الحديث الثامن في باب الاقتصاد في الطاعة
وعن أَبِي جُحَيْفَةَ وَهبِ بْنِ عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنه قال: آخَى النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بَيْن سَلْمَانَ وأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاء مُتَبَذِّلَةً فقالَ: ما شَأْنُكِ؟ قالَتْ: أَخْوكَ أَبُو الدَّرداءِ ليْسَ له حَاجةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدرْدَاءِ فَصَنَعَ لَه طَعَامًا، فقالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قالَ: ما أَنا بآكلٍ حَتَّى تأْكلَ، فَأَكَلَ، فَلَّمَا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْداءِ يقُوم فقال لَه: نَمْ فَنَام، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُوم فقالَ لَه: نَمْ، فَلَمَّا كان من آخرِ اللَّيْلِ قالَ سلْمانُ: قُم الآنَ، فَصَلَّيَا جَمِيعًا، فقالَ له سَلْمَانُ: إِنَّ لرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لنَفْسِكَ عَلَيْكَ حقًّا، ولأهلِك عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَذَكر ذلكَ لَه، فقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: « (صَدَقَ سلْمَانُ) » رواه البخاري.
وهكذا يكون الأخ ميزان أخيه، ففي هذا الحديث تذكير بحقوق ثلاثة: حق الروح أو السر، وحق القلب، وحق النفس، فالعبادة من صيام، وقيام، وذكر، وتلاوة، تغذي سر العبد وحال وصاله مع مولاه، أو حال وصاله في حضرة مولاه، ليعيش حال {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
ليعيش حال {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] حال المراقبة {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218].
والأهل لا بد أن يستوعبهم بأخلاق قلبه، لا يمكن أن تظهر الأخلاق إلا إذا صفا القلب، يصبر عليهم تارة، ويشكرهم تارة أخرى، يغلبن كريمًا، ويغلبهن لئيم، (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)،هكذا أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، هذا الاستيعاب الخلقي لا يكون إلا إذا صفا القلب، لأن صفاء القلب ينتج الأخلاق، فكما أن حال السر الذي فيه المحبة، والذي فيه الخشية، والذي فيه الحضور في ذكر الله، يكون فيه العبد حسن الأذواق، وكذلك عندما يصفو القلب يصير حسن الأخلاق، فيظهر حسن الأذواق، أو إن شئت تقول: يظهر صفو الأذواق، وحسن الأخلاق.
وقد يدخل الشيطان! لذلك إذا دخل الشيطان، فاذكر الله، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، فيعود الصفو إلى القلب، ويأتي الاستيعاب الخلقي، وقد لا يكون الاستيعاب الخلقي مع سعة الصدر، لأن سعة الصدر حال، قد يكون الإنسان في وقت من الأوقات في ضيق الصدر لا في سعة الصدر{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} [الحجر: 97] وهذا حال، الحق هو الذي يقبض وهو الذي يبسط، قد يكون وقت الإنسان فيه من سعة قلبه الشيء الكثير، وقد يكون وقت الإنسان فيه من ضيق صدره الشيء الكثير، سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام إذا نظرت إليه تراه في أكثر أوقاته كأنه غضبان، هذا حق، هكذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وربما يكون الإنسان في وقت من الأوقات في حالة من الانشراح، في حالة من السعة، لست مسئولاً عن أن تكون ضيق الصدر أو واسع الصدر، هذا ليس من شأنك، هذا من تصريف الحق، لا تتوهم أنك بضيق صدرك في البعد، أو أنك في سعة صدرك في القرب، لا بل هذا حال، الحق سبحانه وتعالى أعطى بعض خلقه في بعض الأوقات سعة صدر، وأعطاهم في بعض الأوقات ضيق صدر.
إنما التكليف، في وقت ضيق الصدر{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] وفي وقت سعة الصدر {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]
إذًا: عندما نتحدث عن أخلاق قلب هذا الإنسان، ليس بالضرورة أن يكون في وقت حسن خلقه في سعة صدر، لا فكظم غيظه في وقت ضيق صدره حسن خلقه.
