خلق الله تعالى آدم وعلمه ودله عليه ليكون التوحيد في أولاده أصل علوم البشرية …
ولما طال على الناس الأمد انقسموا أقساما ثلاثة:
- قسمٌ انغمس في شهوات نفسه وهواها وغلبت عليه البهيمية الظاهرة حتى نسي ما تأسس عليه باطنه من التوحيد وذكر الله ..
- وقسمٌ ورثَ توحيد آدم وأدام توجه باطنه فيه … ثم وجد في الرسل والأنبياء من أولاد آدم إنقاذا للبشرية من هيمنة بهيميتها وتذكيرا لها بعهدها الأول …
- وقسمٌ أنفت نفسه الانحباسَ في البهيمية، كما أنه نفر من الانقياد والتقليد، فوجد أن منزلته الإنسانية تطلبه للزوم صومعة العقل، والانطلاق من الشك والحيرة إلى البحث والتفكير فساق كلا من هذا القسم تفكيرهم وبحثهم العقلي إلى بعض المشتركات الاتفاقية، لكن تلك العقول المتفكرة حارت واختلفت في آلاف المسائل والقضايا …
وبين الماديين … والفلاسفة … وأتباع الرسل … دارت دوائر العقائد ..
فضاع الماديون في التقليد االأعمى ..
وتخبط الفلاسفة في المعضلات ..
واستمد أتباع الرسل الهداية من تعليم الوحي ورسالات الله إلى خلقه ..
كانت الأزمة الكبرى في الإنسان غلبةُ المعتاد الحسي المادي على الباطن الروحاني القلبي التي توقعه في الغفلةِ عن ربه ..
وكان منهجُ النبوة يسلك المسالك المتعددة لإخراج الإنسان من هيمنة معتاده الحسي على باطنه النفيس …
كما أن منهج النبوة كان أيضا حريصا على أن لا يكون الناس:
( كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) (16) الحديد
وكان عنوان الخطاب النبوي الموجه إلى البشرية أن:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، لا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ )(3)فاطر
أما أشهر أساليب النبوة لإخراج الناس من معتادهم فثلاثة:
- تنبيه الفطرة التي جبل الله تعالى البشر عليها.
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ )(30)الروم
- الدعوة إلى السير في الأرض بعيدا عن المعتادات المكانية تنبيها للعقول.
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ) (46)الحج
- تصفية القلب بالتذكير والتنوير ليكون مستعدا بعدها للتفكير بعيدا عن تأثير المعتاد الحسي.
( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ)(191) آل عمران
ولما بعث الله تعالى خاتم أنبيائه ورسله تأسس جيل راسخ الإيمان بربه مستنيرٌ بأنوار الوحي، وقال الله تعالى في ذلك:
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (285) البقرة
وكان الشك والريب بعيدا كل البعد عنهم، قال تعالى:
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا )(15) الحجرات
ولما انتقل المصطفى عن الدنيا كان الصديق أبو بكر رضي الله عنه من أوائل من حفظ لأصحابه عقائدهم وقال قولته الشهيرة:
"من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت "
وبقيت عقائد الأمة سليمة على العموم حتى خلافة علي رضي الله عنه فظهرت بدعة الخوارج واختلقوا القول بتكفير أصحاب الكبائر ..
ودرج التابعون على ما كان عليه متبوعوهم من أصحاب المصطفى باستمداد العقائد من الوحي مع كامل التسليم لله تعالى فيما خفي ودق، حتى اعتزل واصل ابن عطاء مجلس الحسن البصري سيد التابعين ، ونبذ السنة النبوية وتمرد بعقله على علوم الوحي.
وترسخ الاعتزال المتأثر بالفلسفة مع اتصال الحضارة الإسلامية بكتب الفلسفة اليونانية المترجمة إلى العربية …
وكان الاعتزال في أول أمره ثورة ضد الفلسفة اليونانية الوثنية ونصرة للعقيدة الإسلامية لكنّ إفراطه في الاعتماد على العقل بعيدا عن هداية الوحي أوقعه في ورطات وضلالات ..
وكان ممن تبنى المنهج المعتزلي أبو الحسن الأشعري وبقي عليه أربعين عاما حتى خبر دقائقه …
ثم عاد إلى رحاب الوحي ونقض بأدوات المعتزلة العقلية منهجهم الفاسد، وخلع القميص المعتزلي واعتمد منهجا وافقه عليه علماء الأمة وهو التوجه لاستمداد أدلة العقائد من الوحي، وتوظيف أدلة العقل وأدواته لخدمة عقائد الوحي، والتسليم لله تعالى في الغيبيات التي لا سبيل للعقل للاستدلال فيها.
سبق الأشعريّ أتباع الحسن البصري وتلاميذ تلامذته … لا سيما أعلام التصوف الموصولون بالسند به … لكنهم لم يتصدّوا لبلورة علم متكاملٍ اختصاصي في العقائد بل كانوا يجيبون عن بعض مسائل العقائد بما يوافق روح النص الوارد عن الوحي.
قال الحسين بن المنصور:"توحيده تمييزه من خلقه."
وقال الجنيد: " التوحيد إفراد للقدم من الحدث " .
