شرح جوهرة التوحيد
البيت الأول (1)
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله ربّ العالمين, اللهم صلِّ على سيّدنا محمّد عبدك ورسولك النبيِّ الأميِّ وعلى آله وصحبه وسلم.
كنا فيما مضى مع مقدمات عامّة, تُمهِّد الطريق إلى علم التوحيد, الذي من خلاله نقرأ ما كتبه العلماء رضي الله تعالى عنهم.
واخترت أن يكون المتن الذي نتعلم من خلاله علم التوحيد من أشهر المتون وأنضر المنظومات في عِلْم العقيدة, وهو نظم "جوهرة التوحيد", الذي لقي القَبول في الأرض, وتلقاه أهل العِلْم كلهم في الأمة الإسلامية بالقبول, فكان من المتون العظيمة, وهو من المنظومات التي شُرحت شروحًا كثيرة في الشرق وفي الغرب.
صاحب هذا النَظْم هو الإمام إبراهيم اللقاني رحمة الله عليه, وهو من كبار أعيان علماء القرن العاشر الهجري, أي أنه ممن جمع خلاصات ما اتفق عليه أهل العلم, فالكتاب عندما يكون في القرن الثاني مثلاً فما يزال النضج المعرفي فيه في تطوره, لكننا نجد عندما نصل إلى القرن العاشر أن التطور المعرفي قد وصل إلى أوجِهِ, وهكذا فإن القراءة في عصرنا هذا تكون كالترجمة باللغة المعاصرة لما قاله هؤلاء العلماء رضوان الله تعالى عليهم, وهذا العِلْم لا يمكن تحصيله إلا بالتلقي على من تلقاه.
ونبدأ إن شاء الله تعالى بشرح هذا النظم المبارك, نسأل الله سبحانه أن يُتمم لنا بفضله فيه.
يقول الإمام اللقاني في هذا النظم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على صِلاتِهِ ...............ثم سلام الله مع صَلاتِهِ
على نبيٍّ جاء بالتوحيد...............وقد خلا الدينُ عن التوحيد
الحمد لله على صِلاته: أي على عطاياه.
الحمد: وهو من مسائل عِلْم التوحيد, التي تكون كالتوطئة للعلم, وهو: ثناء بالكلام على الممدوح بصفاته الذاتية والفعلية.
وقلنا: "بالكلام", ولم نقل: "باللسان", لأن الله سبحانه وتعالى يحمد, والعبد يحمد, فإذا قلنا: "الكلام" صح هذا التعريف في كلام الله, وفي كلام الخلق, وبعض الشُّرَّاح يقول: الحمد ثناءٌ باللسان, وهذا لا ينطبق إلا في حق المخلوق, أما إذا قلنا: هو الثناء بالكلام, صار هذا التعريف شاملاً لحمد الله سبحانه, لأن الله قال: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وهذا من كلام الله, فهو حمد الله لذاته.
وعندما نحمد عبدًا كأن نقول: هذا رجل فيه خير, أو هذا رجل حسن السيرة, فهذا حمدٌ لمخلوق.
وربما يمدح الله سبحانه عبدًا من عباده, كقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] في حق سليمان وفي حق أيوب عليهما الصلاة والسلام.
فمعنى الحمد الثناء والمدح, وهذا الثناء بالكلام, وذلك ليشمل حمد الخالق, أي الحمد القديم الأزلي , وحمد المخلوق, لأن المخلوق أيضًا يتصف بالكلام, ولكن ليس كلام المخلوق مثل كلام الخالق سبحانه وتعالى.
فمعنى الحمد ثناء بالكلام على الممدوح بصفاته الذاتية والفعلية: فعندما نقول: الله سبحانه وتعالى خالق, فهذا من الصفات الفعلية, لأنه يدل على فعلٍ أي أنه يخلق, وعندما نقول: مولانا رازق, فهذا من الأسماء الدالة على الصفات الفعلية لأنه يرزق, وكذلك المعطي والمانع, والخافض والرافع, والمُعِزّ والمُذِلّ ... كلها أسماء دالة على صفات فعلية, أي تدل على فعل.
وهناك أسماء دالة على صفات ذاتية, فعندما نقول: مولانا عليم, أو قدير, أو سميع, أو بصير ... فهذه ليست من أفعال الله سبحانه, وإنما هي أوصاف كمالية له سبحانه وتعالى.
إذًا: فالحمد ثناء بالكلام على الممدوح بصفاته الذاتية أي الكمالية, والفعلية.
