أهل الفترة
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله ربّ العالمين, اللهم صلِّ على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبيِّ الأميِّ وعلى آله وصحبه وسلم.
قال صاحب الجوهرة رحمة الله عليه:
الحمد لله على صِلاتِهِ ............ثم سلامُ الله مَعْ صَلاتِهِ
على نَبيٍّ جَاءَ بالتوحِيدِ............وَقَدْ خَلا الدينُ عَنِ التوحِيدِ
وصلنا إلى قوله: وَقَدْ خَلا الدِّيْنُ عَنِ التَّوْحِيْدِ.
وهل يُسمّى غير دين الإسلام دينًا؟
نعم, فسواء كان الدين صحيحًا أو باطلاً فإنه يُسمّى دينًا, والله سبحانه وتعالى قال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فإذا كان ما يدين به باطلاً فإنه يُسمّى دينًا باطلاً, وإذا كان يدين بدين الله سبحانه وتعالى فإنه يُسمّى الدين على إطلاقه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإسْلامُ} [آل عمران:19].
وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حينما بُعث, كان هناك عدة أديان, فيُسمّى ما عليه عبدة الأصنام دينًا, ويُسمّى ما عليه المُنحرِفون دينًا, ويُسمّى منهج أتباع المجوسية الذي يتبعونه دينًا, لكنه دين باطل.
فالله سبحانه وتعالى بعد بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم, لا يقبل أي دين.
واليوم هناك من يقول: لا يوجد أديان, بل هناك دين واحد.
وهذا مردود عليه بنصوص علمائنا, بل بنص القرآن, حيث أثبت وجود غير دين الإسلام: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} لأن المقبول عند الله هو دين الإسلام وهو الحق, وما سواه إما أنه منسوخ, حيث نُسِخَت شريعته بشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو أنه دين باطل من أصله.
بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخبر سبحانه وتعالى, على فترة من الرسل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} أي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, {يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ} [المائدة: 19] أي على سكون وانقطاع, حيث كانت سُنّة الله سبحانه وتعالى فيما مضى أن الأنبياء والرسل يتوالون, فلما أراد أن يُرسل النبيَّ الخاتَم والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم, سبق ذلك بانقطاع, وهذا الانقطاع هو الذي سماه سبحانه وتعالى: {فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ} أي انقطاع ما بين النبيّين.
وكم هي تلك المُدّة؟
هذا من المُختلف فيه, فقيل: أربعمائة سنة, وقيل: خمسمائة, وقيل: ستمائة... وهذا اختلاف لا يُعتدّ بالنظر إليه, ولا يهُمّنا, إنما الذي يهمّنا أن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سُبقت بفترة من الرسل, فما بين بعثته صلى الله عليه وسلم وآخر نبي قبله كان هناك فترة زمنية, وهذه الفترة تُسمّى: "انقطاع من الرُسل", وأهلها يُسمون: "أهل الفترة", والتحقيق, كما سيأتي إن شاء الله تعالى, أن أهل الفترة ناجون إلا من خصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم بأنهم من أهل النار.
فقوله: وقد خلا الدين عن التوحيد, يعني أن الأديان التي كانت عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء بالتوحيد, لم يكن فيها توحيد.
وإذا رجعنا إلى تاريخ البشرية عند بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم, نجد أن الوثنية كانت سائدة في بلاد العرب, والوثنية ليس فيها توحيد, وقد كانت سائدة في الهند والصين, ونجد أن بلاد فارس كانت مُفعمة بعبادة النار وبالتقرب إليها, وهي منقطعة عن التوحيد.
والعرب كان بعضهم يعبد الأصنام مُعتقدًا أنها تُقرِّبه إلى الله, فهو يُشرك بالله شركًا يُسمى شرك التقريب, وبعضهم يعبد الأصنام تقليدًا لآبائه وأجداده: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] فهي طقوس مُتوارثة مُقدّسة لا ينبغي أن تُمَس.
فكان بعضهم يعبد الكواكب, وبعضهم يعبد النجوم, وبعضهم يعبد الجن, وبعضهم يعتقد أن الملائكة بنات الله... فحِمْيَر كانت تعبد الشمس, وكنانة كانت تعبد القمر, وجُذام كانت تعبد المشتري, وطي كانت تعبد سهيلاً...