وكتب ميمون إلى ابن عبيد : عليك بكتاب الله، وإن الناس قد لهو عنه واختاروا عليه أحاديث الرجال، وإياك والمراء في الدين.
وقال رجل ليحيى بن معاذ: "أخبرني عن الله عزَّ وجلَّ؟
فقال: إله واحد.
فقيل له: كيف هو؟
فقال: ملك قادر.
فقيل: أين هو؟
فقال: هو بالمرصاد.
فقال السائل: لم أسألك عن هذا!!
فقال: ما كان غير هذا كان صفةَ المخلوق، فأما صفته فما أخبرتك عنه" .
وكان أبو حامد الغزالي وهو من مجددي المدرسة الأشعرية يرى أن القرآن حوى جميع أدلة العقل وأدواته، ومنه قوله في إحيائه:
"وعلى الجملة فالقرآن من أوله إلى آخره محاجّة مع الكفار، فعمدة أدلة المتكلمين في التوحيد قوله تعالى " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " وفي النبوة " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله " وفي البعث " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " إلى غير ذلك من الآيات والأدلة".
ويرى الإمام الغزالي أنَّ استعمال الدليل الجدلي هو دواء لمن تمكنت البدعة فيه إلى درجة لا يزيلها إلاه، وذلك بقوله:
"واستقصاء الجدل إنما ينفع في موضع واحد وهو أن يُفرض عامي اعتقد البدعة بنوع جدل سمعه فيقابَلُ ذلك الجدل بمثله فيعود إلى اعتقاد الحق .... فقد انتهى هذا إلى حالة لا يشفيه منها إلا دواء الجدل فجاز أن يُلقى إليه"
وقد تأثر ابن عربي بالغزالي وكان يرى وجوب اعتماد الدليل القرآني، وكان لا يقلل من قيمة المدرسة الأشعرية التي هي قلعة الدفاع عن عقائد الإسلام أمام كل شبهة أو بدعة.
يقول ابن عربي:
" والقرآن العزيز قد ثبت عندنا بالتواتر أنه جاء به شخص ادَّعى أنه رسول من عند الله تعالى، وأنه جاء بما يدل على صدقه وهو هذا القرآن، وأنه مااستطاع أحد على معارضته أصلاً، فقد صحَّ عندنا بالتواتر أنه رسول الله إلينا، وأنه جاء بهذا القرآن الذي بين أيدينا اليوم وأخبر أنه كلام الله تعالى، وثبت هذا كله عندنا تواترًا، فقد ثبت العلم به أنه النبأ الحق والقول الفصل.... وإذا كان الأمر على ما قلناه فيأخذ المتأهب عقيدته من القرآن العزيز وهو بمنزلة الدليل العقلي في الدلالة، إذ هو الصدق الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] . فلا يحتاج المتأهب مع ثبوت هذا الأصل إلى أدلة العقول"
ثم يقول: "فمهما برز في ميدان المجادلة بدعيٌّ؛ برز له أشعريّ أو من كان من أصحاب علم النظر ... حرصًا على أن يردّوا واحدًا إلى الإيمان والانتظام في سلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالبرهان.... فالبرهان عندهم قائم مقام تلك المعجزة في حق من عرف، والراجع بالبرهان أصح إسلامًا من الراجع بالسيف، فإن الخوف يمكن أن يحمله على النفاق وصاحب البرهان ليس كذلك"
إن الأسلوب القرآني يخاطب في العقائد الكيان الإنساني في جميع مستوياته الروحية والقلبية والعقلية والنفسية أما الأسلوب الكلامي فلا يخاطب غير العقل.
ورحم الله القائل:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقنه أو قارعا سن نادم
لقد ابتدأ البخاري صحيحه بكتاب بدء نزول الوحي لينبه على أن الدين مصدره الوحي.
ومات الغزالي رحمه الله وعلى صدره صحيح البخاري.
نوصي في عصرنا هذا بالآتي:
- المحافظة على بقاء القرآن أصلا للعقائد.
- أن يبقى المذهبان الأشعري والماتوريدي ضابطين لصحة العقائد وقلعة دفاع عن حصونها.
- ينبغي أن لا يكون تطوير الأساليب الخادمة لشرح العقائد مصادما لعقائد أهل السنة والجماعة وضوابطها في المذهبين الأشعري والماتوريدي.
- إن العولمة تنتج في العالم اليوم وثنية مادية جديدة، ولا يمكن مواجهتها بمجرد أدلة العقول ..
- لا بد من دمج الأدلة الإقناعية والمؤثرات العاطفية بالأدلة العقلية واعتماد الأسلوب المقتدي بالقرآن إيقاظا للشعور الإيماني واتباعا للمنهج القرآني ورغبة في تحقيق التأثير الواسع في الناس.
- تقديم النتائج مختصرة، والاكتفاء بأدلتها الإجمالية، بعيدا عن إرهاق الناس بالأدلة التفصيلية.
- الاستعانة بالأساليب الجديدة ووسائل العرض الجديدة واستعمال السؤال والجواب كأسلوب سهل وجذاب.
- التركيز على ضرورة تحرر المسلم عن الاعتقاد الحاصل بالتقليد، تخلصا من التقليد الذي لا يصح في العقائد.
- قبول الحوار مع المخالف بشكل مطلق ومن غير قيود.
|