إذًا عندما جلست تذكر الله، أو قمت من الليل تقرأ القرآن، (وأفضل حالات القراءة للقرآن، وأعلى درجات التلاوة، حينما تقرأه في الصلاة ، فهذا فيه من ترقيات عجيبة، لأن الصلاة يكون فيها العبد في حالة وصال في حضرة الله، فإذا كان في حضرة الله وهو في حضرة كلامه، فما أحلاها من حال) فهذا ارتقاء في ذوق العبد حيث روحه، حيث سره في حال صفوها، وأما حق الأهل ففي خلقك.
ويأتي الأمر الثالث الذي هو: ((وراعها وهي في الأعمال سائمة))، أن تعطي النفس من الشريعة، أن تعطي النفس من الحلال، أن تعطي النفس من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يأتي دور الصحبة ، فقد يكون أخ مستوف حق نفسه، مقصر في قلبه وروحه، فتأتي الصحبة المذكرة ليرتقي في حال قلبه وسره، وقد يكون ممن أعطى سره حقه لكنه أهمل نفسه، فتأتي الصحبة المذكرة لتعيد التوازن.
فإذا سأل الإنسان ما دور الصحبة الأول، نقول: هذا الحديث يعطينا توجيهًا، وتعليمًا، وتوضيحًا لدور الصحبة ووظيفتها، أخوك ينبغي أن تلاحظه، لا سيما إذا كنتما متآخيين، فإذا كنتما متآخيين فليلاحظ أحدكما حال أخيه، فإذا وجد أخاه مقصرًا في حق نفسه كما في هذا المثال فيذكره، وإذا وجد أخاه مقصرًا في حق سره فيذكره، فلا نأخذ من هذا الحديث أن الأخ إذا رأى أخاه مقصرًا في حق نفسه يذكره فقط، إنما إذا رأى أخاه مقصرًا في حق قلبه، وفي حق سره يذكره أيضًا ، إذًا الأخ ميزان لأخيه.
يقول قائل: فما بالهما إذا تشابها في السقم والعلة، نقول: في هذه الحالة الصدق مفقود والصلة طبيعية، وهذا لا يندرج في الحب في الله، فقد خرجا عن التحابب في الله إلى الصلة الطبيعية، والصلة الطبيعية غير الصحبة التي نتحدث عنها، الصلة الطبيعية أنس هذا بأخيه، حيث مال طبعه إليه، فوافقه في كل شيء، وهنا المشكلة، حيث أن الجذب الطبيعي قوي جدًا، فيجب أن يكونا تعاهدا في التآخي، والتحابب، والصحبة على هذا الميزان {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر] عند ذلك تثمر الصحبة، ثم إن الصحبة تكليف، فمن الذي جبرك أن تختار من لا نفع في صحبته، أنت الذي تختار، فعندما تختار، هل تختار وفق هذه الموازين، أم تترك النفس هي التي تختار؟ فهذه مشكلة.
في مكة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والمهاجرين، قبل أن يؤاخي بين الأنصار والأنصار، وإذا استعرضنا أسماء الذين تآخوا، نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال، آخى بين سيدنا أبي بكر، وسيدنا عمر، وطبع أبي بكر مختلف تمامًا عن طبع عمر، فلا يوجد مناسبة في الطبع أبدًا، فإذا كنت كسولاً وذهبت بطبعك ومجانستك الوصفية الطبيعية وبحثت عن كسول مثلك،فهذا لا يجوز، بل ينبغي أن تكون المؤاخاة دواء، فإذا كان أحدهم كثير الكسل، والآخر كثير النشاط، يحصل التوازن، وهذه فائدة الصحبة.