وسبب تأكيدنا على الكلام, لأن هناك إلى جانب الحمد الشكر, فالشكر يكون بالقول ويكون بالفعل, أما الحمد فلا يكون إلا بالكلام, فعندما نلاحظ معنى الشكر نجد أنه الثناء بالقول أو الفعل, والفعل ينقسم إلى: فعل ظاهر وفعل باطن.
فالشكر بالقول معلوم, وأما الشكر بالفعل فمثاله أن تُخرج مالاً في سبيل الله, حيث تقول: سأنفق كذا وكذا شكرًا لله, وعندما تُصلِّي ركعتين شكرًا لله, فهذا شكر بالفعل الظاهر, وعندما يُعظِّم قلبُك اللهََ سبحانه وتعالى, وعندما تقع المحبة في قلبك لله سبحانه وتعالى, فهذا فعل من أفعال القلب, وليس من أفعال الظاهر, وشتان بينهما, فلا بد أن نُفرِّق بين فعل الظاهر وفعل الباطن.
ولذلك إذا قام العبد بفعلٍ, يُقال: هو شَكَر الله, سواء كان هذا الفعل من أعمال ظاهره أو من أعمال باطنه.
وهناك التباس كبير عند بعضهم في قضية عِلْم الظاهر وعِلْم الباطن, فعِلْم الظاهر كأن تنفق بيدك, وتركع بجسدك ... وأما عِلْم الباطن فهو ما ورد في القرآن متعلقًا بأفعال الباطن, مثل: اصبروا.. اشكروا.. توكلوا .. فهذه كلها أفعال, ولكنها قلبية, وهذا ينبغي أن نُفرِّقه عن الاصطلاح الشائع الذي هو الباطنية, فالباطنية فرقة ضالة تصرف المعنى من الظاهر إلى الباطن, وتلغي المعنى الظاهر, وهذا زندقة وخروج عن الدين.
إذًا فعِلْم الظاهر هو الفقه, وعِلْم الباطن ما يتعلَّق بالأخلاق والأحوال, أي بأعمال القلوب, وقد أفرد الإمام الغزالي رحمة الله عليه في كتاب الإحياء لأفعال القلوب أبوابًا كثيرة جدًا, فليرجع إليها من يريد التفصيل.
إذًا الشكر هو: الثناء بالقول أو الفعل, لكن على المحسن, أي بسبب إحسان.
فعندما تقول: فلان هادئ, أو فلان حسن الصورة, فهو لم يفعل شيئًا, ولكنك حمدته بوصف لازم فيه, وهذا ما يسمونه في الاصطلاح بالفضائل, أي صفات لازمة فيه وقد اتصف بها, أي من فضائله أنه حسن الصورة, أو حسن العشرة, أو كريم الخُلق ...
لكن عندما تقول: هو يتقن عمله, فهذا امتداح لأفعاله لا لأوصافه التي فيه.
فالشكر لا يكون على الفضائل, وإنما يكون على الفواضل, أي على الأعمال, أو على الإحسان.
فالحمد أعم من جهة لأنه يشمل الثناء على الصفات الكمالية الذاتية وصفات الأفعال, ولكن الشكر أعم من جهة أخرى لأنه ليس ثناء بالكلام فقط وإنما هو ثناء بالكلام وثناء بالفعل.
ولا بد أن نأخذ تطبيقات من كتاب الله سبحانه وتعالى, حتى نُرْجِعَ هذا العِلْم إلى أصوله في الكتاب والسُنّة, وخاصة في هذا الزمان, فعلينا أن نربط كل عِلْم فرعيٍّ بأدلَّته وأصوله ومصادره.
ثم نحن نقول: الحمد ثناء على الله سبحانه وتعالى, فهل تُثني عليه سبحانه بما خطر ببالك؟
أنت لا تعرفه, فهو الذي عرَّفك, فأنت تستطيع أن تتعرف إلى المخلوق, ولكن طريقك إلى معرفة خالقك إنما هو خبره, لهذا لا تثني على المولى إلا بما أثنى به هو على نفسه, ولا تحمد المولى إلا بما حمد به نفسه, لأنك قد تحاول مدحه وأنت تسيء من حيث لا تشعر: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].
فالإنسان مشكلته أنه أحيانًا يقع في الوهم, والله سبحانه وتعالى عليم, وهو سبحانه خبير, فاستنِد بحمدك إلى حمده, قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3] أي نـزِّه أيها الإنسان مولاك وقدِّسه وعظِّمه ... ولكن بحمد ربِّك, أي بما أثنى به على نفسه, لا بما يخطر على عقلك.
