قال تعالى موجها عباده إلى طريق الفرج:
فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي : خلاصة التربية الإيمانية تتحقق حين تتحول خشية الإنسان من المخلوق إلى خشيةٍ من ربه، ولا يكون هذا إلا عند إفراده سيدَه ومولاه في قلبه بالتوجه إليه والصدق والإخلاص له، وقد قال الخليل الحنيف إبراهيم: ( فإنهم عدو لي إلا ربَّ العالمين ) فأخلص وتخلّص.
وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ : وتمام النعمة اتحادُ المؤمنين وانتشار تآخيهم، وزوالُ الشحناء والبغضاء بينهم.
قال تعالى: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) {103} آل عمران
وقال: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ) {3} المائدة
فكان كمال دينهم باجتماع الاستقامة الشرعية في ظواهرهم مع حقائق الإيمان في بواطنهم.
وكان تمام النعمة باتحادهم.
وكان الرضى باتخاذهم الإسلام منهجا ودستورا.
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ : أي لعلكم إذا تحقق فيكم الأمران السابقان المذكوران ( خشية الله وحده – واتحادكم ) تهتدون هدايةً مثل الهداية التي تحققت في الصدر الأول الذي بعث فيه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه حين تلا على أصحابه آيات الله، وزكّاهم بأحواله، وعلّمهم أسرار الكتاب الكريم، وحكمة تطبيقه في الظرف الزماني والمكاني المناسبين، وعّلمهم ما لم يكونوا يعلمونه من إدارة الإنسان لبني جنسه الإنساني وفق هدي الرحمن.
وستبقى هذه الهداية متكررة حين تحققون فيكم الخشية لله تعالى وحده، مع الاتحاد الإيماني الذي يحمل إليكم نفحة السر المحمدي.
وهل أزال ريحنا وأهلك قوتنا إلا تنازُعنا واختلافنا في السلوك، وخشية قلوبنا لغير مولانا الواحد سبحانه؟
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ : ويقابلها: ( نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ ){67}التوبة ، أي أهمل تأييدهم، وترك الاعتناء برعايتهم وتولّي أمورهم، ووكلهم إلى نفوسهم.
ولكنهم حين جعلوا توجههم إلى الله، وصيّروا توكلهم واعتمادهم عليه، وحولوا حياتهم ومماتهم فكانا من أجله وفي محبته ومرضاته، اعتنى بهم، واصطنعهم لنفسه، وألقى عليهم محبته، ورضي عنهم وتولى شأنهم.
وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ : وشكره استعمال نعمه فيما خلقت له، وكفران نعمه استعمالها في معصية الله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ: علم الله تعالى أنَّ المؤمن ستواجهه في طريق الحق الذي يسير عليه عقبات كثيرة.
فهو يحاولُ توجيه قلبه إلى الله تعالى وحده، لتكون له خشيته وحده، ولكنَّ العادة المستحكمة وسلطنة الأسباب المحسوسة تغزو قلبه، فهو في صراعٍ لتحقيق التوحيد الباطن الخالص.
وهو أيضا يجتهد لينخرط في دائرة الاتحاد الإيماني، لكنّ صراع النفوس يعكّرُ صفو الطريق إلى ذلك الاتحاد، ويبقى مجتهدا في طريق الاتحاد الإيماني فيتحمل رعونات إخوانه، ويتواضعُ لهم مع إيذائهم له، ويؤثرهم على نفسه رغم تجاذباتهم للمرغوبات.
فهو في جهادين باطنٍ وظاهر، والمعيقاتُ في هذين الجهادين كثيرة، والمثبطات والأثقال كبيرة، فهو لذلك يحتاج إلى الإعانة والتثبيت، فدلّ الله تعالى المؤمنين على أسباب الإعانة التي كلفهم بها وهي مختصرة بكلمتين ( الصبر والصلاة ) فالصبر تحمُّلٌ تكرهه وتقاسي فيه النفوس، والصلاة اتصالٌ روحاني بخالق العون، قد يحوّلُ ذلك التحمّل إلى صبرٍ جميل.
وأخبر المؤمنَ أنه سيكون معه مؤيدا ومعينا إن هو أخذ بهذين السببين ( إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ).
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ : وهكذا أخبر الله المؤمنين بأن جهادهم وصبرهم قد يصل إلى درجة القتل، لكنْ طالما أن هذا القتل كان في الله لا في رغبات النفوس فإنه سيكون انتقالا من حياة بائسة إلى حياة كريمة عزيزة سعيدة في رعاية الله وكرامته.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ : ويستمرُّ في عرضِ صورِ التحمِّلِ والأثقال المعترضة في طريق الإيمان، فيذكرُ الخوف، والإنسانُ مهما كانَ قويا فإنَّ حُكْمَ بشريته يبقى مُلازمًا له، ولا عجبَ أن يقول موسى عليه السلام ( وهو الرجل القوي) لفرعون المتسلط: (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ){21} الشعراء ، لكنَّ هذا الخوفَ يكفِّرُ السيئات ويرفعُ الدرجات.
وَالْجُوعِ : وقد جاع سيد الكائنات وحبيب الله وتحمّلَ وصبر.
وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ : والبلاء قد يكون في نقصها وقد يكون في زيادتها.
وَالأنفُسِ : فيفارقُ الإنسانُ أحبابه.
وَالثَّمَرَاتِ: فلا يبقى لديه من التحسينيات شيء.
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ: وهذا إكرامٌ رباني عظيم، لأنه أرسل البشارة مع حبيبه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه إلى الصابرين.
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ : مهما كان نوعها مما تقدم ذكره أو مما لم يذكر، فصبروا وتحملوا.
قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ : وطالما أننا لله ملك لله فإن المالك لا يسأل عما يفعله في ملكه، ونحن راضون مستسلمون له.
وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون : فلا نقضي في شؤوننا أمرا حتى نرجع إليه فيه، فيكون سلوكنا وفق إرشاده وهديه.
أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ : لهم من الله تعالى زيادة التقريب.
وَرَحْمَةٌ : أي أمانٌ وسلام.
وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ : الذين اهتدوا إلى طريق الفرج. {150- 157}البقرة |