بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله ربّ العالمين, اللهم صلِّ على سيدنا محمّد عبدك ورسولك النبيِّ الأميِّ وعلى آله وصحبه وسلم.وبعد:فالعقيدة كما قلنا مرارًا وتكرارًا هي أساس الدين, وحينما يكون الأساس صحيحًا لا يخشى على بناء الدين, حتى لو تأثرت قليلاً بعض الفروع, فيبقى الأساس متينًا.بحثنا بعنوان: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17]أي هل يمكن أن يكون هناك أي وجه من وجوه المُشابَهة بين المخلوق وخالقه؟الإنسان يعيش بسبب نفسه وتراكمات تصوراته حالاتٍ من الوهم, ولا تَسْلَمُ عقيدته حتى يتخلص من هذه الأوهام, فإذا كنت تصلِّي ولا تعرف لمن تُصلّي, ومن هو الذي تُصلّي له .. فتلك إشكالية كبيرة.يقول الله سبحانه وتعالى وهو يَصِف لنا مشهد الاختصام داخل النار: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} الذين غَوت نفوسهم وتعلّقت بمشتهياتها وخالفت أمر ربها, {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ, مِن دُونِ اللَّهِ} فمنهم من يعبد ماله, ومنهم من يعبد هواه, ومنهم من يعبد غريزته, ومنهم من يعبد شهرته ... فهناك من يعبدون الأصنام الحجرية, وهناك من يعبدون أصنامًا معنوية موجودة داخل بواطنهم, {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ, فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ, وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ, قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ, تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ, إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 91-98] فبيّن لنا ربُّنا سبحانه جانبًا من الضلال الذي يقع فيه الإنسان, وينحرف بسببه عن النهج القويم, وهو حصول مساواة باطنة في الأوصاف, أو في الأفعال .. فهذا أمر خطير.فالإنسان ربما يخاف من المخلوق كما يخاف من الخالق, أو يرجو المخلوق كما يرجو الخالق, بل وهناك من يخاف من المخلوق أشد من خوفه من الخالق: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} [الحشر: 13] وربما يتعلّم كيف يصلي وكيف يبيع ويشتري .. ولكن الأصل الكبير الذي به نجاته: {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ, إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89] فهناك إشكالية كبيرة عندما يخاف المرء من المخلوق ومن الخالق برتبة واحدة, أو عندما يخاف من المخلوق أشد من خوفه من الخالق.إذًا ليست القضية أن يتصوّر مولاه كالأشخاص: وجهه كوجوههم, ويده كأيديهم .. فهذا يسمى تجسيمًا, وتلك هي الحالة الأولى: أي نوع من التشبيه والتجسيم والتسوية في الذات, ولكن هناك صورة أخرى يعيشها الإنسان في واقعه, وهي التسوية بين المخلوق والخالق في الأفعال.لندرس في القرآن الكريم بعض النماذج الواهمة الجاهلة التي وقعت في هذا التخليط:1- ففي سورة البقرة نقرأ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] فهذا المُلك الذي عند نمرود لم يكن هو الذي صنعه, فلا يوجد مَلِكٌ يصنع مُلكه, بل الله هو الذي يعطي المُلك.قد يقول قائل: لقد حصل بعضهم على المُلك بانقلاب عسكري, وآخرين بالانتخابات, أو بسعي طويل سياسي وحزبي ... نقول: (كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ), فمجتمع المدينة لمّا كان أحسن المجتمعات, كان الذي يحكمه هو سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام, لأن أغلبية المجتمع كانت متوجهة إلى الله, فعندما نقارن بين ما كان عليه أهل مكة وما كان عليه أهل المدينة, نجد أن أغلبية أهل مكة كانت مُشرِكَةً تعادي الله, أما أغلبية أهل المدينة المنوّرة فكانت متوجِّهة إلى الله.لذلك سُئلنا كثيرًا: هل أنتم مع الديمقراطية؟قلنا: نحن لا نعارض, بل نحن نسعى لإصلاح المجتمع حتى تكون الأغلبية صالحة, وعندها ستنتج هذه الأغلبيةُ المجانسين الذين يديرون مقاليد الأمور, أما المشكلة اليوم فهي في فساد الضمائر, في فساد المعاملات, في فساد الأحوال, في فساد الإنسان ... لذلك عندما تكون حالة المجتمع في الأصل هي حالة الفوضى, فلا يُستغرب أن يُفرِزَ هذا المجتمع فوضى تديره.