إذًا عندما نقول: الحمد ثناء على الممدوح, فلا ينبغي أن نثني نحن بما يخطر على بالنا.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) وهو أعلمنا بالله, فأعرف الخلائق بالله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو يقول: (لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) إذًا لا نثني على الحق تعالى إلا بما أثنى به على نفسه, والأصل في هذا قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي عظِّم ربك بما أثنى به على نفسه, وبما امتدح به نفسه.
نذكر أمثلة عن الحمد على الأوصاف الكمالية الذاتية من القرآن الكريم:
- قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] أي وحدانيته تعالى, وهذا وصف من أوصاف ذاته العليَّة سبحانه, فهو حمد على الله سبحانه وتعالى بأوصافه الكمالية الثابتة له التي اتصف بها سبحانه.
-وقال: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} وهو وصف من أوصافه الكمالية, أنه سبحانه مُتَّصف بوصف الحياة, وقد كان صلى الله عليه وسلم في دعائه ومناجاته يتململ بين يدي مولاه ويقول: (أنْتَ الحَيُّ الَّذي لاَ يَموتُ, وَالجِنُّ والإِنْسُ يَمُوتُونَ), إذًا هو الحي, فالحياة من أوصاف مولانا الذاتية الكمالية الثابتة له سبحانه, فلمّا عرَّفنا سبحانه على وصفه الكماليّ الذاتيّ علََّمَنا أن نحمدَه فقال: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: فادعوه, ومن الدعاء الذي علَّمنا إياه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي احمدوه, لأنه متصف بهذا الوصف الكمالي لذاته سبحانه وتعالى.
- وقال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] أي عظِّم ربّك وقدِّسه بما حَمِد به نفسه, وقد حَمِد في هذا الآية نفسه بأنه موصوف بالحياة.
- وقال سبحانه وتعالى أيضًا في سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذا امتداح وحمدٌ باسمه الربّ, وهو من الأسماء الجامعة الكمالية.
ومن أمثلة الثناء على الله سبحانه وتعالى بأوصافه الفعلية, والثناء عليه بأفعاله:
- يقول تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر: 1] فالاسم الفاطر من الأسماء الدالّة على الأوصاف الفعلية, فهو يدل على فعلٍ, أنه فَطَر السماوات أي خلقها, فأول الخَلْقِ اسمُه فَطْر, لذلك معنى الفطرة ما يَنشأ الإنسان عليه في أول خلقته, فامتدح في هذه الآية اسمًا من أسمائه الدالة على فعل من أفعاله.
- وقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وهنا يثني أيضًا على فعل من أفعاله, أنه سبحانه وتعالى أنعم بالخلق, واعتنى بخلقه لأنه جعل الظلمات والنور, فالظلمات فيها لنا سَكَن, والليل فيه لنا سكن, وفيه لنا سَتْر, وفيه لنا هدوء للأعصاب وسكينة, وفيه لنا لباس ... والنور لنا فيه معاش, فإذًا هو خلق واعتنى بخلقه, فهو يمتدح فعله سبحانه.
وقال سبحانه وتعالى وهو يدلُّ على أن حمده سبحانه عامٌّ في كل زمان ومكان: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] أي في كل مكان وفي كل زمان, فهو سبحانه محمودٌ ممتدَحٌ في كل زمان وفي كل مكان: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] فهو سبحانه يُحمدُ في كل زمان ويُحمدُ في كل مكان.
وقال سبحانه: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} [القصص: 70] فقد يظن الإنسان أن مولانا سبحانه وتعالى يُحمد في كل زمان ومكان في الدنيا فقط, لكنه بيَّن أنه محمود في كل زمان وفي كل مكان في الدنيا وفي الآخرة, أبد الآبدين, فقال: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى} أي في الدنيا, {وَالآخِرَةِ} وهذا مُؤكد لعموم ما قدَّمناه, من أنه سبحانه وتعالى محمود في الدنيا وفي الآخرة في كل زمان وفي كل مكان.
- ثم من الثناء عليه سبحانه وتعالى بأوصافه الفعلية وأفعاله, أنه يُثني على نفسه بنعمة عظيمة أنعمها علينا, عندما أنـزل إلينا القرآن وأرسل إلينا سيّدنا محمّدًا عليه الصلاة والسلام, فقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنـزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] وهنا ذُكرت نِعَمٌ كثيرة في هذه الآيات منها:
أولاً: نعمة إنـزال القرآن: فنحن كيف كُنّا سنسترشد لو لم يكن هذا المنهج المستمر الباقي أبد الآبدين موجودًا أمامنا نقرؤه؟ وهو يُقرأ حتى في الجنة.