وكان الواحد منهم ربما لا يجد صنمًا من الحجارة, فيصنع صنمًا من التمر, فإذا جاع أكله.
إذًا هكذا كان الواقع الخالي من التوحيد في بلاد العرب.
وإذا انتقلنا إلى خارج الجزيرة العربية, نجد أن المجوسية الفارسية أيضًا خالية من التوحيد, فالمجوسية أول ما بدأت كانت تقول للناس: إن نور الله يسطع ويتألق في كل مُلتهِب, ولهذا كانوا يتوجّهون إلى النار وإلى الشمس المُلتهبة عند الصلاة, على أن نور الله فيها, ثم تطوّرت بعد ذلك في الضلال, حتى صاروا يعبدون نفسَ النار ونفسَ الشمس, فواقع الدين إذًا خالٍ من التوحيد.
الهند والصين أيضًا كانوا يصنعون الأصنام (أصنام بوذا), ويصنعون الهياكل والصور الكثيرة, حتى بلغت أعداد الآلهة المعبودة في الصين والهند أعدادًا خيالية.
المسيحية دخل إليها الكثير من الأساطير اليونانية والوثنيات الرومية والخيالات الأفلاطونية, فكثرت تناقضاتها, فقال بعضهم بازدواجية طبيعة رسول الله عيسى عليه الصلاة والسلام, الذي هو نبيٌّ ورسولٌ وعبدٌ لله سبحانه وتعالى, فقالوا: نصفه إله ونصفه بشر, أي هو باعتبارٍ بشرٌ وباعتبارٍ آخر آلهٌ, فباعتبار هو ابن الإنسان, وباعتبار آخر هو ابن الله, تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وبعضهم قال: إن الطبيعة الإلهية واحدة, وقد تلاشت فيها بشرية المسيح عليه الصلاة والسلام, فأنت حين تنظر إليه لا ترى إلا الإلهية, لأن البشرية غابت.
والقرآن وصَّف كل هذا:
فالذين قالوا: إن بشرية المسيح تلاشت في الألوهية, وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} [المائدة: 72].
والذين قالوا بالتثليث, بمعنى أن هناك تركيبًا, أي: ثلاثة مركبة تساوي واحد, قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73].
فالمسيحية أيضًا خلت عن التوحيد عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واليهودية وصفها القرآن الكريم أيضًا وصفًا دقيقًا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30] فاليهود إذًا يُقدّسون عُزيرًا, ويعتقدون أنه ابن لله سبحانه وتعالى, فاليهودية أيضًا خلت عن التوحيد.
وعلى هذا نرى أن واقع العالم عند مَبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- هناك انقطاع وفترة من الرسل, أي انقطاع من النبيين.
- العالم كله بكل ما يدين به كان بعيدًا عن التوحيد.
قد يقول قائل: هناك بقايا ممن بقي فيهم التوحيد, كبعض الذين ثبتوا على الحنيفية الإبراهيمية.
نقول: هذا في أندر النادر, ولم يكونوا يدعون إلى ما يعتقدونه, بل كان هذا مُنحصرًا في خاصة أنفسهم, كما أن هناك بقايا ممن ثبتوا على دين سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام الذي أُنـزل عليه.
وعلى كلًّ فكلُّ العالَم مُطالَبٌ ومُكلَّفٌ عند بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعه, لكننا لا نتحدث الآن في قضية الشريعة المحمدية الناسخة, إنما نتحدث في خلوِّ الدين عن التوحيد عند مبعثه صلى الله عليه وسلم.
عَلِمنا أن الأديان الباطلة كانت قد نأت وابتعدت عن التوحيد, فما معنى الدين؟
الدين في اللغة يُطلق على عدة معانٍ, منها:
1- النظام: قال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] أي في نظامه, وإنما كان هذا بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى ووحيٍ, لحكمة أرادها في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام.
2- الجزاء والحساب: ومنه قوله سبحانه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أي يوم الحساب والجزاء.
3- الطاعة: قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29] أي لا يطيعونه, ولا ينقادون له.
إذًا ورد الدين في اللغة بمعنى النظام, وورد بمعنى الجزاء والحساب, وورد بمعنى الطاعة.
لكن ما معنى الدين اصطلاحًا؟
الدين هو:
1- وضع إلهي.
2- سائق لذوي العقول السليمة.