إذًا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ} فالله هو الذي أعطاه الملك, {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ} فهو يُعرِّف هذا الجاهل, ويقول له: إذا أردت أن تعرف ربّك في أفعاله, فمن أفعاله: {يُحْيِـي وَيُمِيتُ} ونمرود واقع في التخليط, لذلك قال: {أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} وهذا نوع من التسوية, أي: الله سبحانه وتعالى يُحيي ويُميت, وأنا أُحيي وأُميت, حيث أعفو عمن أشاء, وأقتل من أشاء, وهذا وهم وتخليط, فالذي يُحيي على الحقيقة هو الله, وأنت سبب, والذي يُميت على الحقيقة هو الله, وأنت سبب, أنت بيد الله ولكنك لا تشعر, فحينما تقتل فالذي خلق هذا الفعل إنما هو الله وأنت لا تشعر, فتوهّمت أنك الذي تميت, وهذا الوهم أوقعك في عِلَّة كبيرة هي التسوية بينك وبين ربِّ العالمين فقلت: {أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} لذلك انتقل به سيّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو صاحب حُجّة إلى مثال أكبر حتى يستوعب, فقال له: إذا كنت أنت الذي تفعل وفعلك يساوي فعل الله: {فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فهذا نموذج آخر أوسع من أفعال الله, فهات الفعل الذي من خلاله تستطيع أن تقول: فعلي يساوي فعل الله, {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي عرف أنه فقيرٌ إلى الله, وأنه عاجزٌ, وأن فعله لا يساوي فعل الله ولا يشابهه, {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] أي الذي يظلم نفسه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].2- نأتي إلى نموذج آخر في القرآن الكريم عمن وقعوا في التخليط بهذه التسوية:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ, أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36-37] ففرعون يتصوّر أن ربّ العالمين شخص جالس على الكرسي في السماء, وهو يريد أن يتعرَّف إلى هذا الإله الذي يشابه المخلوقات, ولعله أكبر قليلاً, وهذا الوهم جعله يطلب من هامان أن يبني له صرحًا يرتقي به في السماء لعله يرى إله موسى, والله سبحانه وتعالى بيّن لنا الحقيقة عندما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وعندما قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] فإذا كنت تريد مولاك فهل هو بعيد عنك؟!النبيُّ عليه الصلاة والسلام قال في الحديث: (لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بن مَتَّى), مع أن سيدنا رسول الله هو سيد الأنبياء وسيد العالمين, وهو الذي قال: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ), فما معنى هذا الحديث؟ وأين هي المشكلة التي عالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؟فالجواب أن المرء عندما يقارن بين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وسيدنا يونس, فهو يقارن بين اثنين: أحدهما قال: "لا إله إلا أنت", وهو فوق سبع سماوات, والآخر قال: "لا إله إلا أنت", وهو في أخفض نقطة في قعر البحار, فقد يَتوهَّم أن الذي فوق سبع سماوات أقرب إلى الحق سبحانه وتعالى ممن هو في قعر البحار, فداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العِلَّة بقوله: (لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بن مَتَّى), لأننا وقفنا في محل المناجاة على التساوي, وخاطبنا إلهً قريبًا منّا واحدًا, وهذا هو الفرق بين من يعرف ربّه وبين الجاهل.{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ, أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} أي عن الحقيقة وعن الطريق إليها, لأن الله سبحانه لا يمكن أن يماثل مخلوقاته.ومن وجوه المساواة التي يمكن أن يقع الإنسان فيها قوله: "هذه الأرض لي", أو "هذه الدار لي", أو "تلك الأموال لي" ... وهذا ادّعاءٌ للمُلك, والله سبحانه يُقرر أن المُلك له وحده, وأنه وحده هو المالك, وقد جعل كل هذه الأشياء كالعاريِّة, وجعلك مُستخلَفًا وأمينًا ووكيلاً, وكأنك خازنٌ أو أمينُ صندوق, قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] لكنه يقول: "هذا مالي, فقد جمعته وتعبت حتى أصبح لديَّ ثروة كبيرة", نقول: هذا مال الله, لكنه سبحانه جعلك أمينًا عليه, وسيسألك من أين اكتسبته وفيمَ أنفقته؟إذًا أنت مُؤتمن على هذا المال, فإذا ادّعيت وتوهّمت أنك أنت المالك والله مالك, عندئذٍ يحصل التساوي.وهذا قارون الذي جمع ثروة كبيرة يقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78]{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ, وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ, قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 76-78] أي هذا بعلمي, وأنا المُؤثِر, أنا الذي جمعت هذا بفهمي وعبقريتي وذكائي ...أما فرعون فالقرآن الكريم كثيرًا ما يقارن بينه وبين قارون: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} [غافر: 24] وكأن هذا ردّ مباشر على أدعياء القومية, لأن {قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} وفي نفس الوقت يحكي لنا الحق سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] فالذين يدّعون أن القومية هي التي تُحرِّك الشعوب مُتوهِّمون.فالصراع ليس صراع حضارات كما يزعمون, ولا حوار حضارات, ولا صراع ثقافات, ولا حوار ثقافات, وإنما اختصر القرآن الكريم القضية عندما بيّن أن الصراع هو صراعٌ بين حق وباطل فقط, فليست القضية صراع عرب وأمريكان, أو عرب وأكراد ... فهذا مما يُراد لنا أن نقع فيه, فهو فخ يُنصب لنا.إذًا الصراع ليس صراع قوميات, وليس صراع أعراق, إنما هو صراع حق وباطل, فقد يكون هناك شخص صيني أو أمريكي وهو وليٌّ من أولياء الله ومن أهل الحق, وقد يكون هناك شخص عربيٌّ لكنه ضالٌّ مُضِلٌّ في قعر جهنم.يقول تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] وأبو لهب هاشميٌّ قُرشيّ, وفي الوقت نفسه يقول صلى الله عليه وسلم: (سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ), مع أنه فارسيّ.فالذي يحاولون ترسيخه الآن هو وجود صراع بين الشرق والغرب, وهذا غير صحيح, فأنا ذهبت إلى الشرق والغرب, وذهبت إلى الشمال والجنوب, وحيثما أذهب يوجد أهل حق وأهل باطل, والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن الحق سيبلغ ما بلغ الليل والنهار, أي سيَعُمُّ الكرة الأرضية كلها: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [ص: 33] فالصراع إذًا هو صراع بين الحق والباطل ليس إلا.إذًا قارون في صف فرعون, مع أن فرعون من الأسرة الفرعونية, وقارون من بني إسرائيل, لكنهما اشتركا في أنهما واهمان, ضالاّن, من أهل الباطل ... كما أن مؤمن آل فرعون اشترك مع موسى الذي هو من بني إسرائيل بأنهما من أهل الحق.كلما اجتمعت مع غربي أو شرقي, أقول: نحن مدعوون إلى أسرة إنسانية واحدة, لأن ثقافة الإسلام تُصدِّر ثقافة الأسرة الإنسانية الواحدة التي فيها احترام للإنسان, حتى لو كان مُخالِفًا في العقيدة, فمخالفته في العقيدة تجعله يعرِّض نفسه للعقاب في اليوم الآخر.هكذا أسَّس الله سبحانه وتعالى قواعد المجتمع الإنساني: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29], {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8] فالذي يخالفك في العقيدة, ولا يقاتلك في الدين ولا يخرجك من ديارك, فالله يأمرك أن تُحسن إليه, مع أنه مُخالِف.إذًا نحن نعتقد أن كل من على وجه الأرض بعد بعثة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هو من أمته, لأن الأمة: أمة دعوة وأمة إجابة, فمن دخل في الإسلام فهو من أمة الإجابة, ومن لم يدخل فهو من أمة الدعوة, فكلهم من أمته, لكن إما أنه من الأمة المُعرِضة عنه, أو أنه من الأمة التي أجابته صلى الله عليه وسلم.