ثانيًا: اختيار من سيُنـزل عليه القرآن وهو سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام: فهو خِيارٌ من خيارٍ من خيار.
فأنت على سبيل المثال إذا أردت أن تختار شخصًا لوظيفة ما, واجتهدت كثيرًا في ذلك, فإنك تختار مثلاً خمسة موظفين, فيكون اثنان منهم مناسبين والباقي لا, أو العكس, ولكن الله سبحانه وتعالى العليم الخبير, لمّا أراد أن يُنـزل القرآن الذي هو الكتاب العام لكل الناس دون استثناء, الصيني والهندي والباكستاني والعربي والأمريكي والأوربي والشمالي والجنوبي ... لذلك كان لا بد من اختيار من يُنـزل عليه هذا القرآن, ليكون مُعبِّرًا عن القرآن, ولهذا كم سيكون عظيمًا الذي سيختاره؟ ولذلك سمَّاه المختار عليه الصلاة والسلام, وسمَّاه المُصطفى أي الذي اصطفاه, وأعظم وصف وصفه به هو: عبده.
ثم بيَّن لنا سبحانه وتعالى أن هذا الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام لا يأتي من عنده بشيء ولو بذرة, فهو عبدٌ خالص لله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] لذلك إذا أردت أن ترتاح فانظر إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام واتَّبعه, لأنه عبد خالص, لا يملك مع سيِّده, وقد قال له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] فالأمر كله لله سبحانه وتعالى, ولما كان عبدًا خالصًا لله أنـزل عليه هذا الكتاب, ولما وصفته السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها (كما في الصحيح) قالت: (كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ).
قد يقول شخص وهو يقرأ هذه الآية: ألا يقتضي السياق أن يقول: ولَمْ يجعل لهما عوجًا؟
نقول: لا, إذ لا يوجد تفريق, فطالما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مظهر القرآن, فلا حاجة أن يُعدِّد, لذلك قال: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ} فلا هذا القرآن فيه عِوَج, ولا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيه عِوَج, لأنه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}, {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ, لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين} [الحاقة: 44-45] فهو صلى الله عليه وسلم ناطقٌ عن ربِّه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
بعض الناس يضلِّلون ويقولون: "النبي صلى الله عليه وسلم جزء من حياته تشريعي, وجزء آخر اجتهادي", وهذا كذب وافتراء, فرسول الله صلى الله عليه وسلم ناطقٌ بوحي: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} فكل نُطقٍ ينطق به فهو وحي, {إِنْ هُوَ} أي نُطقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِلا وَحْيٌ يُوحَى}.
قال أحد الصحابة: يا رسول الله, أأكتب كل شيء؟ وأنت قد تغضب, أو ... فقال مشيرًا إلى فيه: (اُكْتُبْ, فَوَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ الْحَقُّ).
لذلك قال: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} بالمفرد, لأن الاعوجاج لا يطرأ على القرآن ولا يطرأ على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
فهل هذه نعمة علينا أم لا؟
نعم, لأنه إذا أردنا الاقتداء بمن يصح في حقه الاعوجاج سيحصل عندنا اعوجاج, فالله سبحانه وتعالى أرسل نموذجًا إلى كل الناس, لا إلى العرب وحسب, ولا إلى العجم, وليس في زمان محدّد ... إنما أرسله إلى كل البشر إلى يوم القيامة, وهذا النموذج سيبقى مُتَّبعًا, وسيبقى ثابتًا إلى يوم القيامة.
إذًا فكم هي نعمة عظيمة أنه سبحانه وتعالى أنـزل هذا القرآن الذي ليس فيه عوج, وأرسل هذا النبي الكريم الذي هو مظهر القرآن وليس فيه عوج, حتى نهتدي بالقرآن ونرى كيف طُبِّق في حياة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, لذلك حَمِد ربُّنا نفسه بهذه النعمة فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنـزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}.
- وقال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15] وهنا يذكر حَمْدَ سليمان وداوود لله سبحانه وتعالى, لأنه اختصهما بالمنـزلة والمقام والفضل والعِلْم والرفعة ... وهذا اختصاص, لكن كانت الزيادة والتفضيل بالعلم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} وهذه رسالة لنا يا أمة العِلم, يا أمة أقرأ ...
