عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله لا تكن مثل فلانٍ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) متفقٌ عليه.
يقول سبحانه وتعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}[الأحزاب: 23]
ومما ذكرهُ ساداتنا أهل المعرفة في خلاصة هذا الدين، صحة العقد، والوقوف على الحد، والوفاء بالعهد.
صحة العقد: الاعتقاد الذي ليس فيه زيغ ولا ميل.
والوقوف على الحد: فما أبيح افعل ودع ما لم يبح، (الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)[صحيح البخاري: ج1،ص90] تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها(واضح).
والوفاء بالعهد: ومن آية المنافق إذا عاهد غدر.
وهذا الحديث يفتح موضوعًا كان سلفنا الصالح رضي الله تعالى عنهم يفهمون قيمته، لأن الإنسان إذا قُبل في محل القرب كيف يرجع القهقرة؟ كيف يرجع فيتوجه بعد أن صفا، وبعد أن صار مشربه ربانيًا، نورانيًا؟ وكيف يرجع إلى الظلمات بعد النور؟ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة: 257]
وقد قالوا أعمى العمى، الضلالة بعد الهدى، وفي كتاب ربنا المنير {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}[آل عمران: 8] وفي الكتاب العزيز { كمثل الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}[الأعراف: 175]
والحق يعطي ولا يأخذ، إذا أعطى الحق عبده منزلة قرب، رضيك أهلاً لقربه لا يأخذ منك ذلك، إلا إذا أبيت أنت {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} هو الذي وقع في فخ المغريات فانصرف قلبه عن الله سبحانه وتعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ}[التوبة: 77-75] وكل هذه النصوص تجعل الإنسان متأملاً ناظرًا، رضيني الحق سبحانه وتعالى موصولاً بأولياء الله، رضيني الحق سبحانه وتعالى في مجلس ذكره، رضيني الحق سبحانه وتعالى في محل مؤانسته، حتى صار ذلك من إقامة الحق لي فيه، وكيف تعلم أن الحق أقامك فيه؟ إذا رأيت نفسك لا تمنعك العوائق، ولا تصرفك عن الورد المبارك، وأعني بالورد القربة التي فتحها الله عليك، ليس الورد هو فقط أن تمسك المسبحة، الورد: أيُ قربة تتقرب بها إلى الله تعالى وفتح بابها لك فدمت عليها، إذًا الحق أقامك فيها، وهو غير مرورك بقربة من الطاعات التي يتقرب بها إلى الله، فانتفعت بها ثم ذهبت إلى ما أقامك الحق فيه، لا نتحدث عن هذا، إنما نتحدث عن شيء أقامك الحق فيه، وعلمت من خلال إقبال قلبك ومداومتك عليه أنك ممن أقامك الحق في هذا الأمر، ومن علامة إقامة الحق لك في الشيء أن يحصل لك منه بعض الانتفاع.
تريد أن تفهم هل أقامك الحق سبحانه فيه أم لا؟ انظر إلى أمرين.
ألأمر الأول: هل دمت عليه؟
الأمر الثاني: هل حصلت لك من خلال هذه المداومة بعض الانتفاعات؟
فتفهم عند ذلك أن الحق أقامك، يعني أدخلك في هذا الباب، وقبلك في هذا المحل من القرب، فإذا رأيت بعد أن أقامك الحق في هذا الأمر علمًا، أو عملاً، أو خلقًا، أو حالاً، ورأيت أنك انصرفت عنه فاعلم أن هذا إنما هو نوع فتنة، ووقوع في الإغراء، ووقوع في حبل من حبائل الشيطان، والآية الكريمة {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة: 46] إذًا، الحق سبحانه وتعالى إذا أعطاك لا يأخذ، لكن عندما يحصل من العبد إدبار، أو إعراض، فإن الحق سبحانه وتعالى يزيده بعدًا قال تعالى: {وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ}[التغابن: 6] ولاحظ أنك دائمًا لا يمكن أن تقرأ في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى صرفهم ابتداءً، إنما هناك سبب من الأسباب التي ظهرت من العبد، كأن يكون أعرض، أو جحد، أو عاند، ولذلك من الذي يبقى في ساحة الأمان؟ أهل الأدب، لأنهم دائمًا في حالة الأدب مع مولاهم وفي حضرة مولاهم، ولذلك هم بعيدون عن الإعراض، كيف يعرض من كان محبًا؟ وكيف يعرض من كان متعلق القلب؟ لايعرض.
ولذلك كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه بعد حادثة الإفك ينفق على أحد الأصحاب، وهذا الصحابي وقع في السيدة عائشة فامتنع بعد ذلك الصديق عن إعطاءه، فنـزل نص في القرآن {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}[النور: 22] لماذا؟ لأنه {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ}[المائدة: 8] وإياكم أن يحملكم بغضكم النفساني، وإياكم وإياكم أن تصرفكم نفوسكم، وأكثر المنزلقات تأتي من النفوس، فيُحرم بسبب حركة نفسه هذه عن عطاءات من الأنوار، وعطاءات من الأسرار، وعطاءات من القربات، فهو فتح لك الباب وأدخلك، فإذا التفت وأنت في حضرة الملك، إلى الظلمات، أو إلى ما يسخطه، عند ذلك يقول: هذا لا يليق به أن يكون من جلساء الملك.
