذا البلد وكان المسلمون قادرين على إخراجه وقصَّروا ولم يقوموا بذلك كأمة كاملة، فالإثم على الجميع، أما إن كانوا غير قادرين فإنهم معذورون: {لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
فالجهاد واجب أولاً على سكان المنطقة، ثم الأقرب فالأقرب.
والمشكلة الآن أن المسلمين أصبحوا (بسبب التقسيم إلى دول) لا يُفكّرون في قضية نشر الإسلام، فكثير منهم يتحدثون مع الأسف بمنظور الواقع الجديد الذي يقول: الجهاد لِردِّ العدوان.
وماذا عن نشر الإسلام، ماذا عن الرسالة التي حملناها من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟
عندما أساء الأوروبيون إلى الإسلام وإلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، خرجت المظاهرات وصارت تُكسِّر وتُحرق ... أما سأل المسلمون أنفسهم: هل بلَّغناهم؟ هل قُمنا بتوصيل الرسالة إليهم؟ هل بذلنا الجهد حتى يعرفوا من هو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟ هل فهّمناهم حقائق الإسلام؟
إذًا: يوجد تقصير كبير.
اليوم كم شخصًا في العالم لم يسمع بالإسلام؟ وكم من التعداد العالمي مَنْ لم يعرف شيئًا عن الإسلام، بحيث سمع به ولم يعرف عنه شيئًا؟ وهذا واجبُ من؟
إنه واجب كل المسلمين.
وتجد بعض المسلمين إذا قلت له: أتريد نشر الإسلام؟ يقول: نعم، فتقول له: وكيف؟ يقول: نُعمِّر جامعًا، وهل نحمل الجامع بالطائرة ونرسله إلى أوروبا، أو إلى أمريكا؟ أين نشر الإسلام؟ أين التبيين؟ أين الدُعاة؟ أين السلوك الإسلامي الذي من خلاله ندعو إلى الإسلام؟ أين التربية التي من خلالها نرى نموذج المسلم، لأن فاقد الشيء لا يعطيه؟
لا أبالغ حين أقول: إن مشكلتنا الداخلية هي المشكلة في الدرجة الأولى، لأن بناء شخصية الداعية الذي يُتقن فن الدعوة، والذي يُعطي الصورة الناصعة المُشرقة عن الإسلام بكل مضموناته ومظاهره، والذي يُقدّم نموذجًا واقعيًا، يحتاج جهدًا كبيرًا جدًّا.
ربما تحزنون عندما تعرفون أن من بين كل عشرة ممن يدخل في الإسلام في أمريكا، يخرج ثمانية، والسبب هو رؤية السلوك السيئ للمسلمين.
الصوماليون يجتمعون في مسجد وحدهم، والبنغاليون في مسجد وحدهم، والباكستانيون في مسجد وحدهم، والهنود في مسجد وحدهم، والعرب لهم مساجدهم ... وكل جمعية تُنشئ مسجدًا، ولا يلتقون، بل وتظهر منهم سلوكيات بعيدة جدًّا عن الإسلام ومعانيه.
ومع الأسف قال لي بعضهم: ينصهر المسلمون بسهولة في المجتمع الأمريكي ويتفاعلون معه، لكنهم لا يقدرون على الانصهار فيما بينهم، وكأنهم ينقلون واقع بلادهم، وتحزُّباتهم، وجماعاتهم ...
أما آن لنا أن نفهم القواسم المشتركة الكبرى؟
خطبت خطبة جمعة في أمريكا قلت فيها: إذا لم يحصل اجتماع منكم على القواسم المشتركة الكبرى فلن تقوم لكم قائمة، فلنترك الهوامش، ولنجتمع على القرآن، وعلى أقوال علمائنا المُعتمَدة من المجتهدين، وعلى سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى جهة القِبلة، ولنجتمع على أمورٍ كثيرة ... وما أكثر القواسم المشتركة.