لم يوصِ ربُّنا حبيبَه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة إلا من شيء واحد وهو العلم, فلم يقل: وقل ربِّ زدني مالاً, ولا قال: ربّ زدني قصورًا في الجنة ... إنما قال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114], وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]
أما اليوم فالإنسان يحب الطعام والمال أكثر من العلم, فتقول له: أتريد عِلْمًا أم سيارة؟ فيقول: لا, بل سيارة, أتريد مصنعًا أم عِلْمَ سنةٍ كاملة يصير في قلبك وهبًا؟ فيقول: لا, أعطني مصنعًا, أتريد أن يرزقك المولى من المحسوس, من النساء, من إشباع الغرائز ... أم تريد عِلْمًا؟ فيقول: لا, دعنا نُسَرُّ في حياتنا.
إذًا هذا يدلُّ على سقام, يدل على أن الإنسان ما عرف منـزلة الوَهْب, منـزلة العِلْم, منـزلة العطاء ...
وحين يجلس الإنسان في مجلس عِلْم, فوالله الذي لا إله إلا هو, إن الله ليعطي في هذا المجلس أحسن مما يُعطي كل من يُعطى من المادة, لأن هناك أناسًا يأكلون, وآخرين يشربون, وآخرين في المعاصي ... كلٌّ منهم مشغول بما عنده, ولكن الذي يحضر مجلس العِلْم فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه أفضل من الجميع, لأنه أعطاه عِلمًا, وهذا العِلْم الذي ندرسه (أي علم التوحيد) أعلى العلوم وأعظمها, وهو أشرف العلوم, لأنه يتعلَّق بالله سبحانه, والمُتعلِّق يشرف بشرف المُتعلَّق.
- وقال سبحانه وتعالى وهو يدلُّ على نعمة الهداية التي يُحمدُ عليها: {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} [الأعراف: 43] إذًا يَحمدُ فعله لأنه خلق الهداية.
- وقال سبحانه وهو يذكر نعمة إهلاك الظالمين: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] فحين يكثر الظُلاَّم يحصل الاضطراب, فإهلاكه من يظلم, من نِعَمه تبارك تعالى.
- وقال لنوح عليه الصلاة والسلام: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 28] اللهم نجِّنا جميعًا من القوم الظالمين, ونجِّ الأمة الإسلامية من القوم الظالمين.
- ومن النِّعَم التي حَمِد الحق سبحانه وتعالى فيها فعلَه, نِعْمةُ الذرية الصالحة, فقال على لسان سيّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39].
ربما يقول شخص: ما معنى أن القرآن يذكر هذا: الحمد لله الذي .. الحمد لله الذي ..؟
نقول: هو في هذا يدلُّك على مواطن الخير, فلمّا حَمِدَ نعمةَ العِلْم دلَّك على العِلْم, ولمّا حَمِد نعمة الذرية الصالحة دلَّك على أن تتوخى الأصل الكريم والتنشئة الصالحة حتى تنشأ الذرية الصالحة, ولما حَمِد نعمة الهداية دلَّك على ضرورة التماس أسبابها ...
- وقال: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] أي الغم, غمّ الدنيا, فأهل الجنة يجتمعون فيها ويحمدون الله تعالى أنه خلَّصهم من غمِّ الدنيا.
لننظر إلى هذا الحال وإلى حال من قال فيهم ربّنا سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] فلما تحدَّث عن اليهود وأهل المادة قال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} لأن المهم عندهم أن يعيشوا, سواء كان ذلك مع النكد, أو الغم ... فالمهم أن يأكلوا وأن لا يموتوا, لكن أهل الجنة لما اجتمعوا قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أي الحمد لله الذي أراحنا من غمِّ الدنيا.
- وقال أيضًا في حمد أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] فنحن كنَّا نقرأ القرآن, وهو يخبرنا عن القصور, وعن النعيم, وعن أنهار اللبن وأنهار العسل ... كل هذا كنا نقرأه ونصدِّقه, لكن الآن رأيناه وتحققنا أن الله تعالى صدقنا وعده, {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} وهو المُلكُ الكبير: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] وآخر الناس دخولاً إلى الجنة, وهو أقلهم رتبة, يُعطى بمقدار الدنيا كلها وعشر أمثالها.
فيا من اغترّ بالدنيا, إذا نظرت إلى هذا تضاءلت عندك الدنيا, وفهمت لماذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا أهون عند الله من جناح بعوضة: (لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ), وكذلك حديث الجدي الأسكّ : (... فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ, فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ, ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ, وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ, فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ).