مما يذكر في حكايا الصوفية ورموزهم أن: حسناء فاتنة قالت لمن عشقها وأحبها، وكانا يقفان على حافة سطح مرتفع، قالت له: إن أختي هي أجمل مني فانظر إليها، فلما التفت لينظر إليها، دفعته، فأسقطته، وقتلته، فقد كان هذا امتحاناً له، فهو كذاب، لأن الذي يكون في محل المحبة الصادقة لا يتلفت، لذلك وصف الله أحب أحبائه فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم: 17] ما تجاوز، ولا تلفت، وهناك بعض الناس باب قبولهم قيام الليل، وهناك من باب قبوله العفو والصفح، دخل رجل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يدخل، قال عليه الصلاة والسلام: ((يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) وفي اليوم الثاني قال: ((يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) وفي اليوم الثالث قال: ((يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) وأراد سيدنا عبد الله بن عمر أن يعرف ما الذي يفعله هذا الصحابي حتى شهد له رسول الله ثلاث مرات بأنه من أهل الجنة، ذهب إليه وقال أنا متخاصم مع والدي، وهو يتحدث عن زمان ماض، فهو في يوم من الأيام تخاصم مع والده فأراد التورية هنا، ألا تقبلني ضيفًا عندك، قال: أهلاً وسهلاً، والضيافة ثلاثة أيام، فكان في ثلاثة أيام يراقب ما يفعله هذا الرجل، فكان ذلك الرجل يصلي الصلوات الخمسة والسنة والوتر بعد العشاء، ويذهب إلى بيته، وبعد ذلك ينام، ككل الصحابة، وهناك من الصحابة مثل أبي الدرداء، مثل أبي ذر، يقومون من أول الليل لآخره، أو ثلاثة أرباعه، وهذا الصحابي ما عنده من الأعمال الشيء، الكثير، فقال عبد الله بن عمر له: إن هذه الحكاية كلها اختلقتها اختلاقًا، لأبيت عندك، وأردت أن افهم لماذا شهد لك النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام بأنك من أهل الجنة، وما هي العبادة التي أدخلتك الجنة، قال: لا أفعل غير ما رأيت من الفرائض والسنن، ولكن قبل أن أنام كل يوم أُسامح كل من له حق علي، فقال عبد الله: بهذه إذًا.
رجل أقامه الحق في باب قربة مالية، ورجل أقامه الحق في باب قربة خلقية، مثل هذا الصحابي، وأخر أقامه الحق في باب زهد، في باب عبادة، في باب ذكر، وهذه كلها أبواب قربات، فإذا أقامك الحق في شيء، فإياك، ثم إياك، أن تنصرف بنفسك، ولا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها فلو أرادك لاستعملك من غير إخراج، فإذا أقامك الحق في الفقه، عليك أن تشتغل بالفقه ليل نهار، وكل واحد يعرف بما أقامه الحق.
ولا تظنوا أن أحداً يأتي ليسأل بأي شيء أقامه الحق {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة: 14] الحق سبحانه وتعالى فتح لك بابًا خاصًا بك.
وما أحلى أن يفهم الإنسان عن الله سبحانه وتعالى أنه أوقفه، وأقامه في مقام، وعليه أن يفهم عن الله وأن لا يضيع هذه الهبة العظيمة، ولا يمكن أن يكون كل الناس نسخة وحدة، فهذا لا يكون.
لذلك، كشف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض هذه الأسرار في أصحابه فقال: أقرؤكم أبي، أقضاكم علي، أفرضكم زيد، فزيد هو الباب الأكبر الذي يدخل منه لحل مسائل المواريث بين الناس، وهذا باب الولاية الأكبر بالنسبة له، وباب الولاية الأكبر لعلي رضي الله عنه القضاء، ليكون حكمًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حُكّم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ}[النساء: 65] أقرؤكم أبي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أُنزل عليه القرآن استمع إلى قراءة أبي، وآخر كلمة سمعتها من شيخنا الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله ، قبيل وفاته بمدة يسيرة، قال: ((على العهد، على العهد، على العهد)) إذًا كل واحد منَّا يجب أن يثبت على العهد، أي ما أقامه الحق فيه، ولذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكن مثل فلانٍ)) ليس المقصود فقط من هذا الحديث التوجيه إلى قيام الليل، لا إنما هو التوجيه إلى قضية كبيرة جدًا، يقول له: ((لا تكن مثل فلانٍ)) أقامه الحق في شيء فتركه، و هناك من أقامه الحق على الصبر، كصبر الرجل على أذى زوجته، وكان أحد الأولياء الكبار تؤذيه زوجته إيذاء عجيباً وهو يكرمها، وهذا بابُ ولاية كبيرة، وصبر الرجل على زوجته أعلى بكثير من صبر المرأة على زوجها، لأن المرأة أصبر من الرجل، والرجل قليل الصبر، فإذا كان الرجل يتحمل ذلك فهذا بابُ ولاية كبيرةٍ جداً
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم |