عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيءٍ منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل)) رواه مسلم.
من خلال ما قرأناه في هذا الحديث، ومن باب الإشارة، أقول: إن هذا الحديث ورد فيه أمر وهو ورد الليل، ومن باب الانتقال من العبارة إلى الإشارة، أقول: إن الأمة اليوم تعيش في ليل لكن بدون ورد، والورد: هو التكليف، فكل ما يندرج في إطار التكليف الشرعي ورد، وكل ما يرد من الحق تعالى من الهبات والتأيد والإعانة فهو وارد، والمؤمن يقضي عمره بين الورد والوارد {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}[النور: 55] آمنوا وعملوا الصالحات ورد،وأما الاستخلاف فهو وارد.
الأمة الآن في ليل، لأنَّها في محن، في شتات، في فرديات بدلاً من أن تكون تكاملاً جماعياً، الأمة في ليل لأنها نامت بعد أن كان لها شأن، حينما سلكت منهج الدين معاملة وعبادة، لم تفهم الدين عبادة منقطعة عن المعاملة، إنما فهمت الدين اتصالاً بين العبادة والمعاملة، فنشأت النهضة، وظهرت الحضارة، وبعد ذلك نامت الأمة.
وكأننا نجد في هذه الأيام ما يتنـزل من القدر، منبهاً وموقظاً، ننظر يمنة ويسرى فنرى المنبهات، يقول مولانا جلال الدين الرومي رحمه الله في هذا المعنى: الأم إذا رأت أن حليبها قد امتلأ الضرع به لكن الرضيع نائم، تفرك أنفه لتوقظه، ثم قال: وهكذا الحق ينبه الكائنات حينما تغيب عن محبته، ينبهها بالمزعجات، كل ما يحصل الآن من تنبيه الحق سبحانه وتعالى لنا حتى نستيقظ، ونقوم بورد الليل.
عندما كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، كانت البيئة بيئة ليل، فيها المحنة، والشدائد، والتعذيب ((صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)) لكنه صلى الله عليه وسلم ما نام عن ورد الليل، فكان يدعو إلى الله سبحانه ويثبت على المنهج.
ونقرأ في القرآن المتنـزل على قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيرة سيدنا نوح، (وكل الرسل عليهم الصلاة والسلام، جُمعوا في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقول تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا}[نوح: 5] الورد الدؤوب في العلم، والعمل، والحال، والتحابب، والتآخي، والتكاتف، والتعاضد.
فإذا كان المسلم نام في وقتٍ ما، في وقت الليل عن تكليفه، وها هي المزعجات توقظه، تنبهه، فإذا وجد فسحةً، (النهار دائماً يشير إلى حال السعة، والليل يشير إلى حال الضيق والقبض، فالنهار حركة، والليل سكون) فإذا تنبه هذا المسلم فلا ينبغي أن يقع في اليأس، ولا في الإحباط، إنما يقضي ما فاته، لا ينبغي أن نقول: إن الأمر قد وصل إلى حد اليأس والإحباط، ولم يعد باليد حيلة، والذين سبقونا لم يتركوا لنا فرصةً، لا فالفرص كبيرة، فكل لقاء في الله، كل تعاون،هو ورد، خرجنا مرات إلى بيروت، ورأينا كيف يكون التعاون، وكيف يأتي العلماء من الشرق ومن الغرب، ويجتمعون، ونتفكر في اللغة العربية تارة، وفي موضوعات أخرى تارة أخرى، (ونحن لا نهتم باللغة العربية من حيثية إنها قومية، وإنما لأنها لغة القرآن لأنها هي الوسيلة التي بها يمكن للإنسان أن يفهم خطاب ربه).
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((فقرأه)) قلنا دائماً الإشارة لا تلغي العبارة، إنما الإشارة عبورٌ إلى معنى آخر، يستفيده، يلوح له، ((فقرأه)) هذه القراءة، لا تعني أن تنظر إلى أوراق فيها سطور فتقرأ منها، لا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى له: ((اقرأ)) وما قرأ من أوراق، وقال سبحانه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ}[القيامة: 18] أي قراءته، والقراءة: هي الجمع، قرأت الشيء جمعته، وما سمي القرآن قرآناً إلا لأنه جمع السور.
إذاً حينما يستطيع ضم المتباعدات فيضعها في قلبه، يضعها في عقله، يضعها على مستوى التطبيق على أرض الواقع، فهذه كلها دلالات نستطيع من خلال العبور إلى إشارة اللفظة، ونستفيد منها.
وحين نقرأ ((ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر)) وهذا النصف الأول من النهار، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفزنا على الإسراع، والله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ}[الفرقان: 62] فأعطانا القرآن النهار كله، لكن رسول الله أعطانا نصف النهار، لماذا؟ هذا فيه تحفيز لإسراع، الآية القرآنية أعطتنا فسحة في النهار كله يمكن أن يكون عوضاً عن الليل، لكن الحديث يشير إلى نصف النهار وكأنه يقول سارعوا، كأنه يقول تسابقوا، فكما أن هذا الحديث فيه سعة، لكن في نفس الوقت نجد حثاً على أن نغتنم النصف الأول، حتى إذا ما استوت الشمس {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[الإسراء: 78] استواء الشمس يلغي الظل، وعند إلغاء الظل لا نرى أنفسنا، ونقع في حالة الحيرة، فأدرك نفسك قبل تصل إلى هذه الحالة، الفتنة التي تجعل الحليم حيران.
وهكذا انتقلنا من الذكر إلى الفكر، وحين ينفصل الذكر عن الفكر فلا قيمة للذكر، أو نقول لم ينتج ثمرته، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْوَيَتَفَكَّرُونَ}[آل عمران: 191] فإذا وجدنا ذكراً ولم نجد بعده فكراً، إذاً شجرة لكن لا إثمار لها، أو كما في الحكم العطائية سحابة لكن لا إمطار لها، والإمطار لا يراد منه الإمطار إنما يراد منه الإثمار، الذكر يعلق القلب بالله، والفكر يحرك البدن في مرضات الله على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الإنسان من الذكر والفكر، كما يقول أهل الطريق بين الشريعة والحقيقة، بين الحركة والعرفان، وهذا كله شيء واحد، عرفان يولد حركة، وحركة تلازمها حال العرفان، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبه وسلم. |