هذا ما نحمله من الثقافة, فنحن لا نُصدِّر ثقافة التَطرُّف, إنما نُصدِّر ثقافة العيش الإنساني, لكن ما نعيشه الآن ليس هو صراع الثقافات, إنما هناك باغٍ يريد أن يأكل الضعيف, ومُعتدٍ يريد أن ينشر إمبراطورية طغيان وعدوان, يدخل إلى العراق, إلى فلسطين, إلى أفغانستان ... لا يترك مكانًا إلا يهدِّده ويريد أن يُذلّه, ويريد أن يبسط ثقافة العولمة وليست ثقافة في الحقيقة, إنما يريد أن يبسط بغي العولمة, لأن العولمة لا تستحق أن يطلق عليها اسم ثقافة, فهي بغي, أي أن يأكل القوي الضعيف.ماذا قال فرعون؟ {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51] والله سبحانه وتعالى يُقرر الحقيقة فيقول: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [لقمان: 26] فمن نُصدِّق؟ الضالّ الواهم: قارون وفرعون, أم الذي خلق الأكوان ونظّمها وأبدعها... ؟إذًا لمن هذا المُلك؟يتوهم فرعون أنه يملك, والله يقول: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ, وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ, مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي من آدم عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة, فخَلْقُ هؤلاء كلهم وبعثُهم كخلق نفس واحدة بالنسبة لله, ويوم القيامة يحاسب الجميع في وقت واحد, لأنه الله, فليس هناك انشغال بشيء عن آخر بالنسبة لله, أما أنت فعندما تتكلم مع شخص, تكون مشغولاً عن غيره, {مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ, أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ, ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان: 26-30] فمن كان هذا فعله وهذا وصفه, ألا يستحق أن يكون له المُلك وحده؟!إذًا عندما يقول فرعون: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} فهو واهم, لأنه مُؤتمَن, وهو خائن للأمانة لأنه بغى, ولأنه كان يستحيي النساء, ويُقتِّل الأطفال والرجال ...أما قارون الذي قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} فهو يزعم أنه صاحب عِلْم, والقرآن الذي هو كلام الله يخبر عن الله فيقول: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59] فاستعمل كلمة "ما" التي يندرج تحتها كل ما في البحر: من سمك وحيوانات وسُفن غارقة وأشلاء ورمال وجواهر ... بل ويعلم كل قطرة موجودة داخل هذا البحر, وكم هي نسبة الملح في كل قطرة, وهو الذي جعل داخل البحار أنهارًا عذبة, ويعلم سبحانه وتعالى كل ذرة ... {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} فالحق يعلم كل هذه الدقائق وقارون يقول: {عَلَى عِلْمٍ عِندِي}؟ وبعد هذا أيكون الذي يخلق كالذي لا يخلق؟وهذه هي المشكلة الأولى التي ذكرناها في مُبتدى هذا البحث, إذ يقسم أهل جهنم: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ, إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98] أي يُقسمون في نار جهنم أنهم كانوا في ضلال شديد الوضوح, ولكن كل هذا الضلال الواضح لا يراه الإنسان عندما يعمى القلب: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] لأنه في الدنيا كان أعمى: {وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء: 72] وهل معنى "أعمى" هنا أنه لا يرى بعينه؟ لا, بل لا يرى بقلبه, فالحق واضح, المَلِكُ المُنفَرد بالمُلك هو الله وحده, والخَلق مماليك في قبضته سبحانه وتعالى, العليم على الحقيقة هو الله, وعلمك هذا من خَلْقه سبحانه, فلما رأيتَ فيك بعض عِلْمٍ خَلَقه الله فيك جعلت عِلْمك كعِلْمه, وقدرتك كقدرته, وفعلك كفعله, ووصفك كوصفه ... هذا وهم.لذلك أعطانا الله سبحانه وتعالى الحقيقة والخلاصة, فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [فاطر: 15] خطابٌ ليس للذين آمنوا فقط ولا للذين أسلموا بل لكل الناس: {أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} أتحبون أن تعرفوا من أنتم؟ حتى لا تقعوا في وهم: {إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وحتى لا تقعوا في المُشابَهة, أو في ضلال التشبيه والتجسيم, أو في ضلال تَوهُّم فعل الحق كفعل الخَلق... ؟{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} أي أنتم في غاية الافتقار, وفي غاية الاحتياج والفقر إلى الله, فأنت في لقمتك التي تُدخلها إلى فمك وتبتلعها, ثم تدخل إلى المعدة, وفي كل حركة يتحركها هذا الجهاز الهضمي, أنت مُحتاج إلى الله, بل كل خلية داخل هذا الجهاز الهضمي مُحتاجة إلى الله, وهذه الرئة التي تعمل وتتنفس وتأخذ الهواء ... من الذي يحركها؟عندما نقوم بمقارنة بين كُتب أطبائنا القُدامى كالطبري في فردوس الحكمة مثلاً, وبين ما يُكتب اليوم مُترجَمًا, أو بالروح المادية الغربية, نجد أن الطبيب حين كتب الطب في العصر الإسلامي الذهبي كان يربط كل شيء بخَلق الله فيقول مثلاً: "فإنه يُولد بإذن الله" أو "إنْ أخَذَ هذا الدواء فسوف يشفى بإذن الله أو إن شاء الله ", أما الآن فهذا مفقود في جامعاتنا, ونحن لا نتحدث عن أوربا التي ثارت على الدين, وفصلت الدين عن الحياة, وأصبح هناك صراع بين الكنيسة والمختبر, وإنما نتحدث عن مجتمعاتنا التي تدّعي أنها مجتمعات إسلامية, والتي فيها القرآن الذي يتحدث عن تخليق النُطفة والعلقة والمُضغة ... والذي يدفع الإنسان إلى البحث, ولكن ثقافتنا في جامعاتنا ثقافة إلحادية تُغفل القيمة الإيمانية إغفالاً تامًا, وهذه حقيقة, ولكن هذا لم يحصل عند علمائنا الذين كانوا يجمعون بين قراءة الكون وربطه بالله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فكانوا يقرؤون الطب والفلك والفيزياء والرياضيات ... باسم الله.هذا كله بسبب الارتباط بالمادية الغربية, وعدم التمييز بين ديننا الذي يدعو إلى العلم, والكنيسة التي أحرقت العلماء يومًا ما, حيث ثارت أوربا على كنيستها, بينما نحن أمة العِلْم, وثقافتنا ثقافة العِلْم والبحث: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101] ثقافة يُحرِّكها القرآن, يطلب منّا أن نسير في الأرض حتى ننظر ونكتشف ... هذا هو ديننا, فلِمَ تكون كتبنا بالصفة الإلحادية؟{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} فبحركة قلبك مُفتقِر إلى الله, وبرزقك مُفتقِر إلى الله, وبطعامك مُفتقِر إلى الله ... فأنت ما جئت إلى المسجد, إلا لأن الله أراد أن يُكرمك, فنحن نجتمع في مجلس إيمان, نتدبَّر فيه كلام الله, ونُقوِّي إيماننا: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاّ نـزلَتْ عَلَيْهِم السّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُم الرّحْمَةُ وَحَفّتْهُم المَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمْ الله فيمَنْ عِنْدَهُ), إذًا أنت في فضل عظيم وفي كرم, وما تحرّكْتَ إلى هذا المسجد إلا بخَلق الله وإعانته, أي إنك معزوم عزيمة ربَّانية.ورحم الله من قال:
والله مـا طلبوا الوقـوفَ ببابِهِ
حتَّى دُعـوا وأَتَاهُمُ المِفتـاحُلذلك قال سيدنا شُعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ} [هود: 88] والتوفيق: خَلْق الطاعة في العبد: (إِذَا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ فَضْلَهُ عَلَيْكَ، خَلَقَ وَنَسَبَ إِلَيْكَ).إذًا البطاقة الشخصية للناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ, إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر: 15-16] فأنت مُحتاج في كل لحظة وفي كل نَفَس, حتى وإن رأيت أنك لا تشعر بالاحتياج فالعِلة في شعورك, لذلك قال صاحب الحكم العطائية: (العَارِفُ لا يَزُولُ اضْطِرَارُهُ وَلاَ يَكُونُ مَعَ غَيْرِ اللّهِ قَرَارُهُ).فأنت عادة تشعر بالاضطراب فجأة, حيث تعاني من أزمة مالية مثلاً, أو قد تكون في البحر فيشتد الموج, أو تحدث عاصفة أو إعصار أو صواعق ... فعندئذٍ تشعر بالاضطراب, وهذا عام في جميع الناس, أما العارف الذي ذاق قلبه معنى معرفة الله, فإنه في كل نَفَس من أنفاسه مضطر إلى الله, ويشعر باضطراره.فقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} أي في كل الأوقات, فهذا وصفكم, {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فكيف تكونون كالذي خَلَقكم؟ وكيف يكون الفقير كالغني الحميد؟ {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}, {إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 74].{ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا} [النحل: 75] أي أراد ربُّنا سبحانه وتعالى أن يُفهِّمنا قضية استحالة مُشابَهة الخالق للمخلوق بهذه الأمثلة, فقال: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا} فالعبد اشتراه سيده بالمال, وهو لا يملك شيئًا, {لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ} أي هل يستوي هذا العبد المملوك المُشترَى, مع سيده الذي ملك المال؟ فهذا مثال ضربه الله لنا حتى نرتقي بعقولنا فنقول: إذا كان العبد وهو مخلوق لا يستوي مع سيده المخلوق, فكيف يمكن أن يستوي المخلوق مع خالقه؟ ثم قال بعدها: {الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 75] فنتيجة هذا المثال, الثناء كله على المالك الواحد, على الخالق الواحد.ثم أتى بمثال ثانٍ فقال:{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ} [النحل: 76] ليس فقط عبد لا يملك, بل أيضًا أخرس, {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} عالة على مولاه, فالأصل أن العبد يخدم سيده, لكن هنا السيد هو الذي يقوم بخدمته, لأنه مريض, أخرس, لا يستطيع فعل شيء, عاجز, مشلول, معتوه, ما عنده فكر, ما عنده نظر, ما عنده حكمة ... {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} لا خير منه أبدًا, {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي مع شخص حكيم عالم فهيم, عنده كل الإمكانيات والملكات... ؟هذا المثال فيه مُبالغة, فالأول أخبر فيه عن عبد وسيِّد, وهما لا يستويان, فكيف يستوي مخلوق مع الخالق؟ وفي الثاني بالغ فقال: أحدهما لا يستطيع فعل شيء, أخرس, أحمق, أبله ... هل يستوي مع من كان عليمًا حكيمًا؟ فهذا في المثال أوضح بكثير.إنه سبحانه يريد أن يُرسل لنا رسالة يقول فيها: إن تكلّمتم فالذي أنطقكم إنما هو الله: {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] وإن أبصرتم فهو الذي بَصَّركم, وإن مشيتم فهو الذي حرَّككم, وإن أعطيتم فهو الذي أعانكم ... فكيف يكون الذي لا يخلق كالذي يخلق؟!أنت كَلٌّ على مولاك, أنت عالة على مولاك, لكن العجيب أنك تتكبّر رغم كل هذا, رغم أنه هو الذي يُمدُّك: {كُلاً نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ} [الإسراء: 20] فلو كنت تفهم, لالتزمت حدَّ عَبْديَتك, حدَّ حاجتك, حدَّ فقرك ... لتقول: أنت يا ربّ الذي تُعينني, وأنت الذي تُمدُّني ...حكى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحد الأنبياء نظر إلى أمته فوجد أنهم بلغوا من العدد سبعين ألفًا, ففرح بذلك, وكأنه رأى أن جهده أثمر, فاستيقظ في الصباح فرأى أن الله قد سلَّط عليهم مرضًا فماتوا جميعًا, ثم يُعقِّب صلى الله عليه وسلم عليها ويقول: (أما أنا فأقول: اللهم بِكَ أَصُول وبِكَ أَجُول), أي ليس عندي شيء.قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ضاعت ناقته: أنت تأتينا بخبرٍ من فوق سبع سماوات, حيث ينـزل سيّدنا جبريل ويأتيك بالأخبار, فكيف تضيع ناقتك ولا تعرف مكانها؟الموقف حَرِجٌ كما يبدو, وهو اختبار: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} فماذا أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟البطاقة موجودة عنده, لذلك رفع البطاقة فورًا وقال: (لا أَعْلم إلا ما علَّمني ربِّي)أما إذا قلت لأحدهم اليوم: ما شاء الله, لقد تعبتَ كثيرًا, وجهدُك أثمر ... فيقول: طبعًا, لقد سهرت الليالي, وتعبت, من الصباح الباكر أستيقظ إلى العمل, أين أنا وأين أنتم؟