3- بالبراهين والدلائل القطعية.
4- وباختيارهم المحمود.
5- إلى ما هو خيرٌ لهم بالذات.
فهذه خمسة عناصر في التعريف ينبغي أن نفهمها:
1- الدين وضعٌ إلهيٌّ: فالقوانين التي تُسيِّرُ الإنسان أو تسوقه إما أن تكون من وضع البشر, أو من وضع ربِّ البشر, والدين إنما هو من وضع ربِّ البشر.
فإذا نظرنا إلى عالم الحيوانات, نجد أن الله سبحانه وتعالى وضع فيها ما يُشبه الغريزة, ومن خلالها يحصل التعارف, ويحصل المعاش... فهناك قانونٌ ما, وهو من وضع الله, لكنه ليس لأهل العقول, بل هو من قبيل توجيه الغرائز, وليس كدين الله الذي يُوجّه الإنسان ويسوق عقله وباختياره.
وعندما ننتقل إلى المجتمعات نجد أنها محكومة بقوانين: إما أعراف أو عادات أو قوانين تضعها الدولة... وهذه كلها وضعية أيضًا, لكنها ليست من وضع ربِّ البشر, إنما من وضع البشر.
أما الدين الذي أنـزله الله سبحانه وتعالى على حبيبه ومُصطفاه صلى الله عليه وسلم, ففيه جزء عملي سلوكي: يبيِّن كيف تبيع وكيف تشتري؟ ويبين أحكام المعاملات, وأحكام العبادات... وجزء اعتقادي إخباريّ, حيث أخبر الله سبحانه وتعالى هذا الإنسان بأخبار من خلال نصوص قطعية الثبوت وذات دلالة قطعية, فهذا الإنسان يُصدِّق بها بقلبه, فهذا جزء اعتقادي قلبي.
فالدين إذًا: جزء عملي, وجزء اعتقادي, وجزء شعوري, أي ما يُشبه الحال, حيث يعيش الإنسان حالاً, وشعورًا, وذوقًا, وشهودًا... وهذا هو الجزء الثالث من هذا الدين.
فهذا الدين بمجموع ما فيه: وضعٌ إلهيٌّ, أي إن الذي وضعه بكل تفصيلاته ودقائقه إنما هو الله سبحانه وتعالى.
2- سائقٌ: أي قائدٌ يسوق, لذوي العقول السليمة: فهو يخاطب العقل الإنساني.
ورد عن أحد الأعراب أنه قال عندما عرف سيِّدَنا محمدًا صلى الله عليه وسلم: (ما قال شيئًا وقال العقلُ خلافَه), فأيُّ شيء يدعو إليه سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا رجعنا إلى العقل نجد أن العقل يوافقه.
وهذا يتميَّزُ عن كل أنواع الطقوس التي تُوجَّه إلى الإنسان, وتطلب منه التقليد الأعمى, وتقول له: أطفئ سراج عقلك, فالحق يقول: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
إذًا: سائق لذوي العقول: هو خطابٌ توجّهَ إلى العقول, لكنه وصف هذه العقول بالسليمة, فما معنى السليمة؟
هناك عقولٌ تُفكِّر, لكنها تتأثر بالأهواء, ونضرب مثالاً بسيطًا لتوضيح الفكرة:
وُجد شخصٌ وهو في طفولته في مدرسةٍ فيها معلّمٌ ظالم, ثم انتقل إلى الصف الذي يليه فكان فيها معلّمٌ أظلم, وكلما انتقل إلى صف وجد معلّمًا ظالمًا, حتى وصل إلى الجامعة, وهنا تبعه الحظ السيئ أيضًا, فمِنْ مُدَرِّسٍ يُصَعِّبُ الأسئلة, إلى آخَرَ يرسِّب الطلاب, إلى آخر ما هنالك, حتى تخرّج وما عنده عقدةٌ في حياته إلا الأستاذ, فقيل له: تعال وكن وزيرًا للتربية, فأول ما يخطر على باله الانتقام من الأستاذ, وهذا نتيجة تأثُّر العقل بالأهواء.
أما العقل السليم فهو: العقل المُجرَّد عن التقليد, وعن التعصب, وعن الأهواء.
