كنت تحدثت في الأسبوع الماضي عما وردفي كتاب الله تبارك وتعالى أو بعضه من طرق ارتقاء النفس.
وكنت أنوي أن أتحدث عن طرق انحطاطهاكما ورد في كتاب الله، لكن موافقة هذا اليوم لذكرى إسراء سيدنا محمد صلى الله عليهوسلم ومعراجه جعلتني أنتقل من الارتقاء إلى العروج فلا يمكن لنا أن تغيب قلوبناوارواحنا في مثل هذا اليوم ، عن معنًى أصيل كبير في منطلقات أمتنا وفي سيرة إمامهاوسيدها الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وثمة تناسب بينالارتقاء والعروج.
و أتلمس من خلال الإسراء والمعراج رمزيةوإشارة؛ فإسراء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نفهم منه أن الدعوة إن هي لمتتحرك في المكان ومن المكان إلى المكان حاملة مضموناتها من النور فلن يكون لهانماء ولن يكون لها تأثير.
فالإسراء في رمزيته يمثل حركة الدعوة.
أما المعراج فإنه برمزيته يسوقنا إلىمعنى عروج الروح الذي تطرق فيه الروح أبواب السماء،وتجول في ملكوتها.
ورحم الله أبا سليمان الداراني الذي قالكلمات أعجبت وأثارت الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى حتى قام عند سماعها ثلاثًاوقعد، كما يروي تليمذه أحمد بن أبي الحواري: (إذا اعتادت النفوس ترك الآثام جالتفي ملكوت السماوات والأرض ورجعت لصاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها معلمعلمًا).
أفهم من ارتباط الإسراء بالمعراجارتباط حركة الدعوة بصفاء الروح. أي تلازم الحركة مع التصوف، فلا قيمة لحركية ليسفيها تصوف، ولا قيمة لتصوف ليس معه حركية.
لا قيمة لتصوف يبتعد عن ساحاتالدعوة، ولا أثر لدعوة لا يكون فيها رقي الروح وعروجه، ليكون متحققاً وهو يدعو إلىالله سبحانه وتعالى بصفاء روحه.
ولطالما تحدثنا في حديث الجمعة عنالدعوة ومقتضياتها ولوازمها وحركتها، لكن مناسبة اليوم تسمح بالحديث عن الجانبالآخر جانب عروج الروح، الذي نأخذه من رمزية المعراج الذي حصل لسيدنا محمد صلىالله عليه وسلم.
الإسراء والمعراج اللذان حصلا بالجسدوالروح لسيد الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تؤخذ منه رمزية دائمة مستمرةللأمة لتتحرك بأبدانها بالدعوة، ولتعرج بأرواحها إلى عالم الصفاء والمعاني.
ولن أقتبس الحديث من حياة الأولياءوالصالحين رضي الله تعالى عنهم، لكنني سأقتبسه من حياة أفضلهم وهم أصحاب سيدنامحمد صلى الله عليه وسلم، وأصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم الجانبان؛جانب الدعوة حتى طرقوا أبواب الشرق والغرب بالدعوة، وجانب صفاء الروح الذي منخلاله صفوا فوق المادة ومعاييرها، وظهرت آثار روحانيتهم رضي الله تعالى عنهم.
ومن ذلك رؤية سيدنا عبد الله بن عباسرضي الله تعالى عنهما لرجل كان يجلس إلى جانب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان العباسموجودًا في ذلك المجلس، أما ابن عباس فكان يرى أن المجلس فيه سيدنا محمد صلى اللهعليه وسلم ومعه ثلاثة رجال، وأما العباس فإنه لا يرى مع سيدنا رسول الله صلى اللهعليه وسلم إلا ولده ونفسه، و يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجل الذي يجلسإلى جانبه كما يرى ابن عباس يكلمه ويناجيه، ويستغرب العباس رضي الله تعالى عنهلماذا يلتفت عني رسول الله صلى الله عليه وسلم!
ويخرج ابن عباس وأبوه، ويقول العباسرضي الله عنه أما رأيت لفعل ابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم كيف كان يلتفت عنيوأنا أجلس إلى جانبه فيقول ولده عبد الله يا أبت كان يكلم رجلاً، وكان مشغولاً بمناجاتهوالحديث معه فاختصما إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال العباس يقول ابن عمكإنك كنت تناجي رجلاً، قال سيدنا رسول الله:
(يا عبد الله أوَرأيته قال نعم قال:إنه جبريل) وهذا حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده والطبراني وغيرهما، قال له إنذلك جبريل وهو الذي شغلني عنك.
وعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالىعنهما الصديقة ابنة الصديق رضي الله عنهما تروي أنها سمعت صوت رجل وسمع النبي صلىالله عليه وسلم صوته فوثب وثبة شديدة إليه وخرج إليه، تقول عائشة فأتبعته نظريفإذا هو دحية الكلبي، (أي صورته صورة دحية الصحابي) فلما دخل عليها رسول الله قالتعائشة: لقد وثبت وثبة شديدة ثم خرجت أنظر فإذا هو دحيه قال:
(أورأيته قالت نعم قال ذلك جبريلعليه السلام أمرني أن أخرج إلى بني قريظة) والرواية أخرجها أبو نعيم في دلائله.
ولننظر إلى تلك المقارنة: عبد الله بنعباس يرى والعباس لا يرى، إذاً فليست رؤية حسية إنما هي رؤية روحانية، فلو كانترؤية حسية لاشتركا في الرؤية.
أنس خادم رسول الله صلى الله عليهوسلم يروي كما أخرج أبو نعيم في دلائله أنه كان يرى موكب جبريل الذي يقود الملائكةعليهم السلام حينما خرج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب إلىبني قريظة، فكان يرى غباراً ساطعاً منيراً.
يقول: كأني أنظر إلى غبار ساطع موكبجبريل عليه السلام حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة.
أما الصحابي الحارث بن مالك فكانيتراءى عرش ربه ويتراءى الجنة والنار فقد أخرج ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه أنرسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد والحارث بن مالك رضي الله عنه راقد فحركهبرجله وقال:
(ارفع رأسك فرفع رأسه قال: بأبي أنت وأمييا رسول الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت يا حارث بن مالك؟ قال:أصبحت يارسول الله مؤمناً حقاً قال: إن لكل حق حقيقة فما حقيقة ما تقول؟ قال:عزفت عن الدنيا وأظمأت نهاري وأظمأت ليلي وكأني أنظر إلى عرش ربي وكأني أنظر إلىأهل الجنة فيها يتزاورون وإلى أهل النار فيها يتعاوون، فقال النبي صلى الله عليهوسلم: أنت امرؤ نور الله قلبك عرفت فالزم)
إنها الروحانية التي جعلت الحارث بنمالك يتراءى عرش ربه ويتراءى الجنة والنار.
هذه الروحانية التي يحرم منها من قُيِّدَفي عالم الحس بقيود المادة وأغلالها.
أما سلمان الذي قال الحبيب المصطفىصلى الله عليه وسلم في حقه (سلمان منا أهل البيت) فإنه كلم ملك الموت أخرج ذلك أبونعيم في الحلية.
دخل سلمان على رجل يعوده وهو في النـزع يلفظ أنفاسه فقال: يخاطب ملك الموت أيها الملك ارفق به فأجاب الرجل الذي كانتروحه تقبض: يقول الملك إني بكل مؤمن رفيق.
مكالمة يكلم فيها سلمان ويسمع ملكالموت وينقل الذي يحتضر عن ملك الموت.
إنها الروحانية التي حرم منها من قيدبالمادة.
وعمر الذي قال المصطفى صلى الله عليهوسلم في حقه: (إن يكن في أمتي محدثون فعمر منهم).
عمر رضي الله تعالى عنه خاطب الموتى فأجابهأحدهم.
أخرج ابن أبي الدنيا والسمعاني أنعمر بن الخطاب مر ببقيع الغرقد على ساكنيه الرضوان والسلام فقال: السلام عليكم ياأهل القبور.
أخبار ما عندنا أن نسائكم قد تزوجت,ودُوركم قد سُكنت, وأموالكم قد فُرِّقت.
فأجابه هاتف من المقبرة:
أخبار ما عندنا: أن ما قدمناهوجدناه, وما قد أنفقناه ربحناه, وأن ما خلفناه خسرناه.
وعثمان: الشيهد الثاني من الخلفاء,والخليفة الراشيد الثالث, يرى في منامه بسبب صفاء روحانيته في منامه سيدنا محمدًاصلى الله عليه وسلم, فيخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قُرب وفاته واستشهاده.
أخرج الحاكم أن عثمان بن عفان رضيالله عنه أغفى في اليوم الذي قُتل فيه, فاستيقظ فقال: لولا أن يقول الناس تمنىعثمان الفتنة لحدَّثتكم. قال: قلنا: أصلحك الله, فحدِّثنا, فلسنا نقول كما يقولالناس.
فقال: إني رأيت رسول الله صلى اللهعليه وسلم في منامي هذا, فقال: إنك شاهد معنا الجمعة.
أي ستكون عندنا الجمعة.
وفي رواية أخرى للحاكم:
أصبح فقال: إني رأيت النبي صلى اللهعليه وسلم في المنام الليلة, فقال: يا عثمان أفطر عندنا.. فلما أصبح عثمان؛ أصبحصائماً, وعَلِم أنه سيُقتل وهو صائم, ليفطر عند حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم..
فقُتل يومه ذاك.!
إنها الروحانية, التي كدنا أنننساها, أيها الإخوة..
