بسم الله
بسم الله: أي بالله، لأن الاسم عين المسمى عند أهل التحقيق.
فابتدأ كتابه بــبسم الله، ليبين لنا أنَّ هذه الحروفَ المصحفية المنزّلة علينا للهداية والإرشاد والترقية قد نزلت بالله ، فهل نعرفُ ونحن نقرؤها أننا في حضرة من؟
و اسم (اللّه) دالٌّ على ذاته العلية الجميل الجليل الموصوف بجميع الكمالات.
الرحمن
وقد نزل المصحفُ بالرحمن الذي يرعانا في أحكامه كلها من حيث علمنا ويرعانا من حيث جهلنا، ويحفظنا مما ظننا أنه ينفعنا مما يوافق طبائعنا وهو في النتيجة يضرنا، فيؤلمنا منعه، وهو برحمانيته لم يمنعنا بتلك الأحكام التي تخالف بعض طبائع نفوسنا إلا جودا ولطفا، ولو علمنا أنّ منعه هذا كان إحسانا لنا لشكرنا رحمانيته.
الرحيم:
وقد نزل المصحفُ بالرحيم الذي يتلطف بنا، ويهبنا في بعض أحكامه مصالحنا التي نحبها ونفرح بها، فكم من حُكْمٍ نزل بالرحيم موافِقا لطبائعنا، ومحققا للذائذنا، فأسعدْنا به نفوسنا وأطعنا به ربنا.
الحمد لله:
يثني الله تعالى على نفسه، لأنه عَلِمَ أنَّ المخلوقين عاجزون عن إحصاء الثناء عليه، فامتن عليهم بقوله تبارك وتعالى: الحمد لله، فأثنى هو على نفسه بما نعلمه وبما لا يعلمه من كمالاته إلا هو.
وبعد الثناء المطلق من الله تعالى على الله بجميع الكمالات، التي تليق بجماله وجلاله بيَّن لنا بعضَ الوجوه من الثناء التي تستطيعُ عقولنا فهمَ بعضِ الجوانبِ فيها بقوله:
رب العالمين:
والربّ: السيدُ الذي يملِكُ ولا يُملَك، الذي له الخلق والأمر، ومع ذلك فهو يعتني بأمر خلقه ويصلح أحوالهم، فهو خالق أرواحهم، وصانعُ أجنَّتهم في بطون أمهاتهم، وراعي طفولتهم، وباني شبابهم، ومُكمّلُ الرجولة، ومجمّلُ الأنوثة، ونافخُ الحكمة في الكهولة والشيخوخة، والموفّق في الأقوال والأفعال والأحوال.
والعالَمون: جمع عالَم، فالدنيا عالم، والبرزخ عالم، والآخرة عالم، والجنة عالم، والنار عالم، والمُلكُ عالم، والملكوت عالم.... وهكذا خلق الله تعالى من العوالم ما سمعنا به وما لم نسمع.
الرحمن الرحيم:
أما الرحمن الرحيم في البسملة فهُما في الأزل والأبد قبل خلق الخلق.
وأما الرحمن الرحيم في الحمدلة فقد أشارا إلى التعلقِ بالمرحومين بعد ظهور الخلق، فغمرتهم رحمانية الرحمن، التي تعطيهم الدواء المرّ لعلل الحياة، ورحمة الرحيم التي تُغذّيهم بشهدِ الإمداد الحلو اللذيذ، وفي ذكر الرحمن الرحيم متابعة لثناء الله تعالى على نفسه.
مالك يوم الدين:
وهي متابعة أيضا لثناء الله تعالى على الله، وما يوم الدين إلا الوقتُ الذي يدين الله العباد بأعمالهم، أي يجازيهم، وأيام الدين واقعة في الدنيا والآخرة، وأفرد ليبين جنسه، وحين تحدّث تعالى عن مالكيته وحسابه على الأعمال، قال:
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} {14} الفتح
وقال أيضا:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}{40} المائدة
وقال في معرضِ الكلام على الجزاء:
{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }{33} الأنفال
وقال:
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }{105-106}التوبة
وقال:
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ }{54} الإسراء
وكلُّ الآياتِ تفتحُ باب الأمل والرجاءِ للعباد ليرجعوا ويتوبوا إليه تبارك وتعالى، ولذلك جعل هذا الوصف من الثناء عليه تبارك وتعالى.
