إن أي أثر فاعل في المجتمع لن يكون على مستوى التغيير حتىيرتقي إلى مفهوم العبادة.
والعبادة هي كل فعل يتقرب به الإنسان إلى معبوده، فحيننتحدث عن إصلاح مجتمعاتنا، وعن رغبتنا في الانتقال بها إلى الأحسن والأفضل..، إذالم يكن ذلك مرتبطاً بنية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فنحن والماديون سواء...
إذا أردنا تحسيناً في مستوى العلم؛ فنحن نستمده ونطور مدارسناوجامعاتنا من الباعث الكبير:
(وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) طه: 114.
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ) الزمر: 9
وإذا أردنا أن نزيح الغش، والرشوة، والفساد... فنحن نستمدذلك من قوله تعالى:
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) هود: 112
وإذا أردنا أن نتحدث عن حقوق المرأة والرجل فنحن نستمد ذلكمن قوله تعالى:
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءبَعْضٍ) التوبة: 71
وهكذا يرتقي أهل الإيمان في إصلاح المجتمع إلى سوية لايرتقي إليها غيرهم لأن الباعث أكبر.
ولا أعتقد أن القومية أو الوطنية تكفي كمنطلق وباعث، وقدرأينا تهافت الذين انطلقوا من تلك المنطلقات ووقوعهم في الفساد.
الإنسانية بمفهومها المفرغ – لا تكفي كمنطلق وباعث - فحينأعلن الشرق يوماً من الأيام الشيوع والتساوي الإنساني... كان ذلك إنسانية مفرغة منالمضمون، فقيرة من البواعث.
وهكذا يا إخوتي وأنتم مدعوون جميعاً على كل الأصعدة إلىممارسة التغيير والإصلاح، في وقتٍ يعاني فيه مجتمعنا من الترهل، والعجز والضعف، فحينمانربط هذا التغيير، ونربط كل فعل إيجابي إصلاحي بمفهوم العبادة نرتقي بهذا الإصلاح،وهو المتضمن في قوله:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) الفاتحة: 5.
فإياك نعبد لا تعني (لك نصلي) وحسب، ولا تعني (لك نصوم)وحسب، ولا تعني (لك نزكي) وحسب، ولا تعني (لك نحج) وحسب... إنما تعني كل فعل نافعيرتبط بالنية الصالحة.
ولقد حدثنا المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(أن رجلاً لم يعمل خيراً قط أزاح عن طريق الناس غصن شوكفشكر الله له فغفر له).
فحين تزيح الأذى عن الطريق، وهو من أدنى أنواع الفعلالإيجابي، ويكون ذلك مع نية صالحة، تسمو بهذا العمل إلى رتبة العبادة.
ولكن مهما كان الإنسان مؤثراً، ومهما كان الإنسان إيجابياًفي أفعاله فإنه يحتاج إلى عنصر آخر وهو الاستعانة بالله سبحانه.
فمهما توهمنا أننا نستطيع أن نرفع أو نخفض، ومهما توهمناأننا نستطيع أن نصلح، إذا لم يرتبط ذلك باستعانةٍ صادقة نستشعر معها فقر العبدوحاجة العبد إلى الله فلن نفلح.
حينما نكون في السراء نستعين بالله ونستشعر معنى العبوديةالمفتقرة إلى الله سبحانه.
وحينما نكون في الضراء نستشعر معنى العبودية والحاجة إلىالله سبحانه وتعالى.
ولقد لفت انتباهي يا إخوتي أن كتاب الله سبحانه وتعالى كانيكرر تتابعاً وتتالياً ذكر سليمان وأيوب، ففي سورة الأنعام، قال:
(وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ) الأنعام: 74.
وفي سورة الأنبياء قص قصة سليمان ثم انتقل بعدها إلى أيوبعليهما الصلاة والسلام:
(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَىالأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ، وَمِنَالشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّالَهُمْ حَافِظِينَ، وَأَيُّوبَ، إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُأَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)الأنبياء: 80-84
وفي سورة ص يقول سبحانه وتعالى:
(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُأَوَّابٌ)
(نِعْمَ الْعَبْدُ) سليمان الذي كان يعيش في السراء, ويملككل شيء, لكنه لم يفارق مفهوم العبودية..
كان يتحرك في دائرة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
كان مَلِكاً, وكان كل شيء مجنداً له, لكن الله سبحانهوتعالى قال فيه:
(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ،إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّالصَّافِنَاتُ الْجِيَاد)ُالخيل (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِرَبِّي) أي لم يكن حبي للخير عن شهوة نفس, إنما كان ذلك عن حب الله سبحانه وتعالىللجهاد في سبيله, لأن آلة الحرب كانت في وقته الخيل.
(إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي) أيبسبب ذكر ربي, فكان ذكر ربي سبباً لحب تلك الخيل، وبسبب ذكر ربي أحببتها, لا عنشهوة نفس.
(حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) فمن كثرتها لم تعد تُرى
(رُدُّوهَاعَلَيَّ) فلما ردوها عليه (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) أي أتكريماًلها, ولم يكن ذلك التكريم منبعثاً إلا عن ذكر ربه أيضاً , والذي له علم بالخيليعلم أن تكريمها يكون بمسح سوقها وأعناقها, فيمسح صاحب الفرس ساقها إكراماً لها,ويمسح عنقها...
لكن كل ذلك كان يا إخوتي منبعثاً من ذكر ربه, لذلك قال اللهفي حقه: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)
(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِجَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِيلِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِيبِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَمُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِحِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ .
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ
فأتى بعد سليمان بذكر أيوب, وأيوب هو الأنموذج بين الرسلالذي عانى من الضراء, فانظر كيف يكرر القرآن الكريم ذكر سليمان مع أيوب.
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَالشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌوَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِيالْأَلْبَابِ،وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّاوَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)
فانظر كيف تكررت هذه الصفة في سليمان الذي ملك كل شيء, فقالالله في حقه:(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)
وفي أيوب الذي عاش في الضراء والمحنة فكان صابراً لأمر اللهسبحانه وتعالى فيها فوصفه الله بنفس الوصف (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)
أقول هذا حتى نحوِّل أعمالنا كلها إلى هذه الدائرة؛ دائرة: (إِيَّاكَنَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
في سوقك اجعل سوقك في دائرة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
وفي وظيفتك اجعلها في دائرة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
وفي تطبيبك اجعله في دائرة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
في هندستك, في صناعتك, في زراعتك, اجعلها في دائرة: (إِيَّاكَنَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
وإنه والله للطريق الأسمى للإصلاح والارتقاء, لأنه لن يكونعمل أرقى من عمل يرتبط بمفهوم العبادة, وسيكون بالضرورة إيجابياً..
ولما كان مستعيناً بالله سبحانه وتعالى فإن الله سبحانهوتعالى بفضله وكرمه سيفيض عليه عطاءه ومنته كرمه..
فلا بمفهوم المادة المجردة, إنما بمفهوم ربط المادة بالنيةالصالحة, والاستعانة بالله سبحانه وتعالى يمكن لنا أن نُحدث تغييراً على مستوىالدعوة, وعلى مستوى العلم, وعلى مستوى العمل, وعلى كل المستويات في هذا المجتمع.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميل
واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. |