قال تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 17-21], وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا} [محمد: 10].قال تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ} وهي جنس, {كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاء} وهي جنس, {كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ} وهي جنس, {كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأرْضِ} وهي نفس الجنس السابق لكن من نوع مختلف, {كَيْفَ سُطِحَتْ}.فالإبلُ خلقٌ من خلق الله تعالى الحيواني، والسماءُ خلقٌ من خلق الله تعالى المَلَكوتيِّ اللطيف النورانيِّ، والجبالُ خلقٌ من خلق الله تعالى الذي ثبَّت به وأرسى خلقًا آخر، فمِنَ الخلق الكثيف ما يُثَبَّت, ومنه ما يُثَبِّتْ, فأتى بمثالٍ من الخلق الكثيف المثبَّت بقوله: {وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} وأتى بمثالٍ من الخلق المُثبِّت بقوله: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} لأن الخلق الكثيف وصفُه التردد, قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11] فقال أهل الفهم: (أي يقول الله للسماء: تعالي طوعًا، وللأرض: تعالي كرهًا), لأن الذي يُخلِد إلى الأرض يصير من جنسها فلا يُحِبُّ اللطيف، وإذا أخلد إلى الأرض فإنه يتثاقل: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} [النساء: 142] فالتصاقهم بالكثيف دلَّ على المجانسة، ولهذا أرسل الله سبحانه وتعالى إلى البشر بشرًا, وما أرسل إليهم ملائكة, فما جعل الرسلَ من الملائكة لكنه جعلهم من البشر.وفي هذا المثال بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا أن الكثيف المثبَّت بحاجة إلى كثيف مثبِّت، فكانت بشرية الرسل مثبِّتةً لبشرية غيرهم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف: 110] لكني مثبِّتٌ لكم.فإذا توهمتم, حين تدعوكم نفوسكم الأرضية, أنكم لا تقدرون على مخالفة الشهوة، فانظروا إلى الرسل، وانظروا إلى النماذج البشرية أيضًا: {قَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي} [يوسف: 23] فهذه نماذج مثبِّتة، وكذلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].إذًا: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ} وهي مثال من الخلق الحيواني؟وقد اختار الحق سبحانه وتعالى للإنسان هذا المثال من الجنس الحيواني لأنه الأكثر صبرًا، أما الإنسان فأقل صبرًا، فليس من أفراد الجنس الحيواني مَنْ يصبر كصبر الإبل، فكأنه تعالى يعطي درسًا للناظر: أفلا ينظر إلى هذا المخلوق كيف أعانه الله فصبر؟ وأنت أيها المخلوق البشري أكرمُ عند الله من الإبل.ولهذا جاء في الحديث: (مَنْ يَتَصَبّرْ يُصَبّرْهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله)، فإذا تبع شهوة النفس وانقاد لها فإنه لا يعان، أما حينما يوافق أمر الله سبحانه, ويخالف شهوة نفسه التي تدعوه إلى المحظور والممنوع فإن الحق يعينه, وهذا مثال ونموذج من الصبر.ثم قال سبحانه: {كَيْفَ خُلِقَتْ} أتراها جاءت بالتوالد من اللانهاية, أم أن خالقًا خلقها وخلق صبرها؟ فينتقل الناظر من نظره للإبل إلى نظره لخَلْقِهَا، ويدله نظره هذا على خالقها.{كَيْفَ خُلِقَتْ} أتراها خلقت من لا شيء؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}, لكن: {اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فساقه النظر إلى الإبل إلى ملاحظة عجائب هذا الخلق وإعانة الخالق، فخلقها وخلق صبرها ووصفها.ثم قال: {وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ} فإذا أردت أن تُرفَع منـزلةً ومكانةً فكن ملكوتيًّا، فلا تُعَطِّلْ ملكوتيتَك بمُلكك، فالروح مرفوعة, وهي سبب رفع، ولهذا قال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وهذا بسبب الملكوتية، فرفعت السماء بملكوتيتها.أما إذا أخلد الإنسان إلى الأرض فإنه ينحط: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] لكنه إذا ارتقى من كثائفه المُلْكية إلى روحانيته الملكوتية فإنه يرتفع.ففي قوله سبحانه: {وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ} ترى سنة الحق في رفعه الملكوتي، ويدلك هذا أيضًا على أن الملكوت لم يرتفع بذاته، إنما رَفَعَهُ مَن اسمُه الرافع، فلا المُلْك ولا الملكوت يستحق أن تنجذب إليه، فلا تنجذب إلى روحانيتك ولا إلى بشريتك، فمع أنه يرفعك بملكوتيتك وروحانيتك، ويخفضك ببشريتك، لكن كن مع الرافع والخافض, لا مع سبب الرفع, ولا مع سبب الخفض.