إرادة المؤمن في حياته هذه متوجهة إلى الآخرة، فهو يصرف كل ما حباه الله تعالى من النعم والعطايا في مرضاته وفي سبيله، وهو في نفس الوقتِ يلاحظُ واقعه المادي الدنيوي، ومقتضياته وأساليبَ المعاملات فيه، ويكون سلوكه فيه منضبطا وفقَ مُراد ربه الشرعي.
وبهذا التوازن بين الروحانية النورانية الأخروية، والمادية الكثيفة الدنيوية يكون المؤمنُ الإنسانَ الوسطَ الشاهدَ على راهبٍ اعتزل الناسَ راغبا في الروحانية، أو مادي انغمس في الحسّ فلم ير غيره.
بهذا التوازن يظهر الإنسان الوسطي المستوعب.
قال تعالى:
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا (77)القصص
وقد امتدح الله تعالى إمام الناس خليله إبراهيم الذي كانَ ( المصطفى في الدنيا ) و ( الصالح في الآخرة) فكان بهذين محققا لذلك التوازن بين الأمرين المذكورين، قال تعالى:
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(130)البقرة
اصطفيناه في الدنيا بالاستقامة على أمر الله والتسليم لمراده والحياة والممات من أجله.
وكان في الآخرة في رتبة الصالحين الذين ارتفعت منازلهم بفضل الله وكافأهم الله تعالى بوعد ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)
وأثنى على كلمته وروحه المسيح الذي كان ( الوجيه في الدنيا ) و (الوجيه في الآخرة) فكان بهذين أيضا محققا التوازن بين الأمرين المادي والروحاني، قال تعالى:
إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ(45)آل عمران
كان ذا مكانة رفيعة في الدنيا ووجها من وجوه الصفاء والنقاء بسبب شدة تعلقه بالله وترفعه عن المادة واستخفافه بها، وبعبادها، وكان وجيها ذا مكانة ورفعة في الآخرة لأنه يكون في رتبة المقربين على مقاعد المحبة والصدق في حضرة الجميل الجليل.
وانظر إلى التوصيف القرآني المقارنِ بين اثنين: أحدهما آثر البقاء مع المحسوس وحده، وثانيهما وقف وسطيا في التوازن المذكور، قال تعالى:
مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا {18- 19}الإسراء
من حصر إرادته في الدنيا التي تصل متعتها عاجلا إليه فيها، يملي الله تعالى له ويعطيه إياها ثم يجعله حطبا ووقودا للنار الأخروية، أما الذين وجهوا إراداتهم إلى وعد الله لأحبابه في الآخرة فسوف يجدون شكر الله تعالى ينتظرهم، وما أدراك ما شكر الله!!
الغني الكريم المخلوق إذا شكر ترى العجائب في شكره، فكيف سيكون شكر الله؟
وفي مقابل النموذج المتوازن يظهرُ في توصيف القرآن نموذجٌ مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، متأرجحٌ بينهما لا يقدر على الوقوف ثابت الهوية، فهو قلقُ النفسِ يظُنُّ الغلبة للفريق الوسطي المتوازن فيقتربُ منه، ثم تزينُ له نفسه غلبة الفريقِ الحسي الدنيوي فيهربُ إليه.... واقرأ هذا في قوله تعالى:
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)الحج
يعبد الله من غير هوية واضحة له، فإذا كانت الكفة لأهل الانحراف مال إليهم، وإذا كانت الكفة لأهل الحق طمع فيهم، ومثله يخسر في الدنيا لأن كل فريق من فريقي الحق والباطل لن يعتبره في صفه، ولن يكون له في الآخرة قيمة عند الله.
ويضعُ إعلانا واضحا تبتعدُ عنه الميكيافيللية تماما ... فهناك قومٌ حسموا أمرهم وأطاعوا ربهم ... وحددوا انتماءهم، فشهد القرآن لهم بالظفر الحميد بنعمة الله تعالى، قال تعالى:
وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا {69} النساء
فقد كانت طاعة الله والرسول في الوسائل والغايات، من غير تبرير أو انحراف أو مجاملات وقحة تخرج الإنسان عن هويته الإيمانية بالله وطاعته لرسوله.
ويضعُ أيضا تنبيها واضحا للفريق التائه الضائع الحائر في وديان نفسه وبيادي أهوائه، وذلك بقوله تعالى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا[النساء: 136].
الذي ضلَّ: أي تاه الطريق وحار بعيدا عنه، فالله تعالى يعتبر الإيمان به وبملائكته وكتبه واليوم الآخر شرط الدخول في صف المهتدين، أما الذين أعرضت قلوبهم عن هذا الإيمان فإنهم في التيه يتخبطون.
وبعد كل هذا يدلُّ الإنسان على العلة الكبرى التي تودي به إلى الهلاك وهي الانحراف عن التوازن الوسطي الإنساني بتقديم المحسوس العاجل على المكنوز المغيب الآجل، ويصف تلك اللحظة التي ينكشف فيها الغبار، وتظهر الحقيقة كالشمس واضحة في اللحظات التي يفارق فيها الإنسانُ الدنيا إلى الآخرة، وذلك بقوله تعالى:
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ، كَلَّا لَا وَزَرَ ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ، يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ، لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ، كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ { -7 21}
إذا خرج الإنسان من الدنيا إلى الآخرة يقول أين المفر؟ فيجاب لا وزر أي لا حصن لك ولا ملجأ من الله، ثم يعلم علم اليقين بما عمل في دنياه ( بصحفٍ مكتوبة وقرارة نفسٍ مبصرة زال عنها الريب والشك).
ثم يوجه الله تعالى البشر إلى حقيقة حفظه للقرآن نصا، ويبين له أن المطلوب منه تطبيق النص، ويكشف له أن العائق الأكبر لتطبيق النص هو تعلق الإنسان بالدنيا، وإعراضه عن الآخرة.
هكذا يتميز الخبيث من الطيب، ويظهر في سلوك الإنسانِ الفرقان المبين.
|