قال الله تعالى: {فاسْتَقمْ كَما
أُمْرتَ} [هود: 112], وقال تعالى: {إنَّ الَّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهمُ المَلائكَةُ أن لا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا
وَأَبْشرُوا بالْجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلياؤُكُمْ في
الحَياة الدُّنْيَا وَفي الآخرَةِ وَلَكُمْ فيهَا مَا تَشْتَهي أَنْفُسُكُمْ
وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً منْ غَفُورٍ رَحيمٍ} [فصلت: 30- 32].
أما قوله تعالى: {فاسْتَقمْ كَما
أُمْرتَ} فمعناه الاستقامة الموافقة لأمر الله، والخط المستقيم هو الذي لا اعوجاج
فيه، والله سبحانه وتعالى يقول في أول سورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا, قَيِّمًا} أي:
مستقيمًا، ويصح أن تعود الهاء على "الكتاب" أو على "عبده", وعبده هو مظهر الكتاب،
والكتاب هو الصراط المستقيم لأنه تضمن أمر الله تبارك وتعالى, فلا يمكن أن يحصل
معنى الاستقامة إلا من خلال فهم كتاب الله والاقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
فالاستقامة ربما تحرفها الأهواء ,
صحيح أن القرآن هو منهج الاستقامة، لكن الأهواء قد تحرف هذا المنهج من خلال التأويل
الفاسد, أو من خلال صرف النفوس إلى ما يوافق الأهواء، وقد قال سبحانه في هذه الآية:
{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} ولم يقل: ولم يجعل لهما, ففيها تأكيد على أن الذي
يريد الاستقامة من غير اعوجاج فلا بد له أن ينظر إلى الكتاب وإلى من جعله الله
سبحانه وتعالى مظهرًا عمليًا للاستقامة في الأقوال والأفعال والأحوال.
ثم نحن ندرس في علم التوحيد قضية
الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، حيث إن الإرادة الكونية: {إِنَّمَا قَوْلُنَا
لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] لا يمكن
مخالفتها، والإرادة الشرعية هي كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}
[البقرة: 185] وبعض الناس يلتمسون طريق العسر فيخالفون الإرادة الشرعية، وهذا في
العموم, ولكنني أرى أن الإرادة الشرعية تتطابق مع الإرادة الكونية في حق الرسل
عليهم الصلاة والسلام، ولذلك تحققت العصمة، فلو لم تتطابقا في حق الرسل لما صح أن
يُقتدى بهم, ولما صح أن يكونوا أسوة وأن يكون لهم مقام العصمة.
إذًا: {فاسْتَقمْ كَما أُمْرتَ} بالنسبة لغير الرسول صلى الله عليه وسلم يُفهم منها إرادة شرعية، وأما بالنسبة
لحضرته صلى الله عليه وسلم فهي كقوله تعالى: {كُنْ} أي: فيخلق الله سبحانه وتعالى
الاستقامة، حيث يريد إرادةً شرعيةً وإرادةً كونيةً حينما يخلق فيه وعنده الهمة
والعزم, فيُطبِّق أمر الله سبحانه وتعالى كما أمره.
ثم لم يقل سبحانه: "فاستقيموا كما
أمرتم", لأن هذه المطابقة التامة لا يمكن حصولها 100% إلا في حق الرسول عليه الصلاة
والسلام, لذلك أتى الإمام النووي رضي الله عنه من فقهه وفهمه في هذا الباب بحديث:
"قَارِبُوا" ومما قاله صلى الله عليه وسلم:
(مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ
فَاجْتَنِبُوهُ, وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي
طبقوا من الأمر بقدر ما تستطيعون, فهناك مَنْ وِرْدُه الجهاد، وهناك مَنْ وِرْدُه
العلم، وهناك مَنْ وِرْدُه الذكر، وهناك مَنْ وِرْدُه الخدمة .. وكل شخص يدخل على
الله تعالى من خلال أمر من الأمور، إلا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنه
يستقيم ويمتثل أمر الله سبحانه من كل الوجوه، فلا يصح في حضرته أن يخاطَب بـ:
"فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، لأن الامتثال في حقه صلى الله عليه وسلم هو
100%, وليس 99.999%، أما غيره صلى الله عليه وسلم فقد توجه إليه الخطاب:
"قَارِبُوا
وَسَدّدُوا"، أي اجمعوا بين المقاربة والاستقامة، لأن المقاربة هي من معاني
الاقتراب.