المؤسف أننا مقصرون، بحيث يدخل في الإسلام عشرة، وبسبب تقصيرنا في التربية، وتقصيرنا في تقديم الإسلام بنماذجه العملية، يخرج ثمانية.
إذًا عندما يقول الناظم: "أرشد الخلق" أي أرشد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ حين جاء بالتوحيد، ودلَّهم على دين الله بسيفه وهديه للحق، أي للطريق المستقيم، ونفهم من هذا أن السيف ما شُرع إلا لإزالة العوائق، وحينما نتناسى هذا الواجب (أي إزالة العوائق) نقع في مصيبة فكرية أولاً، وسلوكية ثانيًا.
وربما يُعين على هذه المصيبة كثرة العلائق بالدنيا، والإعراض عن الآخرة، وعدم معرفة فضل الجهاد في سبيل الله، والذي هو لإزالة العوائق ليس إلا.
نختم ببعض نصوص، كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبب أصحابه فيها بالجهاد، يقول لهم: (مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ غَيْرُ الشَّهِيدِ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ وَفَضْلِ الشَّهَادَةِ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ)، وقال عليه الصلاة والسلام: (يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ)، وقال: (مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ)، وقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إن في الجنة مئة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السموات والأرض)، وقال: (من لم يغزُ ولم يُحدِّث نفسه..)، ومعنى قوله: "وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ" أي: هل أنت مُستعِدٌّ أن تكون شهيدًا؟ فهذا سؤالٌ في بناء الشخصية.
فإذا كان الجواب: لا، فالخاتمة قد تكون (والعياذ بالله) الميتة الجاهلية، لأن هذا الإنسان لم تُبْنَ شخصيتُه بناءً إيمانيًّا صحيحًا، وما شعر أنه ينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمل الدعوة.
لماذا تحرَّك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة شرقًا وغربًا؟ أما كانوا يعلمون فضل المدينة؟ لماذا تحرَّكوا وفي غضون مدة قليلة مع عدم وجود الوسائل الحديثة، حيث استطاعوا إسقاط قوتين ماديتين ظالمتين في فارس والروم؟
لأنهم فهموا أنهم ينوبون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس إلى الإسلام، لكن أكثرنا تحوّل إلى المقاصد المادية، فأول شيء يريده هو البيت والسيارة، وإذا كان طبيبًا فالعيادة، وإذا كان مهندسًا فالمكتب، وإذا كان صيدلانيًّا فالصيدلية .. وهكذا تبدأ التراكمية في الأحلام، دون أن يضع في أولوياته هذه الوظيفة الكبرى العظيمة.
الإسلام لا يقول لك: لا تكن طبيبًا أو مهندسًا أو صيدلانيًّا ... لكنه يضع لك الأولويات، فإذا فهمت أن خدمة دين الله والنيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من أولى أولوياتك، عند ذلك تستطيع إكمال المشوار.
وتوجد مشكلة أيضًا، وهي أن مفهوم الدعوة عند بعضنا، تقديم الإسلام بصورة إما أشبه بالخِتم المُكرَّر، أو صورة تعاني من عدم فهم الواقع المحيط، وعدم فهم المُخاطَب، أي تكرير الخطاب نفسه لمخاطَبين تنوّعت أوصافهم، وتنوّعت ثقافاتهم، وتنوّعت أجناس بواطنهم ... فهذه إشكالية، فتجد أنه يُخاطب المِهَنيَِّ أو الحِرَفي كما يُخاطب الأكاديمي، وكما يُخاطب الصناعي، وكما يُخاطب التاجر .. ويُكرر الخطاب.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا أبدًا حين كان ينشر الإسلام، بل كان خطابه صلى الله عليه وسلم مُوظَّفًا في نوعه توظيفًا عجيبًا، فكان يُخاطِب المرأة بخطاب يتناسب معها، ويُخاطِب الطفل بخطاب يتناسب معه، ويُخِاطب الحُكماء والعُقلاء بخطاب يتناسب معهم، ويُخاطِب الساحر أو العرّاف أو الذي يتواصل مع الجِن بخطاب يتناسب معه ... ولو استعرضنا أنواع الخطاب الذي كان يُوجِّهه رسول الله لكل شخص، لوجدنا كيف كان يتنوّع، وتختلف أشكاله اختلافًا تامًّا، فنجد كيف خاطب مَلِكًا، وكيف خاطب أعرابيًّا، وكيف خاطب حكيمًا، وكيف خاطب تاجرًا، وكيف خاطب رجل دين ...