كل هذا حتى نفهم أن ربَّنا عندما يُرغِّبنا بالآخرة, وعندما يبيّن لنا: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 103] حتى نفهم أن هذا عطاء كبير, ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
{نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} [الزمر: 74] إذ لا ممنوع فيها, ففي الجنة إباحية مطلقة, إباحية مع كرم, لكن بشرط ألا تكون هذه الإباحية موجودة في سيرتك الذاتية في وقت التكليف, فإذا كانت موجودة, تُمنع من الإباحية التي فيها السرور في الجنة, فإما أن تكون جنتك في الدنيا, وإما أن تكون جنتك في الآخرة, فاختر.
آخر ما نذكره في بحث: الحمدُ لله على صِلاتِهِ ...:
من خلال ما تقدَّم يظهر لنا أن الحمد نوعان:
- فإما أن يكون قديمًا, أي أنه سبحانه وتعالى هو الذي يَحمَد.
- أو أن يكون حادثًا مخلوقًا أي المخلوق هو الذي يحمَد, والحادث: ما وُجِدَ بعد عدم, أي لم يكن ثم كان.
*والحمد القديم نوعان:
فإما أن يكون حمد الله تعالى لنفسه, كقوله سبحانه: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
أو أن يكون حمد الله لبعض عباده, كقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
*والحمد الحادث نوعان:
وذلك كحمد أهل الجنة لله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} فهذا حمدٌ حادثٌ, وهو حمدُ الحادث للقديم, أو حمدُ المخلوق لخالقه.
أو كحمد بعضنا بعضًا, فهذا حمدُ حادث لحادث, أو حمدُ مخلوق لمخلوق.
ابنة سيدنا شعيب قالت لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] فهي تمتدحه لما رأت فيه من القوة والأمانة, حيث يُذكَر في التفسير أن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يستدل على الطريق, مشى أمام ابنتي سيدنا شعيب, مع أن الذي سيدل الثاني عليه أن يمشي خلفه, لكنه مشى في الأمام لأنه يريد أن يغض بصره, لذلك كان الأمين, وأما كونه قويًّا فلأنه سقى لهما, حيث كان من أشداء الرجال, فعرفتا أمانته وغض بصره.
وما أحوجنا في هذا الأيام إلى الأمانة, والله لا تتنوّر قلوبنا إلا حينما نكون أصحاب أمانة: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وهذه الآية تخاطب الشباب بالدرجة الأولى, ولا سيما في الزمن الذي كثُر فيه الاستهتار.
تذكَّروا حكاية سيّدنا موسى عليه الصلاة والسلام, وحكاية سيّدنا يوسف عليه الصلاة والسلام: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] فليكن البرهان حاضرًا دائمًا, وإذا كان كذلك, فبرهان ربك يعصمك من الوقوع فيما يُسخط الله سبحانه وتعالى ويغضبه.
أخيرًا:
قال: الحمدُ لله: والله هو الاسم الجامع لكل الأوصاف, فالرزَّاق يدلّ على وصف فعليّ, والعليم يدلّ على وصف ذاتي كمالي, لكن الاسم الأعظم الذي هو الله, جامعٌ لكل الصفات ولكل الأسماء, لذلك مما قاله أهل الله: إذا قال الجائع: يا الله, أجابه الاسم المُطْعِم, لأن الاسم (الله) جامع لكل الأسماء, وإذا قال الضعيف: يا الله, أجابه الاسم القوي.
فإذا قلت: يا الله, فعلى أي حال كنت, يجيبك سبحانه.
أهل اللغة يميلون إلى أن هذا الاسم مُشتَق من إله, لكن الراجح عند علماء التوحيد وأهل التحقيق أنه ليس من الأسماء المُشتقّة, فهو أزلي أبدي, يعني في الأزل اسمه الله.
ويُحكى أن سيبويه كان يقول بأن الاسم الأعظم (الله) غير مُشتَق, فلما مات رؤي في المنام, فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي, لأنني قلت: الاسم الأعظم غير مُشتَق.
والراجح عندنا في العِلْم, عند علماء التوحيد, أن الاسم الأعظم الجامع لكل الصفات ولكل الأسماء غير مشتَق, حتى لو خَالفَنا أهل اللغة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوجِّه قلوبنا إليه, وأن يُذيقنا حلاوة معرفته, والحمد لله رب العالمين.
|