إياك نعبدُ وإياك نستعين:
إنه لمن مزلزلات العارف بربه أن يستشعرَ حركة لسانه بالكلام العلي الذي تنزّل فأنطق الله تعالى به هذا اللسان، قال تعالى:
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }{3- 4} الزخرف
فأخبر عن كلامه العلي الحكيم المنزّه عن الحروف، الذي تنزّل إلى اللسان البشري في مظهرٍ لغويٍّ عربي، وجعل الإنسان مستمعا تارة لهذا الكلام المتنزّل وليس مُخاطِبا مع أنه يتحرّكُ بلسانه، وجعله تارة أخرى في محلِّ خطابِ العبدِ لربّه، من باب التنزلات المتفرّدة، في المنازل المتعددة، وهنا يظهرُ التنزيلُ على لسان العبد بصورة خطابه لربه في قوله تعالى ( إياك نعبد ) فيخاطبُ مَظْهرُ البشرية بالتنزيل جلال الربِّ المنزِّلِ أن لا معبود سواكَ يستحقُّ العبادة بحق، ولهذا فإنَّ المظاهرَ البشريةَ التي الـمَرضيَّة التي أظهرتَها للعيانِ تجدد عهدها بأنك الربُّ الذي تتوجه إليه وحدَه بالعبادة.
ويستمرُّ ظهور الخطاب على لسان العبد في قوله تعالى: ( وإياك نستعين ) تعريفًا بأنَّ العبادة ممتنعةُ الظهور على العبد من غير إمداد الإعانة الإلهية، ولذلك أتبع عهد العبادة بعهد إفراد الاستعانة.
إهدنا الصراط المستقيم:
ويستمر ظهور الخطاب على لسان العبدِ في قوله تعالى: ( إهدنا الصراط المستقيم ) فكانَ الطلبُ الهداية إلى الصراط المستقيم.
فالهداية هي الدلالة على الخير، والصراط المستقيم أورده بمسمياتٍ متعددة:
o فهو الحقّ، وغيره الباطل، قال تعالى: {قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ }{35} يونس
o وهو السبيل، أي الطريقُ الموصلةُ إلى معرفة الله تعالى ورضوانه، قال تعالى: {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ }{4}الأحزاب
o وهو الأقوم وغيره المنحرفُ المعوجّ، قال تعالى: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }{9 } الإسراء
o وهو الرشادُ وغيره الضلال والتيه والضياع، قال تعالى: { يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}{2} الجن
o وهو النور وغيره الظلمةُ والوحشة والكدر، قال تعالى:{ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء }{35} النور
o وهو الذي يهدي به الله عباده إلى أسباب النجاة والأمان، قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } ( 16) المائدة ، وأسباب النجاةِ قولٌ نافع، وعملٌ مرفوعٌ ورافع، وحالٌ مجموعٌ بالله وجامع.
أما موانع هداية الله تعالى البشرَ إلى الصراط المستقيم فهي:
 الكفر بالله تعالى، قال تعالى: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }{264}البقرة
 الفسوق، قال تعالى: وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {108}‏ المائدة
 الظلم، قال تعالى: وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {258} البقرة
 الخيانة، قال تعالى: {وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ }{52}‏يوسف
 الكذب، قال تعالى: إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ{3} الزمر
 الإسراف، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ {28} غافر
صراط الذين أنعمت عليهم:
وليتحول الصراط المستقيم الأقوم النوراني إلى مَثَلٍ عملي واقعي مشهود لا بُدَّ من ظهوره في الكائن الأقوم خلقا واستعدادا، المصنوع في أحسن تقويم، ولذلك نسب هذا الصراط إلى الذين ظهر فيهم قولا وفعلا وحالا، وعدد منهم أربعة أصناف بقوله تعالى:{فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ }{69} النساء
فالأنبياء نموذجٌ محفوظٌ معصومٌ أخرجه الله تعالى للناس ليكونوا الأسوة والقدوة، والصدّيقون أهل التسليم لله تعالى في كلّ ما أراده شريعة، وفي كُلِّ ما أنزله من قضائه وقدره في كونه، والشهداء من قدّم جسده قربانا لربه فأشهده الحق تعالى ما يسعد روحه ويعرجُ بها في معارج القرب، والصالحون من صلَحت أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم فكانت موافِقَةً لما يرضي الله تعالى.
فالصنف الأول أنعم عليه بالاصطفاء، والثاني أنعم عليه باالتوكل والاستسلام، والصنف الثالث أنعم عليه بإسباغِ اسمٍ من أسمائه تعالى عليه، والصنف الرابعُ أنعم عليه بالتوفيق إلى الطاعات والقربات.
وأظهر لنا علامة من علامات الذين أنعم عليهم من كل الأصناف بقوله تعالى:
{أوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا }{58} مريم
فالسجود فناء النفس في حضرة عظمة القدس، والبكاء انفعال القلب لجلال الحق وجماله.
كما أنه تعالى بيّن نتيجة هذا الإنعام في السلوك العملي بقوله تعالى:
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ }{17} القصص
فتركُ المناصرة للمجرمين علامة الإنعام، وبشارة الإكرام.
