الباب الخامس عشر (باب المحافظة على الأعمال)
قال تعالى: {وَاعبد رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
اعبد عبادة، واعبد عبودية، واعبد عبودة.
اعبد عبادة، أي: ((فما أبيح افعل ودع ما لم يبح))، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] في الأعمال، فعليك بالواجبات التي أمرك الله سبحانه وتعالى بها، وانصرف عن المنهيات.
واعبد عبودية، أي: تحقق بالذل لحضرة مولاك، لأن العبودية تحققٌ بالتبرؤ من الحول والقوة، وانطراح في أعتاب الله، انطراح على بساط الفقر ينادي سيده الغني، على بساط الذل ينادي سيده العزيز، على بساط الضعف ينادي سيده القوي، العبودية {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، الملك لله، السيادة لله، مقاليد الأمور بيد الله.
فاعبد عبادة: اعمل وفق الشريعة.
واعبد عبودية: اجعل قلبك في أوصاف العبودية متحققًا.
واعبد عبودة، أي: اخرج عنك حتى يكون الحق سمعك وبصرك ولسانك ويدك، حتى تغيب في وجوده عن وجودك، وفي جوده عن جودك.
فالعبادة: الإسلام، والعبودية: الإيمان، والعبودة: الإحسان، اعبد عبادة: تحقق بالإسلام، واعبد عبودية: تحقق بالإيمان، واعبد عبودة: تحقق بالإحسان، {وَاعبد رَبَّكَ} وهكذا من كان في وصف العبد يكون مولاه ربه، أي ناصره.
يقول مولانا جلال الدين الرومي: ((إذا رأيت نفسك فيلاً، فتذكر طير الأبابيل))، لذلك لما {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] أجابهم: {كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء: 62] ومن كان عبد ربه يكون ربه معه، وقال في سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6-13] إذًا، اعبد ربك: تجد ربك معك، تجد ربك بالمرصاد لعدوك، اعبد ربك: تجد ربك يهديك، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} اعبد ربك دون أن تنتظر العوض، لو تحققت بالعبودية لا تطلب العوض، كيف تطلب عوضًا على عمل لست له فاعلاً؟ لكن إذا تحققت بعبوديتك لربك، فإن محض الوهب والجود يتعهدك.
استفدنا من قراءة كلام مولانا الرومي، زيادة على ما كنا نحفظه من كلام ساداتنا العارفين، كل كلام القوم رضي الله عنهم من معين واحد، إنما أسلوب مولانا أسلوب قصصي، أسلوب فيه الأمثال، يقول مولانا: ((قال لي من أنت؟ قلت: أنا القط في كيسك، قال: سأجعلك أسدًا)) لو قلت له: أنا الأسد، يقل لك سأجعلك قطًا، هكذا يرتمي كالطفل في حجر أمه.
يجود علينا الخيرون بمالهم
ونحن بمال الخيرين نجود
{وَاعبد رَبَّكَ} واستشعر أنه ربُك، فإذا قلت: لكن هو رب العالمين! صحيح أنه رب العالمين، لكن الذي تطلبه أنت من حيثية أنه ربك، فالرب: السيد المعتني، فاستشعر هذه النسبة، واستشعر نسبتك إليه.
{وَاعبد رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أما المعنى الذي أجمع عليه أهل التفسير في ظاهر هذه الآية فهو (حتى يأتيك الموت) لأن الموت انكشاف لغطاء الجسد، فيبصر الروح ما لم يكن يبصره قبل ذلك، لكن إذا أضفنا إلى العبارة الإشارة (دون أن نعطل العبارة، فتعطيل دلالة العبارة زندقة) فقد تأتي حتى هنا للغاية، أي: لتكون العبادة سبب يقينك، قال أحد اللغويين: ((أموت وفي نفسي شيء من حتى))، فحتى لا نهاية لمعانيها، فإذا أردت أن يتحقق لك اليقين، فلا تترك منهج العبادة، والعبودية، والعبودة، فإن كنت في العبادة، أكرمك بعلم اليقين، وإن تحققت بالعبودية، أكرمك بعين اليقين، وإن تحققت بالعبودة، أكرمك بحق اليقين وحقيقته، فعلم اليقين علم دليل، وعين اليقين مراقبة، وحق اليقين وحقيقته مشاهدة ومعاينة، وقوله: {يَأْتِيَكَ} يفيد إشارةً أن اليقين وهب ووارد، وأن العبد ما عليه إلا أن يكون قائمًا بورده وتكليفه، فإن الذي سيأتيك، سيأتيك.
إذًا، أنت تأتي إلى العبادة والعبودية والعبودة، يعني: تأخذ بأسباب التمكين في العبادة، وبأسباب التمكين بالعبودية، وبأسباب التمكين في العبودة، فإذا قال قائل: ومن أين لي أن أتحقق بالعبودة، نقول: كل الآيات التي قال الله فيها {آَمَنُوا} يقول العلماء: أي خذوا بأسباب الإيمان، فإذا كنا نستطيع أن نحرك البدن بحسب الاختيار الظاهر الذي نشعر به، صلِّ، صم، افعل، اذكر، لكن عندما يقول: {آَمَنُوا} والإيمان قضية قلب، نور يملئ في القلب، أي: خذوا بأسباب الإيمان، وكذلك خذوا بأسباب الإحسان.
إذًا، أنت تأتي إلى العبادة، والعبودية، والعبودة، للأخذ بأسبابها، واليقين يأتيك، سواء كان في التفسير الظاهر الذي هو الموت {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] أو في التفسير الاشاري الذي هو اليقين، بمعنى: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، حيث يأتيك، هذا وارد وليس بورد.
لذلك قال سيدي الشيخ عبد الغني النابلسي رحمة الله عليه:
لا تقل لم يفتح الله ولا
تطلب الفتح وحرر ورعك
((لا تطالب ربك بتأخر مطلبك، وطالب نفسك بتأخر أدبك)) هذا الذي ينبغي أن يكون منهجًا لكل واحد منا، فإذا وضع الإنسان هذه القاعدة منهاجًا لنفسه، عند ذلك لا يستبطؤ النوال، فليس النوال وردًا لك، بل عليك أن تقوم بما أمرت به، والحق سبحانه وتعالى هو الجواد الكريم الحنان المنان.
(كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) فهو فتح لك الباب لكنك أعرضت، نسأل الله سبحانه وتعالى القبول. |