بعد صدماتٍ لا تعدُّ ولا تحصى تعرّض لها المصطفى من قومه ومن الناس حتى كاد قلبه الشريف يقترب من الاستيئاس، وكادتْ نفسه الكريمة تشقى بحزنها وآلامها نزلت سورة ( طه ) لتخرجه صلوات الله وسلامه عليه وتخرج من يتَّبِعه من أمته من ظلمة الليل.
وقال الله العظيم له: ( طه ، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) وكيف تشقى والذي يعتني بك هو من خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى، وهو الرَّحْمَنُ الذي عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، والذي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وهو مطلعٌ على ما تعانيه لأنه يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى.
وإذا أردتَ مثالا عمليا يُظهرُ ما يفعله ربك مع أحبابه فتأمل سيرة النبي موسى الذي كان ذات يوم في الليل سائرا ساهرا حائرا مستوحشا خائفا، فأظهر له العظيمُ الجليلُ النار المؤنسة، فلما جذبه إلى موضع المكالمة عرّفه بجلاله وكماله، وأفهمه أنَّ الأسباب التي منها عصاه ويده ما هي إلا آياتٌ يوجهها خالقها فيما يريد، فلما استصغرها في حضرة الجليل العظيم وجهه إلى فرعون الذي ما هو إلا سببٌ من الأسباب بعدما توهّم الناسُ أنه يختلف عنها، ووقعَ في نفوسهم أنه خارجٌ عن قبضة ربه الجليل، أو أنه يفعل ما يريد، لكنَّ الله تعالى يريد خلقه عبادا له وحده.
فالله الذي حول العصا أفعى وأعادها عصا جعل فرعون الطاغية مربيا لموسى كليم الله، وها هو يعيده إليه متحديا ومذكّرا له بضعفه وفقره وحاجته إلى ربه، مع كون المال والسلطان من حوله كالهالة... لكن يكفي عبد الله أن يتذكر أنه تعالى مَعَه يسْمَعُ وَيرَى، ليكونَ أقوى من كل قوي.
وجاء فرعونُ بكلِّ أنواع المكر، لكنّه كان الخاسر الهالك.
واعتنى موسى طويلا طويلا بقومه داعيا ومذكّرا لكنّهم كانوا يحتاجون إلى الإنضاجِ أكثر وأكثر، ولهذا قال الله تعالى له ولكلِّ الدعاة من بعده (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ ) .... فإنهم ما يزالون بحاجة إلى تذكيرك وهديك.
أما المجرمون فإنهم بين هلاكَين اثنين ... هلاك الدنيا ... وذلّ الآخرة: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا)
فقط ... تذكّر من هو الذي يؤيّدك يا رسول الله ويؤيدُ متّبعيك إنه الذي ( ينسف الجبال نسفا ) فهل المجرمون أعتى من الجبال؟؟؟
يكفي المؤمن أن يتذكّر أنه قد خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا، ليكون عادلا ومحسنا.
ويكفي أهل الحق أن يتذكروا أن النور الرباني محفوظ، وما عليهم إلا أن ينتظروا قليلا...
ينبغي أن لا يستعجلوا (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) ... وينبغي أن يعلموا أنَّ الإنسانَ كريمٌ عند الله ... لأنه من أبناء آدم الذي سجدت له ملائكة الله .... ولكنّه حين ينسى مكانته يدخل مع الهالكين ... وعلى الناس أن يتذكروا أنه تعالى أهلك قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ الذين كانوا يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ متجبرين إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى...
وحتى لا يقع قلبُ المصطفى ومن يتّبعه في الحزنِ والشقاء بالألم قدّم الله تعالى أربع نصائح:
1- فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
2- وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى
3- وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى
4- وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
وبعدها استأنس بالله ولا تلتفت إلى شيء ... وأعلن للناس أن المطلوب الانتظار فقط:
( قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى )
وهكذا أخرج الله تعالى من قلب الليل انفجار صبح الأمل |