إنها الروحانية التي منشؤها صفاءالروح والقلب من الذنوب, والتوجه إلى علَّام الغيوب.
هي الروحانية التي منشؤها صدق التوجهإلى الله.
الروحانية التي تجعل الإنسان يكونبجسده مع الناس؛ لكن قلبه معلَّقٌ بربهم.
رحم الله رابعة, كانت تنشد وتقول:
ولقد جعلتك في الفؤاد مُحدِّثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم منِّي للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
ولكني لا أحب أن أغادر الحديث عنالروحانية إلا بعد أن أُنبِّه إلى بعض الضوابط.
صحيح أننا نتحدث عن ضرورة الروحانية,وعن ضرورة الارتقاء فوق الحس بالروح, لكن من ضوابط الروحانية, أو من ضوابط حالةالعروج هذه:
أولًا- أن لا تكون الرؤى الملكوتية,أو خوارق العادات, التي ربما تصاحب الروحانية؛ مصدر تأكيد لفضل الرائي, لأن خارقالعادة يكون للصادق, ويكون للكاذب..
ففي خوارق العادات الكرامة, وفيخوارق العادة الاستدراج.
فخارق العادة لا يُعتبر دليلاً علىفضل الرائي.
أنت مدعوٌ إلى الروحانية, لكنك مدعوٌفي ذات نفسك, وما يكون عندك لا يدلُّ على فضلك, ولا يصلح أن يكون دليلاً علىالفضل.
ثانياً: هذه الرؤى التي قد تصاحبالروحانية, أو خوارق العادات, ليست مصدر تشريع, ولا مصدر توزيع للأوامر.
فقد شاع بين الجهلة قول بعضهم: إنيرأيت كذا.., وقيل لي كذا.., وآمركم بكذا...
وهذا هو من قبيل الافتراء على الله؛لأن المشرع هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, فلا ينبغي لأحد من بعده أن يشرِّع,ولا ينبغي لأحد من بعده أن يُصدر أمراً, لأن الشريعة تركنا عليها سيدنا رسول اللهكالمحجة البيضاء, ليلها كنهارها.
ثالثًا: المرئيات هذه محكومة بثوابتالرسالة الربانية المحمدية, لا تملك إضافة, ولا تملك إلغاء لثابت من ثوابتها؛ لأنالله سبحانه وتعالى قال يخاطب الأمة:
(وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْتَهْتَدُونَ)[الأعراف: 158] أي اتبعوا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم (لَعَلَّكُمْتَهْتَدُونَ)
وقال الوَليُّ الشاذلي أبو الحسن:
إذا عَارض كَشْفُك الكتاب والسُنَّة؛فاضْرب به عَرض الحائط؛ لأن الله ضمِن لك العصمة في الكتاب والسنة, ولم يضمن لكالعصمة في الكشف والإلهام.
العصمة في: (قال الله) و(قال حبيبهمحمد صلى الله عليه وسلم) ولا نحيد عنهما.
الروحانية مطلوبة, أما الميزانوالمعيار: فالكتاب والسنة.
فإذا فهم الإنسان هذه الضوابط؛ فلاعليه بعدها إن هو توجه إلى الروحانية, مُتأسياً بسادة الأمة, أصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم.
فتنة آخرة الزمان هي فتنة خارق عادة..فانتبهوا..
إنها فتنة المسيح الدجَّال, الذييأتي بخوارق العادات..
والآخرون من غير المسلمين لا يملكونميزاناً, لا يملكون معياراً, ولا يملكون دليلاً عقلياً, فيسخِّرون الأوهام,وينشرونها بين الناس..
ينشرون أوهام الدجاجلة, باسم خوارقالعادات، ويغْتر الناس.., ويذهب بعضهم يميناً وشمالاً.
أعجب من أمة فيها كتاب الله, وفيهاسنَّةُ حبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وأعجب من بلاد إسلامية سرعان ما تشيعفيها الشائعات, ويقال: صنم في كنيسة تكلَّم!
والشائعاتُ في بلادنا في أمة إسلاميةتنتشر كالنار في الهشيم..
لكنني أقول: إن هذا لفقدانالمعايير..فأمتنا لا تمتلك المعايير..
أمتنا تدخل المسجد لتصلي, ولا تدخلالمسجد لتتعلم..وتلك هي مصيبة..!
عليها أن تدخل المسجد لتتعلم وتصلي,لا أن تدخل إلى المسجد لتصلي وحسب.
فالجامع هو مصدر العلم والمعرفة, هوينبوع المعرفة, وهو المنطلق..
إن المعراج كان منطلقه مسجد, فقد عرجسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من مسجد, وكان إسراؤه بين مسجدين..
فمتى نعرج من المسجد إلى المعرفة؟
ومتى نعرج من الجامع إلى النهضة؟
ومتى نعرج من الجامع إلى الحضارة؟
اللهم ردَّنا إلى دينك رداً جميلاً,واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله. |