عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَارِبُوا, وَسَدِّدُوا, وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَلا أَنْتَ؟ قَالَ: وَلا أَنَا, إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ./ رواه مسلم.هذا حديث عظيم, نفهم منه أمورًا ثلاثة: أمران يتعلقان بالسلوك, وأمرًا يتعلق بالاعتقاد ومعرفة الحقيقة.- أما اللَّذان يتعلقان بالسلوك فيتبعان قضية كبيرة في ديننا, وهي ما يسمى بالثابت والمتغيّر, أو بالمعلوم من الدين بالضرورة والمعلوم من الدين بالنظر.فالثابت أو المعلوم من الدين بالضرورة, مثاله: الصلوات المفروضة خمس, وعدد ركعات الصبح اثنتان والظهر أربعة, ويجب في الزكاة في كل أربعين واحد من المال, وأن الخمر محرّم, وأن الزواج بأكثر من أربعة محرّم, وأن أكل لحمِ الميتة محرّم, وأن الحجّ فرض على المستطيع, وأن صيام شهر رمضان فريضة, وأن الاحتكام لغير الشريعة كفر, وأن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخة للشرائع الأخرى, وأن العَالَمَ كلَّهُ مخاطب باتِّباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, ولو كان موسى وعيسى في هذا الزمان على وجه الأرض لأعلنا تبعيتهما لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ... فهذه كلها اسمها ثوابت لا تقبل التغيّر.وهذا كله تحت عنوان: سَدِّدُوا, أي إياكم أن تنحرفوا عن هذه الثوابت قيد أنملة, إذ لا مجال فيها للمقاربة, ولا مجال فيها للاحتمال.وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: قَارِبُوا, فهو أصل في الاجتهاد, وذلك في المتغيرات والمحتملات, مثال: الفريضة في مسح الرأس: هل هي الربع أم الكل أم البعض؟ فهي مسألة محتملة, أو هل يجوز للأب أن يأخذ مهر ابنته؟ فهذا من المحتمل, حيث قال المالكية: نعم, وقال غيرهم: لا, وكذلك هل يجوز أن يُصلِّي المرء بعد شروق الشمس مباشرة؟ فهذا أيضًا من المحتمل, حيث قالوا: نعم, وقالوا, لا.فأصل الاجتهاد بشروطه في السلوك (أي في العمل) قوله صلى الله عليه وسلم: (قَارِبُوا), أي اجتهدوا ما استطعتم أن تقتربوا من الأمر, وهذا من باب التوسعة على الأمة, حيث يجتهد أربعة من الفقهاء فيقترب ثلاثة ويصيب واحد, والله سبحانه يقبل من الجميع, وقد جعل الإمام الشافعي أصلَ الاجتهاد قولَه تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 143], فإذا كنت في أفريقيا, أو في آسيا, أو في أوربا ... فأين أنت والكعبة؟ فلا بد أن تجتهد حتى تحدد اتجاه الكعبة, لذلك جعل هذه الآية أصل الاجتهاد.وهذا من باب: (قَارِبُوا), لأنك لا تستطيع تحديد ذلك بدقة.وخَصَّ اللهُ سبحانه وتعالى صنفًا, له من الصفاء والحسِّ الباطن ما يستطيع أن يستشعر من خلاله المحتمِلات, ويُرجِّحُ بباطنه, وهو الذي قيل له: (اسْتَفْتِ قَلْبَكَ), فهذا صنف خاصٌّ لا يُقاس عليه, ولكن حتى هذا الصنف لا يخرج عن: (قَارِبُوا), لأنه إذا اضطلع أو استشعر بباطنه شيئًا من المحتملات فهذا لا يعني أنه يطّلع على كلّه.إذًا هذا كله باختصار ما يتفرع عن قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (قَارِبُوا وَسَدِّدُوا).وعلى مستوى السلوك العملي إياك أن تنحرف عن الثوابت, فاليوم حرب أعدائنا على هذه الأمة هي في الثوابت لا في المحتمِلات, فبحجة الاتجاه المعاكس, أو الرأي والرأي الآخر, وحرية التعبير ... يحاولون أن يهزُّوا الثوابت في القلوب.لذلك تنبهوا يا شباب, فهذه وظيفتكم, لا تقولوا: هناك من هو متخصِّصٌ ومكلَّفٌ بردِّ الشُّبَه, بل أنتم مكلفون جميعًا, أنتم حُرَّاس العقيدة.تنبَّهوا, فالحرب لهزِّ الثوابت كبيرة, فينبغي أن نجتهد في الليل وفي النهار, وهذا هو الجهاد في هذا الوقت, أي الجهاد لتثبيت هذه الثوابت في القلوب, وهي ثابتة لكن يجب أن تُثَبَّتَ في القلوب.لا تكتفِ بالسبحة, فهناك حربٌ ضروسٌ تُشَنُّ على دينك.- أما الأمر الثالث الذي هو من قبيل الاعتقاد ومعرفة الحقيقة, فيبين فيه صلى الله عليه وسلم أن الأسباب لا تؤثر, وأن قدرة الإنسان غير مؤثرة, بل يخلق الحق تعالى عندها, لا بها, ولا بقوة مُودَعَةٍ أو مجعولةٍ فيها, فإذا رأيت طاعةً فاحمدِ الله, وإذا رأيت غير ذلك فلا تلومَنَّ إلا نفسك, واستغفر الله.