هكذا يمكن أن يفهم من يريد الدعوة، ما المطلوب منه حتى يَقدِر على مُخاطبة الآخرين، فهل ستخاطبهم من غير لغة، دون أن تُتقن لغتهم، ودون أن تتقن عاداتهم، ودون أن تفهمهم؟ أين الثقافة التي تملكها قبل أن تُخاطبهم؟
إذًا يوجد عندنا إشكاليات كثيرة ونحن نتحدث عن نشر الإسلام وواجب نشر الإسلام، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نشر الإسلام ودعَّمه بقوة، لكن هذه القوة لم تكن هي المُجبِرة، إنما كانت الداعمة.
أين المُهيَّأ للدعوة؟
لو طلبنا اليوم من صيدلاني، أو طبيب، أو مهندس ... أن يدعو الناس الذين لم يسمعوا بالإسلام، في بلد مثل ألمانيا أو سويسرا أو النمسا ... نجد أنه غير قادر على هذا، فلا يعرف كيف هو الخطاب، ولا يفهم المُخاطب، ولا يقدر على التواصل معه، فالتواصل فنٌّ قائم بذاته، من خلاله يستطيع الإنسان الوصول إلى أعماق نَفْس الآخر، لأن الله سبحانه وتعالى وصف القرآنَ وبيانَ حبيبه صلى الله عليه وسلم بقوله: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 5] أي تبلغ أعماق النَفْس، وقال: {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} [النساء: 63] أي قل لهم قولاً يبلغ أعماق نفوسهم.
فقبل أن نتحدث في قضية حمل السيف أو الأسلحة المتطورة، هل حملت سلاح العِلْم؟ هل حملت سلاح التواصل؟ هل فهمت فنّ التخاطب؟ هل صِرت مُهيًّأ للدعوة؟
كم نحن مُقصِّرون في هذا، وكم هي الهوة كبيرة بيننا وبينه.
وكلما سافرت خارج البلاد وعُدت، أجد أن الشباب المُثقَّف يعيش في بَوْنٍ شاسع بينه وبين العالَم الخارجي، لأنه يسير في عقلية دون أن يعرف ما هو المطلوب منه على مستوى البناء الخاص، ولا ما هو المطلوب منه ليكون نائبًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الدعوة.
وفوق كل هذا، لا يمكن أن تحصل دعوةٌ إلى الله ما لم يكن هناك تفاعل باطن وصدق حقيقي إلى درجة الاحتراق، فإذا لم يحترق هذا الإنسان احتراقًا في باطنه، ويتألم على هذا الدين كما يتألم على ولده وابنته وأخته، ويتألم على الناس الذين لم يصل إليهم هذا الدين، لا يمكن أن يدعو إلى الله.
فإذا كان يتوهَّم أن الدعوة إلى الله إنما هي خطاباتٌ مُنمَّقة، فهو مُخطئ تمامًا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أرشد الخَلق لدين الحق بسيفه وهديه للحقِّ، كان إذا أوى إلى فراشه يتقلّب ألمًا، حتى قال الله سبحانه وتعالى له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} [الكهف: 6] أي ستُتعبُ نفسك يا حبيبنا يا رسول الله من الحسرة إذا لم يدخلوا في الإسلام ولم يؤمنوا بدين الله سبحانه.
هذا هو التفاعل الذي هو سِرُّ نجاح الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، وسِرُّ النيابة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه فكرة بسيطة عن الصِلة بين القوة والدعوة، لأنها من أكبر الشُبه التي تثار في وقتنا هذا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُفهِّمنا، والحمد لله رب العالمين.
|