وجذر الفعل قارب: ق ر ب، وفيه زيادة
الألف, وزيادة المبنى تفيد زيادة المعنى, أي: اجتهدوا ما استطعتم في الاقتراب من
طريق الاستقامة، ولكن لا بد أن يكون فيكم شيء تكون فيه الاستقامة تامة، فعبر عنها
بقوله: "وَسَدّدُوا" أي لا يصح أن يكون كل ما فيك مقاربة، فلا بد أن تكون ممتثلاً
ولو من وجه من الوجوه قوله: {كَما أُمْرتَ}، لهذا قال صلى الله عليه وسلم:
(صَلُّوا
كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) فهذا لا بد أن يدخل من باب
"سَدّدُوا".
وهنا كيف نصلي كما نراه يصلي؟
فنقول: الأمة ثلاثة:
1- قسم رأوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يحرك بدنه فصلَّوا كما رأوه يصلي ببدنه، لأنهم رأوا صلاةَ رسول الله صلى الله
عليه وسلم انحناءَ جبهةٍ في ركوع, ووضعَ جبهة على الأرض في سجود، ورأوا تورم قدميه,
ورأوا هل يرفع يديه أو لا يرفعهما عندما يرفع من الركوع؟ واختلفوا هل الأصح الرفع
أم عدمه؟ ووقفوا عند ظاهر بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- لكن من رأى نور رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ورأى خشوعه واستئناسه وما يلتذ به قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم في
الصلاة, سيصلي كما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ببدنه وقلبه, وهذا هو
الذي سلك طريق القرب حتى كشف لقلبه نور قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- وهناك من تواصلت روحه مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم, فرأى كيف تصلي روحه, فهذا يصلي كما صلَّى بدنُ رسول الله صلى
الله عليه وسلم, وكما صلى قلبه وكما صلت روحه صلى الله عليه وسلم، لكن لا يمكن له
أن يصل إلى رتبة صلاته صلى الله عليه وسلم, لأنه عليه الصلاة والسلام قال:
(وَجُعِلَتْ قُرّةُ عَيْنِي فِي الصّلاَةِ) ولم يقل: بالصلاة، فالصلاة ظرفٌ كانت
فيه قرةُ عين رسول الله بالله، ولمّا كان مقام القرب بالنسبة لحضرة رسول الله صلى
الله عليه وسلم في المشاهدة والاستغراقات في حضرة الله لا يمكن لأحد أن يصل إليه،
لذلك فهناك انفراد في رتبة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذًا: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
أُصَلِّي) كلٌّ بحسب ما يراه، وهناك من لا يراه: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198].
إذًا {فاسْتَقمْ كَما أُمْرتَ} هي
بلغة المخاطب المفرد الذي خوطب به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولنا الخطاب
بمقدار اقتدائنا واستمدادنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {إنَّ الَّذينَ قالُوا
رَبُّنَا اللهُ} وهنا تشير الآية إلى القول، فهو الباب الذي يُدخَل منه إلى هذا
الدين، ولم يقل: إن الذين اعتقدت قلبوهم، أو آمنت قلوبهم، أو صدقت قلوبهم .. بل
"قالوا: ربنا الله".
{ثُمَّ اسْتَقَامُوا} بصيغة الجمع, أي
على كل أمرٍ أمرَ الله سبحانه به عباده ظاهرًا وباطنًا، فلا نفسر قوله: "استقاموا"
بالفقه وحسب، فهل أمر الله بأفعال الظاهر فقط، أم أمر بأفعال الظاهر والباطن؟ ألم
يقل: {اصبروا} [آل عمران: 200] وكذلك قال:
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] فهل هذا من أفعال الظاهر؟
إذًا لِما أمر بالصبر والشكر، وأمر
بالتوبة والإخلاص: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ} [البينة: 5] حيث محل الإخلاص القلب, إذًا فقوله تعالى:
{ثُمَّ
اسْتَقَامُوا} يدل على الامتثال للأمر الظاهر والباطن.
إذًا: هم {قالُوا رَبُّنَا اللهُ} فدخلوا في الإسلام، لذلك يصح للدخول في الإسلام أن يقول المرء: لا إله إلا الله
محمد رسول الله, أو أن يقول: آمنت بالله، أو: ربي الله ورسولي محمّدٌ رسول الله، أو
أي لفظ يدل على أنه يوحد الله وينتمي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بلسانه ،
فلا يشترط لفظ معين، لهذا اختصر ربنا هذه المسألة فقال: {الَّذينَ قالُوا رَبُّنَا
اللهُ} أي: أعلنوا باللسان البراءة من الشرك, {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي التزموا أمر
الله لعباده: الأمر الظاهر والأمر الباطن.
{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهمُ المَلائكَةُ} فاستحقوا لمَّا استقاموا ظاهرًا وباطنًا التأييد والتثبيت:
{فَثَبِّتُوا الَّذِينَ
آَمَنُوا} [الأنفال: 12].
{أن لا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا
وَأَبْشرُوا بالْجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلياؤُكُمْ في
الحَياة الدُّنْيَا وَفي الآخرَةِ} فيتولى الله أهل الاستقامة الذين استقاموا في
ظواهرهم وبواطنهم في الدنيا والآخرة، وإذا تولى الله سبحانه عبدَه وكفله في الدنيا
والآخرة, فماذا يريد أكثر من هذا؟
فمثلاً إذا قال لك ملك من الملوك أو
ذو جاه: أنا أتعهد أمورك وأكفلك، فلا تفكر بأمورك أبدًا، تجد أن هذا الإنسان لا
يهتم لشيء بعد ذلك، لأن هناك من يتكفله, وهو عبدٌ لا يملك من الدنيا شيئًا، فكيف
إذا كان الذي يتكفله هو الله؟ {نَحْنُ أَوْلياؤُكُمْ} فلو فكر في هذا لما خاف من
سلطان أو صاحب جاه، ولما خاف من شيء، ولتوجه إلى الله سبحانه وتعالى, ولعلم أن
النواصي بيد الله فلا يلتفت إلى غيره، فإذا قسم الله وقدَّر أنه يُقتل في سبيل الله
فله الحسنى، وإذا قدر له العزة والرفعة في الدنيا فله الحسنى الثانية، فهو لا
يلتفت، ولكن {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36] وهذه هي
المصيبة في الأمة الإسلامية، حيث عدد كبير من عامة المسلمين يرجو غير الله ويخاف
غيره، لذلك وقعوا في الوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت.
ثم يقول سبحانه وتعالى: {وَلَكُمْ
فيهَا مَا تَشْتَهي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} وهذا معزز
للاستقامة، لأن النفس في هذه الدنيا تنازع لكي لا تستقيم، فهي تريد أن تنظر إلى
المحرم, وأن تقع في المحظور، وأن تأكل الحرام ... والحق سبحانه يقول:
{وَلَكُمْ
فيهَا مَا تَشْتَهي أَنْفُسُكُمْ} ففي الجنة إباحية تامة: انظر ولا تغض بصرك ..
كُلّ ما تصل إليه يدك .. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلَّم:
(الدّنْيَا سِجْنُ
المؤمِنِ وَجَنّةُ الكَافِرِ) لأن الكافر تمتد يده دون أن يكون منضبطًا، فلا يوجد
نظام يضبطه، وهذا هو واقع الغرب الآن، إنه يعيش في الجنة العاجلة، لأنه لا يوجد
ممنوع، فكلما اشتهت نفسه شيئًا يعطيها إياه، فهي جنته, وأما المؤمن فهو داخل السجن
أي داخل النظام ، لأن السجن هنا معناه النظام، فالقيد هنا معناه النظام والانضباط
الشرعي فقط, إذ ليس كل من في السجن حزين أو لا يعيش حالة الاستئناس, فيوسف عليه
الصلاة والسلام تعلق قلبه بالله وهو داخل السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ
أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
[يوسف: 39] ثم إنه نظر إلى خارج السجن وهو داخله فقال:
{لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ
تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37] وهذا هو حال المؤمن،
فهو في الدنيا ولكنه يرى الآخرة: (وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ الجنَّةِ في الجَنَّةِ..
وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ النَّارِ في النَّارِ.. وكأنِّي أنظرُ إلى عرشِ ربِّي
بارزًا) فهو في السجن أي: في الدنيا، ولكنه يرى ما هو خارج السجن وقلبه متعلق
بالله، لهذا إذا ما طلبت النفس خلاف الاستقامة يقول لها: تذكري قوله:
{وَلَكُمْ
فيهَا مَا تَشْتَهي أَنْفُسُكُمْ}.
ثم حينما يعطي الإنسان نفسه في الدنيا
ما تطلبه وتشتهيه فإنه يتألم بعدها، لأنه يقع في ما يسمى بعذاب الضمير، فالضمير
ظاهر ومستتر، والمستتر لا يراه الكافر، فإذا أزاح الرَّين رآه، وهذا الضمير واعظ
الله الذي جعله سبحانه حين خلق كل إنسان، لذلك تراه واقعًا في عقدة الذنب, لأنه
أعطى نفسه ما تشتهيه، وهي من أشد الأمراض النفسية، أما في الجنة فلا يوجد عقدة ذنب,
فهناك له ما تشتهي نفسه بدون عقدة ذنب، أما هنا فقد أخذت نفسه شيئًا ظاهرًا وبقيت
في عذاب باطن: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}
[طه: 124] فهو غير مرتاح، وإن كان قد زنى أو سرق أو أكل الحرام وأطلق العنان
لنفسه .. لكنه معذب، أما المؤمن فقال لنفسه: ماذا تريدين؟ كل ما يخطر على بالك فهو
موجود في الجنة، أما في هذه الدنيا فهناك قيود: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا
مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30], , {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْعَادُونَ} فهنا يوجد نظام، وهذا النظام ينتهي بمجرد أن يأتي المَلَك الذي
سيخلصك من هذا السجن وهو ملك الموت, وعندها: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ
سَلامٌ} [الأحزاب: 44] فملك الموت هو أحب الخلق إلى قلوب أولياء الله لأنه سبب
الخلاص, فإذا جاء قال له: تفضل إلى المحبوب:
فبشيري لو جاء منك بعطف
ووجـودي في قبضتي قلت: هـاك
{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ
مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21]
لو أن روحي في يدي ووهبته
لمبشري بقدومكم لم أُنصِـفِ
وفي الحديث الذي أخرجه الحاكم وغيره:
تخرج روح المؤمن ويتلقاها أهل السماء ويشمونها وتعبق منها الريح الطيبة, حتى يصل
إلى حيث أرواح المؤمنين فيسألونه عن زيد وعن عبيد ... فيقول بعضهم لبعض: دعوه
يستريح, فإنه قد جاء من غمِّ الدنيا، دعوه يأخذ نَفَسًا، فالأحمق يقول: لمّا خرجت
روحه لم يبقَ فيها نَفَس، نقول له: لا .. بل في ذلك الوقت بدأ النَّفَس.
أما وصف الكافرين: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]
سأل هرقل خاصته فقال: اصدقوني, ما سبب
انتصار المسلمين عليكم؟ قالوا: لأنهم يحبون الموت أكثر مما نحب الحياة، لأنهم يحبون
لقاء الله.
هذا الارتباط بالغيب يجعل الإنسان
أسمى بكثير من المحرمات ومن العلائق القذرة، وأسمى بكثير من أن يسمح لنفسه أن تقف
مع نتن المعصية، فلو لم يكن من عقوبةٍ للإنسان على معصيته إلا أنه فعل تلك المعصية
لكفى.
ومثال الطاعة كمن دخل إلى حديقة جميلة
ذات زهور وطيور وفيها الياسمين والبنفسج وكل أنواع الروائح الطيبة، فهذا هو مثال
الطاعة, وبعدها يقال: ما هي المكافأة على دخول الحديقة؟ فالحق سبحانه أدخله هذه
الحديقة, ويكافئه على أنه أدخله الحديقة من فضله وكرمه.
أما الذي ارتكب المعصية فمثاله كمن
ذهب ووقف على مكان نجس منتن فيه كل أنواع الأوساخ والأقذار وغطس فيه، وبعدها يقال:
ما هي عقوبته؟ نقول: أول عقوبة له أنه غطس في النجس، ثم بعد ذلك له عقوبة أخرى.
فهذا الإنسان, ألا يتفكر في هذا
المثال عندما يقترب من المعصية؟!
ابن عطاء الله السكندري في "تاج
العروس" قال: (لو لم يكن في المعصية إلا تغير اسمه في الملأ الأعلى لكفى)، فهو عند
الطاعة ينادى باسمه في الملأ الأعلى أنه من الصالحين, وحينما يقع في المعصية ينادى
باسمه في الملأ الأعلى أنه من العصاة والفاسقين والفاسدين .. فكيف يقع الإنسان بعد
هذا في المعصية؟
يقول شخص: أرى امرأة جميلة ومتعطرة
ومفاتنها كثيرة ... فلا أتمالك نفسي, نقول له: يا غبي، أين مقام إيمانك؟ أين صلتك
بالغيب؟ لو صح إيمانك لشممت منها رائحة كريهة، لأن الله تعالى قال:
{وَلَكِنَّ
اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] وهذا من الفسوق،
فلو أنك نظرت إليها بما ينظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيتها زانية،
لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن التي تخرج متعطرة ومتزينة فهي زانية، والعين لها
حظ من الزنى والأنف له حظ إذا لم ينكر قلبك، أما إذا أنكر قلبك وعلمت أنها عاصية
لله سبحانه وتعالى وسألت لها التوبة فلا مانع، لكن بشرط أن لا يلتذ قلبك بمعصيتها،
فهذا شرط .. هذا ميزان .. فلكي يعرف الإنسان أهو منافق أم مؤمن، عليه أن ينظر إلى
قلبه, فإذا أنكر فهو مؤمن، وإذا التذ فهو منافق, وهذا من الأمور الدقيقة, لذلك
فكلما دعته نفسه إلى معصية يقول: {وَلَكُمْ فيهَا مَا تَشْتَهي أَنْفُسُكُمْ}.
هناك في الجنة, مخ ساق الحورية يبدو
من وراء سبعين حلة، لأنه أشد من نور الشمس، ولهذا ورد في الحديث ما معناه: لو أن
حوراء أخرجت إلى الدنيا يدها لغطى جمال يدها (أو حسن يدها) جمال الشمس والقمر.
هذا كله فيمن هو واقف مع المحسوس، ومن
هو في قيد النفوس, لا فيمن تعلق قلبه بالقدوس، فإذا تعلق قلبه بالقدوس خلص.
قالوا مرة لأبي يزيد: أين أبو يزيد؟
فقال لهم: ذهب أبو يزيد.
يا رجالاً غابـوا في حضـرة
الله
كالثليجة ذابـوا والله
والله
هذا كله حتى يتخلص الإنسان من قيد
النفوس، أما الذي ذكر الاسم الأعظم حتى انجذب قلبه, فإنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا
إلى الآخرة، والحور تتشرف به ولها البركة به، فجسده للحور، وسره للعزيز الغفور, في
دار السرور والحبور, فيا من تعلقت نفسه بالمحظور, اقرأ عليها:
{وَلَكُمْ فيهَا مَا
تَشْتَهي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ}.
{نُزُلاً} أي: في ضيافة.
{منْ غَفُورٍ رَحيمٍ} لأنه فتح لك باب
التوبة, فإذا قلت: أنا لم أستقم, والحق تبارك وتعالى قال: {إنَّ الَّذينَ قالُوا
رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فنقول: هو الذي قال أيضًا:
{نُزُلاً منْ
غَفُورٍ رَحيمٍ} أي: يا مَنْ لم يستقم, تب فإن الغفور قد أعد لك نزلاً .. يا من لم
يستقم في ماضيه لا يزال عندك أنفاس .. فقد قال سبحانه أولاً:
{إنَّ الَّذينَ قالُوا
رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ثم أخذ يرغب ويرغب .. حتى أحب أن يكون من أهل
هذا المقام، فقال له: {نُزُلاً منْ غَفُورٍ} حتى يُدخل الذين لم يستقيموا بالتوبة
حين يعلمون أن لهم ربًّا غفورًا, وكما قيل: "في لمحة تحصل الصلحة"، فلا تقل: عندي
ذنوب كثيرة, بل تب إلى الله، ومن هذه اللحظة، قل: يا رب, تبت إليك، هذا عهد أعاهدك
عليه يا الله، فهو يقبلك، والإسلام يجبُ ما قبله.
اللهم لا توجه قلوبنا إلا إليك، ولا
تجعل اعتمادنا في الأمور كلها إلا عليك والحمد لله رب العالمين. |