غير المغضوب عليهم:
الغضب من صفات أفعاله تعالى، وهو في حق الله تعالى ليس انفعالا نفسانيا، تعالى الله عن ذلك بل هو التخويف من الانتقام، فإنه لما طلب في الخطاب التوفيقَ إلى صراط الذين أنعم عليهم، التجأ إليه تعالى رهبة من أن يوقعه في الخذلان بسلوك سبل المغضوب عليهم، الذين أوعدهم بعذابه وعقابه.
وليس صحيحا اختصاص اليهود دون غيرهم بصفة المغضوب عليهم، فإن القرآن الكريم ذكرهم في المغضوب عليهم، وذكر غيرهم أيضا في المغضوب عليهم.
أما ذكره لليهود في المغضوب عليهم فمنه قوله تعالى:
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} {60}المائدة
ولكنه تعالى ذكر غيرهم أيضا فيمن غضب عليه، فمنه ذكره لغضبه على عاد، قال تعالى:
قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ { 70 - 71 } الأعراف
ومنه ذكره تعالى لغضبه على المنافقين والمشركين من عبدة الأوثان، قال تعالى:
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {6} الفتح
ومنه ذكره تعالى لغضبه على الذين يجعلون همهم وجهدهم إثباتَ بُطلانِ القرآن والتشكيكَ في الله ورسوله بالحجج الكاذبة الباطلة، قال تعالى:
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ {16} الشورى
ومنه ذكره تعالى لغضبه على قاتل المؤمنين عمدا، قال تعالى:
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ {93} النساء
ومنه ذكره تعالى لغضبه على الفارين من الزحف في جهاد العدو، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ {15} وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ {16}‏ الأنفال
ومنه ذكره تعالى لغضبه على المرتدين عن الإسلام، العائدين إلى الكفر تفضيلا للدنيا على الآخرة، وللعاجل على الآجل، قال تعالى:
مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {106} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ {107} النحل
ومنه ذكره تعالى لغضبه على المرأة الحالفة بالله تعالى تكذيبا لزوجها بعد رؤيته لها وهي تخونه، قال تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ {6 -9 } النور
فتحصّل أن السبل التي يسير عليها المغضوب عليهم متعددة، قديما وحديثا، جنبنا الله تعالى سلوكها، وأبعدنا بفضله عن انتهاج شعبها إنه نعم المجيب.
ولا الضالين:
الضلالة مراتب:
- فأولها النسيان، وقد ورد معناها في قوله تعالى حاكيا عن كليمه موسى: ( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) {20} الشعراء ، أي وأنا في حالة النسيان، وقد أكد القرآن تكرار النسيان عند الكليم بقوله تعالى حاكيا عنه: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا {63} الكهف
وقال في حق آدم عليه السلام: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا {115}طه
والنسيان مرتبة دون الخطأ، قال تعالى:
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا {286}‏ البقرة
وقال:
وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {68}‏الأنعام
فأخبر أن صحبة الظالمين صارفة عن الذكر إلى النسيان.
وقال: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ {24} الكهف
وثانيها: الجهلُ بالشيء وعدم معرفته، والعرب تقول: ضَلَلْت المَسْجدَ والدارَ إِذا لم تعرف موضعهما.
وقال أبناء يعقوب لأبيهم: كما في قوله تعالى: تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ {95} يوسف ، أي لفي ذهابٍ وبعدٍ عن الصواب.
وقال تعالى:
"ووجدك ضالا فهدى" [الضحى: 7] ومعناه في قوله تعالى: "ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان" [الشورى: 52]. ‏
وثالثها: الضلالُ السلوكي بسلوك غير الطريق المطلوب.
قال تعالى:
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ {140} الأنعام
وقال: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا {36} الأحزاب
ويكون هذا الضلال السلوكي بغير علم، لكنَّ الأشدَّ والأضلَّ أن يكون مع وجود العلم.
قال تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ {119} الأنعام
لكنه قال أيضا: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ {23} الجاثية
وفي الحديث المتفق عليه: يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ.
ورابعها: الضلال الاعتقادي: وهو ضد الهداية والإيمان.
قال تعالى: وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ {108} البقرة
وقال تبارك وتعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا {136} النساء
ويتبين مما تقدم أن الضلال وصف لا يختص بالنصارى أيضا، كما أن وصف المغضوب عليهم لا يختص باليهود، فقد وصف الله تعالى اليهود أيضا بالضالين.
وحكى على لسان موسى عليه الصلاة السلام قوله في حق قومه: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ، أَلَّا تَتَّبِعَنِ}.
اللهم جنبنا الضلالة، واهدنا سواء السبيل.
آمين:
ذهب بعضهم إلى أنّ معناها استجب.
وذهب غيرهم أنه من أسماء الله تعالى التي تتكرر في كل الشرائع السماوية، وكأن العبد بعد الدعاء في الفاتحة يقول يا الله .
اللهم افتح لنا أبواب كل الخيرات، وقنا السيئات ومن تق السيئات فقد رحمته.