فإذا أردت أن تكون إنسانًا ذا عقل سليم, فيجب أن تخرج أولاً عن كل أنواع التقليد, ثم عن التعصب لفكرةٍ ما, لأن التعصب يُعمي: (حُبُّكَ الشيء يُعمي ويُصِمّ), ثم التجرُّد عن الأهواء والرغبات والنـزعات, فهو يريد من أجل تحصيلها أن يُثبت فكرة, وهذا يُسمى التبرير, فهو يضع فكرة سابقة يحبُّها, ثم يبحث عن التبرير لها.
وهذا كله مما لا يُوصف به العقل السليم, فالعقل السليم هو الذي تجرد عن التقليد وعن التعصب وعن الأهواء.
ولو أن البشرية تُفكِّر بعقل سليم, فإنها ستختار الإسلام من غير تردد, لأنه دين عدالة ومساواة ومنطق, وهو دين ليس فيه إلا ما يهواه العقل السليم.
وما هو العقل؟
العقل: هو نور لطيف محله القلب, كما أثبت ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] وشعاعه إلى الدماغ.
وإذا أردنا أن نُبسّط القضية بمنطق حديث, نستطيع أن نقول: الدماغ يُشبه الذواكر التي تُصنع في الكمبيوتر, لكن العقل محله القلب.
وعندما نقول: عقل, فهو من اللطيفة الربانية, فالإنسان جزءان: حس ومعنى, أو جسد وروح, فالعقل من الروح, لذلك فمحله القلب, وشعاعه في الدماغ, والأدلة من النصوص كثيرة.
قد يقول قائل: الآن يقولون: إن العقل في الدماغ, فكيف تقولون هذا؟
نقول: هذا ما وصل إليه أهل التجربة, لكن ما الذي يجزم بأن العقل محله في الدماغ أو في القلب عند أهل التجربة؟
الآن هم أثبتوا وجود مراكز بصرية, ومراكز للإدراك, ومراكز للتفكير... وهذا صحيح, لكن من الذي قال: إن هذا هو المنطلق وليس هو الطريق؟
فمثلاً: العين تُبصر, ولو قطعنا العصب بينها وبين الدماغ فإنها لا تُبصر, فالعصب البصري هو طريق, ولو قُطع هذا العصب أو تعطّل المركز في الدماغ فإنها لا تُبصر, ودليلنا من القرآن, وهو قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}.
ثم نحن درسنا في كلية الطب أن القلب لا يأخذ أي تعليمات من الدماغ, وكل حركات العضلات في الجسم تأخذ أمرها من الدماغ, إلا عضلة القلب, فالدماغ بحاجة إلى القلب, لأن انقطاع إمداد القلب للدماغ يُميته, أما القلب فلا يحتاج إلى الدماغ, وهذا بالقياس والمنطق, لكن بالنص: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وصدق الله.
وكم تتغير النظريات! وكم تتغير العلوم!
في الأربعينات من القرن العشرين, كان مُقرَّرًا في كتب الجغرافيا في المدارس السورية أن الشمس ثابتة, ويأتي بعض العلمانيين ويسخرون قائلين: القرآن يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} [يس: 38] والعلم الحديث المتطور يقول: إن الشمس ثابتة, وبعد مدة صغيرة يثبت لعلماء الكون أن الشمس ليست ثابتة, وإنما تجري, ويأتي تعميم بإلغاء هذا من الكتب, ووضع كلمة تجري.
إذًا عندما يقول أهل التجربة والبحث شيئًا, فلا يعني ذلك القطعية, بل يعني أنهم وصلوا إلى هذا, لكن عندما ننقل عن كلام الله, فإننا ننقل عن الذي خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14].
إذًا: العقل نور لطيف محله القلب, وشعاعه في الدماغ.
فما معنى "سائق لذوي العقول السليمة"؟
نلاحظ أن كل الكائنات تُقاد من ظاهرها, إلا الإنسان فإنه يُقاد من باطنه, لا من ظاهره.
إذًا: سائق, أي بالبراهين والدلائل القطعية, فعندما يخاطب القرآن هذا الإنسان, فإنه يخاطبه بآياته, أي بدلائله وبراهينه, فعندما يقول القرآن: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فهو يسوق العقل إلى التوحيد بالبراهين القطعية, لأن العقل لا يقبل تعدد المُؤثِّر الخالق الصانع البارئ المُصوّر لهذا الكون, وهذا سيأتي في بحث الوحدانية إن شاء الله.