وهذا مبيَّنٌ بقوله: لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ.بعض المتنطِّعين الجهلة قد يقول: نردُّ الحديثَ لأنه يعارض نصًّا قرآنيًّا, وهو قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] وكم من الآيات التي وردت في هذا المعنى, وما فهم هؤلاء المتنطعون, الذين يحتاجون إلى رَضّاعة ليرضعوا من خلالها قُطيراتٍ من العلم, ما فهموا أن الدين بنصيه: (الكتاب والسنة) جاء بتحقيقٍ وتشريعٍ, فكل نصٍّ أُسند إلى الإنسان أو إلى الأشياء فهو تشريع, وكل نصٍّ ينفي عن الأسباب وينسب إلى الله تعالى فهو تحقيق.فإذا قال: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] أي الفلك, فهذا تشريع, فهو ينسب إلى الأسباب, وهذه لغة الحكمة والتشريع.وإذا قال: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} [يونس: 22] فهذا تحقيق, فهو ينفي عن الأسباب وينسب إلى الله تعالى.وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ} تحقيق, {إِذْ رَمَيْتَ} تشريع, {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 16] تحقيق.فهؤلاء لا فهموا معنى القدرة ولا معنى الحكمة, وبدؤوا يضربون الحديث بالقرآن والقرآن بالحديث.فقد يأتي التحقيق والتشريع في القرآن, وقد يأتي التحقيق والتشريع في السنة, وقد يأتي التحقيق في القرآن والتشريع في السنة, وقد يأتي التشريع في القرآن والتحقيق في السنة, وهذا نموذج من النماذج, فالوحي مصدره واحد, لأن الذي أوحى هو الله, سواء كان هذا الوحي كتابًا أو سنة.فمتى سيفهم أولئك الذين يثيرون في كل يوم قضيةً تُشكل على الشباب, ولا سيَّما في الجامعات؟ حيث نسمع من آنٍ لآخر متنطعًا يقول: هذا حديث يُرَدُّ, ولو كان في البخاري, ولو كان في مسلم, لأنه يتعارض مع نصٍّ قرآنيّ.رضي الله عن سيّدنا عبد الله بن عمر لما قال له قائل مثل هذا الكلام, فقال له: (رسولُ الله أعلمُ منك بالقرآن).إذًا: هذا الحديث يرتقي بنا ارتقاءً معرفيًّا, حيث عرفنا من خلاله الأصلَ السلوكي والأصلَ الاعتقاديّ لكلِّ الدين.سبحان الله, هذه الأحاديث في هذا الباب: (قُلْ: آمَنْتُ بِالله, ثُمَّ اسْتَقِمْ) تبيّن الدين كله, وهذا الحديث فيه جزء عملي وجزء اعتقادي, أي فيه الدين كله: المعلوم من الدين بالضرورة والمعلوم من الدين بالنظر مع الجانب الاعتقاديّ.إذًا فهناك واجبٌ كبيرٌ عليك أينما حللت وارتحلت.وهذه المعرفة:1- أول درجة فيها عقليّة, فمن خلال دردشة في مقدماتٍ يستطيع العاقل أن يهتدي بها, وهذه خطة يجب أن نسلكها.2- ثم بعد ذلك يجب أن نحوِّل هذه المعرفة إلى تفاعل شعوريٍّ قلبيٍّ من خلال سرِّ: "لا إله إلا الله".3- فإذا نطق القلب بـ: "لا إله إلا الله" وتفاعل معها ووجد لذَّتَها, فإنه يرتقي إلى معرفة الروح, حيث تنجذب الروح إلى سرِّ: "لا إله إلا الله".وهذه الدرجات الثلاثة هي خطتنا, هي منهجنا, ماذا نصنع, ماذا نفعل؟ هل نحضر مجالس الذكر ومجالس العلم وكفى؟ إذًا فأين المنهج؟المنهج هو الذي يجب أن يسأل كل واحد نفسه فيه: ماذا أقدم فيه؟وبمقدار ما تكون متفاعلاً على مستوى القلب أو الروح تؤثر في الآخرين, لأن فاقد الشيء لا يعطيه, فإذا كان حظُّك من هذا مجرَّدَ العقل فلن تستطيع أن تُقدم إلا أفكارًا, لكن إذا تفاعلْتَ بقلبك فستقدِّمُ مع الأفكار حالاً وشعورًا, فإذا انجذبَتْ روحُك ورقت وتلطفت فستقدم أنسًا وعشقًا وشوقًا, فتنقلب اللقلقة إلى احتراق ومحبّة. إذا لم تكونوا حملة النور, فمن يكون كذلك؟إذا كنتم من شوقكم تصيحون: الله, الله .... ثم إذا خرجتم بعد ذلك يضعف تفاعلكم, فما الفائدة إذًا؟نحن بحاجة في هذا الوقت إلى منهج التبنّي بدلاً من التمنّي, ويكفينا ما ندعو إليه من التأنّي:
فالفتى مَنْ سلبَتْهُ جملةً
لا الذي تسلُبُهُ شيئًا فشيْعلى كل واحد فينا أن يسأل نفسه, وبدون استثناء: ماذا أقدّم؟ وهل أقدم على المستوى الفرديّ؟ أم أنني أقدم وفق منظومة جماعية متكاملة منسجمة؟اللهم لا توجه قلوبنا إلا إليك, ولا تجعل اعتمادنا في الأمور كلها إلا عليك, وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة, والحمد لله رب العالمين. |