ولا يعني أنك إذا آخيت أخ في الله فإنك تقاطع بقيت أخوانك، أو تقاطع من تجد مماثلة أو تجانس في الوصف معه، لا فالإسلام، والإيمان، والإحسان، يقوم على التواصل بين الجميع، لكن هذه الصحبة دواء، فأبو بكر رضي الله تعالى عنه أخوه عمر، واقرأ وصف أبي بكر، واقرأ وصف عمر، تجد أنه رضي الله عنهما كل واحد كان له وصف معدِّل لمزاج الآخر، فكان سيدنا أبو بكر لطيفًا، وكان سيدنا عمر شديدًا، كان سيدنا أبو بكر يقرأ القرآن بصوت خافض، وكان سيدنا عمر يقرأ القرآن بصوت جهوري، لذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر أن يخفض صوته، وأمر أبا بكر أن يرفع صوته، وكأن الصحبة الطويلة يحصل بها اعتدال، كمبدأ الأواني المستطرقة، في النتيجة يحصل تساوي، شخص كثير النوم، وشخص قليل النوم، شخص نشيط، وشخص كسول، شخص لديه همة عالية، وشخص لا يمتلك الهمة،هذا مثال ينبغي أن يستفاد منه في السلوك والتآخي، ينبغي أن يستفاد منه في الجماعة، ينبغي أن يستفاد منه في التربية، فأخوك في الله هو الذي عاهدته، ووجدت فيه دوائك من أجل حق السر، وحق القلب، وحق النفس، وهكذا نفهم وظيفة الأخوّة الأساسية، فما أجمل أن يعطي الإنسان كل ذي حق حقه، إذا كنت تاجرًا في وقت تجارتك أعطي تجارتك حقها، إذا كنت صاحب صنعة، صاحب عمل متخصص أعطي هذا التخصص حقه، لكن لا تجعل حياتك موجهة من أجل نفسك فقط، من أجل الدنيا فقط.
ومن جهة أخرى نجد شخصًا متوجهًا في حالة زهد، في حالة روحانية دائمة، كلما خاطبته بشيء، يقول: الدنيا فانية، وقد وجدنا مثل هذه النماذج، فنقول له: ينبغي أن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أمرًا في كتابه قال: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] اقرأ قصة ذي القرنين، اقرأ قصة سليمان عليه الصلاة والسلام، اقرأ في القرآن قصة الخضر لما أقام الجدار.
إذًا: الزهد الباطن في الدنيا مطلوب، لكن بشرط أن تعطي كل ذي حق حقه.
فلا تدخل عملك في الصلاة، وأنت في الصلاة تقول الله أكبر، ثم تبدأ بالحسابات هل هذه التجارة حسنة أم غير حسنة، الحسبة اليوم جيدة أم غير جيدة، ثم تدقق دفتر الحسابات في الصلاة، لا كن في الصلاة إبراهيميًا، هذا الحال الإبراهيمي، وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، وحين تدخل إلى الدنيا ادخل كما دخل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار، لا تحرقك {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء: 69] تدخل إلى الأسواق، تجتمع مع القبيح والمليح، لكن لا يؤثر على قلبك، لا يحرق شرر الظلمانيات قلبك، {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} ففي الصلاة وجهت وجهي، وفي الدنيا ومع الخلق الذين أوصافهم ظلمانية، تؤثر ولا تتأثر، على الأقل إذا لم تؤثر فلا تتأثر، هذا الحال الإبراهيمي، والأخلاق {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] رأينا كم تحمّل سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حياته، ومع أهله.
إذًا هذا النموذج الذي فيه تدقيق في الظاهر، فيه حجة {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83] عقل سديد، خلق واسع، ولما جاء الضيف، {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات: 27] {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] لم يقل لهم يوجد كسر من الخبز نطعمكم، بل عجل مشوي، والعجل المشوي يقتضي إعداد، هذا يدل على أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام اعتنى بحق الضيف وأكرمه، وقرب الطعام إليه بعد أن أعده، وحين يقول القرآن: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] فهو يعطيك وصفًا، فلا يمكن لمطابخ العالم كلها إذا اجتمعت أن تعد العجل الإبراهيمي، لأنه تم إعداده على أحسن ما يمكن، هكذا يكون الإنسان في عقله، وفي قلبه، وفي سره، وفي نفسه، هذا هو التوازن، فمن الذي يساعد على هذا التوازن؟ إنها الصحبة، والتآخي في الله، وما أحلى هذا التآخي. |