فقد نسي البطاقة, فلو كان يفهم, لكان ينبغي أن يقول: الحق سبحانه وتعالى هو الذي وفَّقني, أعانني, هداني, فهَّمني, علَّمني, أرشدني ...فلو قيل لأحد مرافقي الرئيس مثلاً: ما شاء الله, أنت تحكم الدولة بصورة جيدة, وقال: طبعًا, فماذا سيكون موقف الرئيس؟!فلو فهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} فإنه سيقول: لا علم عندي, إنما الذي علَّمني هو الله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} [البقرة: 255] تلك هي الحالة التي يكون فيها الإنسان مقبولاً عند الله, فإن أنت نازعته أعرض عنك, لأنه لا يقبل أن ينازعه أحد في وصفٍ من أوصافه, قال سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] أي لا يوجد مكافئٌ ولا من وجه من الوجوه, وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].وفي صحيح البخاري, يقول سيدنا عبد الله بن مسعود: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ, أتجعل له مكافئًا؟ أتُسوِّي بينه وبين أحدٍ من مخلوقاته ولو بشيء واحد؟ أتُسوِّي بين من يخلق ومن لا يخلق ولو من وجه من الوجوه؟ قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ, أي هذا ذنب عظيم, قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ, أي الإجهاض, حيث كانوا في الماضي يقتلون الأولاد بعد الولادة, واليوم يقتلونهم قبل ذلك, وهذا ذنب عظيم يقع فيه الناس, وذلك بحجة كثرة الأولاد.فهل هذا شأنك؟ هل أنت الذي خَلَقْتَه؟لقد أذن لك الحق في العزل, أي قبل أن يتخلَّق الكائن الجديد, أي قبل أن يحصل حمل, وبعد ذلك لا يجوز لك فعل شيء.وأنا مع فتوى السادة المالكية في تحريم الإجهاض من اليوم الأول, وهي فتوى بعض الحنفية, وبعض الشافعية كالغزالي, وبعض الحنابلة, فهذا ما أفتي به, وهذا بعد أن درست النصوص دراسة مُطوَّلَة: من منظور الطب, ومن منظور الفقه, ومن منظور القرآن, ومن منظور الحديث, فالذي أنا مسؤول عنه أمام الله, تحريم الإجهاض من اللحظة الأولى, ولي من القرآن الكريم أدلة:الله سبحانه وصف الماء بأنه مهين, لكنه عندما تحدث عن لقاء النطفة بالنطفة[1], قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] أي أول اختلاط يحصل بين النطفة والنطفة اسمه نطفة أمشاج, ليس هناك بعدُ مخلوقٌ ولا جنين, {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} فهذه النطفة الأمشاج يحكي عنها القرآن هذا, ألا يكفيك هذا النص؟لكن هناك قال: {مَاءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 8] أي ليس له قيمة, فالماء وحده ليس له قيمة, أي قبل أن يلتقي الماء بالماء.قَالَ: وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ, قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ, والزنى ليس فقط زنى الفرج, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن العين تَزْني.أختم بحديث أخرجه الترمذي في سننه عن أُبي بن كعب:أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ, أي أعطنا مختصرًا عن مولانا سبحانه وتعالى, فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ هُوَ الله أحَدٌ, الله الصّمَدُ} وَالصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ, لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إِلا سَيَمُوتُ, وَلا شَيْءٌ يَمُوتُ إِلا سَيُورَثُ, وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَمُوتُ وَلا يُورَثُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَدٌ}.يعني الذي يخلق لا يكون كالذي لا يخلق, والحمد لله رب العالمين.
[1] ولا تقولوا: بويضة ونطفة, لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم علَّمنا فقال: نطفة الرجل ونطفة المرأة, وهي الخلية الجنسية, لكن لما كان الذين يكتبون الكتب في جامعاتنا لا يقرؤون ما قاله من خبَّره الله ونبَّأه, بل يُقلِّدون الغرب, لم يتقيدوا باصطلاحاتنا النبوية. |