ثم قال: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} وكما قلنا: هما نوعان من جنس واحد هو الجنس الكثيف, أحدهما مثبِّت والآخر مثَبَّت، وهكذا البشر كلهم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ} [الأنفال: 12] فقال لهم: "فَثَبِّتُواْ" عندما نزلوا بصورة البشر، حيث نزلوا على خيول، وبأيديهم سيوف.ومن لطائف ما ذَكَرَه بعضُ العارفين أنه قال: هذا النـزول لتكميل علم الملائكة, حيث قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} [البقرة: 30] فجعلهم سبب سفكٍ للدماء ليكملهم, وليفهمهم أن سفك الدماء قد يكون بحقٍّ وقد يكون بباطل.فمن كان من الرسل أو على قدم الرسل عليهم الصلاة والسلام يكون مثبِّتًا، لكن هذا المثبِّت هو مثبَّتٌ من قِبَل الله جلَّ وعزَّ، لذلك قال سبحانه:{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} فهي ليست مثبِّتة بذاتها.ألا يسمى الرسلُ, وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدهم, شُرَّاعًا؟!فالشراع نُصُب، وما سمي شراعًا إلا لأنه منصوب، والشارع المجازي منصوب للخلق حتى يراه ويتأسى ويهتدي به كلُّ من رآه، فهذه الجبال التي نصبت هي كالشريعة, وكالذين صارت فيهم الشريعة إما عصمة أو حفظًا.قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] فمع أنه صلى الله عليه وسلم مثبِّتٌ لكن الحق ثبَّته، بل إن الأخ يكون مثبِّتًا لأخيه حين يكون الحُبُّ والتآخي في الله قويًّا, ومنه قوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] وهذا من التثبيت، فالأخ الصادق يثبت أخاه.فإذا صحَّت الأخوَّة في الله يكون الأخ مثبِّتًا لأخيه، وإذا كانت العلاقةُ علاقةَ نفوس فلا يكون مثبِّتًا, بل تستبدل الطاء بالتاء، أي يكون مُثَبِّطًا.أصحاب سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام قالوا له: {اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] وأصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قالوا له: لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: {اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} إنما نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وقولهم: "إنا معكما" أي موافقةً وامتثالاً, لأن الحق هو الشارع الحقيقي، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الشارع المجازي, وهذا مقام تباين، لذلك صحت التسمية.وقال سبحانه: {وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} وفي موضع آخر قال: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] وكلُّ ما كان كذلك فإنه يدعو للشفقة، أما ترى الطبيب إذا رأى سطيحًا كيف يشفق عليه؟!فإذا نَصَبَكَ الحقُّ عَلَمًا من أعلام الهداية والدعوة إليه, تَذَكَّرْ أنه ما نَصَبَكَ إلا من أجل مَنْ سَطَحَه لتكون مثبِّتًا له.وهكذا يكون أهل الله، فهم يشفقون على القاتل أكثر من إشفاقهم على القتيل، ويشفقون على الظالم أكثر من إشفاقهم على المظلوم، لأن حقَّ المظلوم لا يضيع، لكن الظالم سيُجازى، ولذلك أتى بعدها بقوله سبحانه:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} وذلك لأن الغفلة نوم، والنائم غالبًا ما يكون ممتدًا أو سطيحًا، فقال: {فَذَكِّرْ} أي: أيقظ.ومما قاله سيدنا علي رضي الله عنه: "الناس نيامٌ, فإذا ماتوا انتبهوا"، فجاء ليوقظهم قبل اليقظة، وليوقظ قلوبهم، ويخرجهم من ظلمات العمى إلى نور الإبصار: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] وأُخْرِجُ من كان أعمى إلى البصيرة.ثم أتى الإمام النووي بعدها بالآية:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا} ووقف عند قوله: {فينظروا} وهذا من فهمه رضي الله تعالى عنه, حتى يكونوا في الإبصار لا في العمى.وفيها مناسبة لطيفة أيضًا:فالذي يسير في الأرض لا ينظر إليها لكنه ينظر إلى المنصوب، فانظر كيف أتى في هذه الآية بمَنْ خَفَضَه ورَفَعَه ونَصَبَه: حيث نصب الجبال, وخفض الأرض, ورفع السماء، وما بقي إلا الإبلُ الساكنة في صبرها, والتي سكنت في مجاري الأقدار، قال صلى الله عليه وسلم: (المُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ, حَيْثُمَا قِيْدَ انْقَادَ).فالمخفوضُ: الأرض, والمنصوبُ: الجبال, والمرفوعُ: السماء, والساكنُ في مجاري الأقدار: الإبل.فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ} المخفوضة المثبَّتة، وينظروا إلى المنصوب، والمرفوع, والساكن، ليشهدوا رافعَ المرفوع, وناصبَ المنصوب, وخافضَ المخفوض, ومُسَكِّنَ الساكن.نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا امتثال أمره، وأن يفهِّمنا, والحمد لله رب العالمين. |