إذًا: الدين يسوق العقول السليمة, بالبراهين والدلائل القطعية.
3- بالبراهين والدلائل القطعية: فلذلك نجد أن القرآن الكريم يخاطب العقول, كقول سيدنا يوسف: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].
ونجد الآيات التي تتحدث عن عجائب الله في السموات وفي الأرض.. ونجد الآيات التي تتحدث عن قدرة الله سبحانه وتعالى التي تعلّقت بكل شيء...
إذًا فأداة سوقها البراهين والدلائل القطعية لا التقليد.
4- باختيارهم المحمود: فمن جهة الخطاب الذي خاطب الله به الإنسان, خاطب العقل وقدّم له البرهان, لكن بعد ذلك, هل تختار أنت أم أنك تُكرَه وتُجبَر؟
والجواب أنك أنت الذي تختار, قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 265] وهذا الاختيار هو الذي جعل الإنسان مُميَّزًا على الملائكة, لأنهم لا يقدرون على المعصية, أما الإنسان فيقدر عليها, لكنه لما نظر إلى البراهين والدلائل القطعية, وجد أنه مضطرٌّ إن كان يريد إنسانياه أن يختار اختيارًا محمودًا.
فقال: "باختياره المحمود", لأنه قد يختار ويكون اختياره مذمومًا, فإذا اختار الطريق التي تتنافى مع العقل ومع المنطق, فهذا الاختيار مذموم, لكنه إذا اختار اختيارًا يقبله العقل والمنطق, وتقبله الفطرة السليمة, فيوصف عند ذلك بأنه اختار اختيارًا محمودًا, أي يُحمَد ولا يُذمّ, فهو يختار ولا يُكرَه على اختياره, واختياره مشهودٌ له.
5- إلى ما هو خير لهم بالذات: والخير نوعان: خير لا بالذات, وخير بالذات, ونذكر مثالاً لتوضيح الفكرة:
إذا أمسكنا كأسًا وشربنا, فهذا خير, لا شك في ذلك, لكن بعد أن شربنا انتهت خيرية هذا الشيء الذي وصل إلينا, فخيريته مؤقتة, أما الخيرية الذاتية فهي التي لا تنقطع.
وإذا أُصبت بصداع, فأخذت مُسكِّنًا, فسكن الصداع, فهذا خير, لكنه مؤقت, أما الخير الذاتي الذي لا انقطاع له فهو الدين.
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها, قالت: يا رسول الله تصدَّقتُ بالشاة وأبقيتُ لكَ الذراع, لأنها كانت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الذراع, فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! لا, كلها بقيت إلا الذراع, فكلها صار عند الله, خيرها وثوابها: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] أي هو خير لا ينقطع.
فعندما تفعل فعلاً يرضاه الله سبحانه ويحبُّه, فأنت في خيرٍ ذاتيٍّ, لأن الله سبحانه وتعالى يدَّخره لك, وما ادَّخره لك يبقى لك.
أما الآن فالواحد فينا إذا كان ميسورًا ينفق على طعامه وشرابه ولباسه... فهذا يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (... وَلَيْسَ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْتَ, أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ, أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْت), فينبغي أن يلاحظ المسلمون أنهم مطالبون بإنشاء المشروعات الخيِّرة, لا بناء المساجد وحسب, ولا شك أن المسجد مكانٌ عظيم محبوب لله سبحانه وتعالى, لكن الأمة تحتاج إلى مشروعات تنموية يكون فيها خيرُها, فتعتمد على نفسها لا على الأجنبي والغريب, بحيث يُخرِجُها عن كل شيء في أي لحظة.
وهذا كله مما تنبَّه إليه بعض العقلاء, كإخواننا في ماليزيا, حيث أصبحوا الآن دولة ذات قيام حضاري مع كونها صغيرة, وهذا ما نحتاج إليه في كل وقت, وهذا مما تبقيه, وهو من الخير العظيم عندما تريد به وجه الله.
فهذا هو الفارق بين الخير الذاتي, والخير الذي ليس هو بالذات.
إذًا: الدين:
- يُسمى دينًا بالاصطلاح لأننا ندين وننقاد له.
- ويُسمى أيضًا مِلَّة لأن المَلَكَ أملاه على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أملاه علينا.
- ويُسمى أيضًا شرعًا وشريعة, وسُمِّيَ الشراع شراعًا لأنه يُنصب, وهكذا نصب الله الدين, وباعتبار أنه نصبه لنا صار اسمه شريعة أو شرعًا.
والشارع الذي شرع هذه الشريعة (أو هذا الشرع) هو الله سبحانه وتعالى, ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وسيلة نقل الشرع, وهو المُبيِّن للشرع, وهو المُفصِّل للشرع, سُمِّي شارعًا من باب المجاز, أي بالنسبة إلى السبب, فالشارع على الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى, والشارع من حيث السبب والمجاز هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد يسأل سائل: هل الأحكام الاجتهادية الفرعية في الفقه من الدين؟
نقول: إننا نجد خلافًا بين الحنفي والشافعي والحنبلي في جزئيات اجتهادية, فمثلاً جزئية مسح الرأس:
عند الحنابلة مسح الرأس كله فرض, وعند الحنفية مسح ربع الرأس فرض, وعند الشافعية مسح بعض الرأس... وهذه أحكام اجتهادية يختلف فيها المجتهدون, فهل هي من الدين؟ أي هل هي من وضع الله؟
لا شك أن الأحكام الاجتهادية هي وضع إلهي, لكن الله سبحانه وتعالى جعل فيها سَعَة, فأخفى الدقائق, وكلَّف المجتهدين: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ} [النساء: 183] أي يستخرجون الحُكْم, وهذا يحتاج إلى مَلَكة اجتهادية, فالمجتهدون رضي الله تعالى عنهم يعانون إظهارها, والاستدلال عليها بالقواعد كما علَّمَهم الحقُّ سبحانه في القرآن والسُنّة.
فالمجتهدون ليسوا هم الذين يضعون الأحكام الاجتهادية, إنما يعانون حتى يُظهروا تلك الأحكام, فإن أصاب المجتهد فله أجران, وإن أخطأ فله أجر, بشرط أن يكون مجتهدًا, لا أن يأتي شخص لا يعرف حروف الجر مثلاً, ثم يتنطَّع ويقول: أنا أفهم الكتاب والسُنّة, نقول له: ماذا تفهم في البديع والصرف, أو في النحو, أو في البلاغة... إلى آخر ما هنالك؟
فيجد أنه لا يملك ما كان يملكه الأئمةُ المجتهدون من الأدوات, حيث قرؤوا السنَّة كلها, وعلموا الناسخ والمنسوخ, وفهموا المُحكَم والمُتشابِه, وهذه الدقائق التي لا بد للإنسان أن يُحصِّلها حتى يكون مُجتهدًا... فباب الاجتهاد لم يُغلق باتفاق, لكن لا بد من توفُّر شروط شديدة جدًّا, وقد توفرت هذه الشروط في أئمة كِبار, بلغ عددهم الأربعة عشر, منهم: الليث والثوري والأوزاعي وأبو ثور... لكن الذي وُثِّق وكُتب ووصل إلينا هو الفقه المنقول عن الأئمة الأربعة رضوان الله تعالى عليهم, الذين هم: الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه, والإمام مالك, والإمام الشافعي محمد بن إدريس, والإمام أحمد بن حنبل.
إذًا هذه الأحكام الفقهية الاجتهادية هي من الدين, وهي من وضع الله, لكنها تخفى علينا, ويعاني المجتهدون إظهارها والاستدلال عليها, فإن أصاب المجتهد وقد وصل إلى شروط الاجتهاد فله أجران, وإن أخطأ فله أجر, والله سبحانه وتعالى قَبِل منّا في هذه الأحكام أن نُقلِّد المجتهدين, لكنه لم يرضَ منا أن نُقلِّد في العقائد, ففي الأحكام الاجتهادية نُقلِّد, لكنه سبحانه أمرنا في العقائد أن ننظر, ولهذا كان واجبًا علينا أن نتعلّم عِلْم العقائد, ونحن ما نـزال في مقدمات هذا العِلْم, فنحن ما نـزال في البيت الثاني من المنظومة الشهيرة, التي أجمع أهل السُنّة والجماعة على أنها من أحسن ما كُتب باختصار في هذا العِلْم الشريف.
نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه. والحمد لله رب العالمين.
|