1- {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} : أقسم الله تعالى بالمنازل والمدارات التي فيها الأجرام السماوية من الشموس والنجوم والكواكب والأقمار وغيرها، وذلك لما فيها من النظام الرباني الذي خلقه الله تعالى سبحانه.
والبروج في كلام العرب: القصور.
والربط بينهما أن القصورَ الأرضية كما هي حصينة فكذلك النظام السماوي هو في غاية الإحكام فلا يمكن اختراقه أو التأثير فيه.
2- { وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ } : اليوم الذي وعَدَ الله به أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه، وهو يوم القيامة{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا} [يونس:4]
3- {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} : الشاهد: الله تعالى، والمشهود: التوحيد، قال تعالى:{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُو }[آل عمران:18] فذكر أنه الشاهد، وأخبر عن الذي شهد به.
وقال تعالى: {وكفى بالله شهيدا" [النساء: 79]،وقال: "قل أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله شهيد بيني وبينكم" [الأنعام: 19].
والشهادة نوعان:
- شهادة حقيقية، والشاهد فيها هو الله تعالى، والمشهود التوحيد (توحيده تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله) {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُو}[آل عمران:18]
- وشهادة مجازية، والشاهد فيها هو المخلوق، وأعظم الشاهدين في الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ...} [الأحزاب: 45].
والمشهود:
o إما التوحيد. كما في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {172} الأعراف
o وإما الشؤون الخلقية كما في قوله تعالى:{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه} [البقرة: 185]
4- {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ } : بمعنى لعن الذين حفروا الأخدود
والأخدود: الحفرة المستطيلة في الأرض كالخندق.
5- {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} : أي اشتمل الأخدود على النار ذات الوقود، والوقود ما توقد به النار، كالحطب وغيره.
6- { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} : كانوا جالسين حولها، وجامعين الناس لحضور تعذيب المؤمنين بها.
كانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
وهي مفصلة في صحيح مسلم في قصة الملك والغلام و الساحر.
7- {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} : حضورٌ يشاهدون جريمتهم ويستمتعون بها، فقد غابت مشاعر الإنسانية عنهم، وسبقوا الوحوش في استعداداتهم الباطنة، وهذا الصنف موجود في كل زمان، فإذا تجرد الإنسان عن إنسانيته فعل ما لا تستطيع الوحوش فعله من الأفاعيل والجرائم..
8- {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} : سبب نقمتهم وغضبهم وحقدهم أنهم لا يقبلون مؤمنا بالله العزيز أي المنفرد بسلطانه الحميد الذي ليس في سلطانه إلا ما يُحمد، وهم يريدون الناس عبيدا لمصالحهم، وأدوات لرغباتهم الشيطانية الوحشية، وهذا غير ممكنٍ الحصول عليه في هذا الصنف النقي الذي لم يخضع لغير الله تعالى ولم يقبل أن يكون عبدا لسواه.
9- {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} : الذي له ملك السماوات والأرض وهم ينازعون المؤمنين في اعتقادهم الحق هذا لأنهم يزعمون أن الملك في أيديهم وأنهم أصحابه ومستحقّوه، ولو تأملوا لعلموا أنه ينزعه نزعًا منهم حين يشاء.
والله على كل شيء شهيد، فالمخلوق وإن مَلَكَ مجازا لكنه يبقى غافلا عن ملكه إلا بالوسائط،
وإن أحاط أحاط ببعض شؤونها، أما صاحب الملك الحقيقي سبحانه فإنه بنفسه مطلع على جميع دقائق ملكه من غير استثناء، ومن غير حاجة إلى الوسائط.
10- {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} : أي الذين حاولوا صرف المؤمنين عن توجههم إلى ربهم وحده بأنواع الفتن المتعددة، وأرادوهم عبيدا لهم لا لربهم، ثم لم يتوبوا من ذلك الاستعباد، ولم يؤوبوا إلى رشدهم ويلتزموا عبوديتهم لربهم فلهم عذاب جهنم فهي التي تطّلع على الأفئدة، فإن وجدت قلبا سليما من منازعة الربوبة وقّرته وعظّمته، وإن رأت فؤادا مطموس البصيرة بالكفر والتجبّر والتكبّر كانت له بالمرصاد فأصابه عذاب الحريق.
11- {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} : الذين آمنوا يتعلقون بالعزيز المنفرد بسلطانه، ويصمدون أمام ترهيب المُرَهِّبين، ويصبرون على فتنهم، ويتواصون بالحق، فيورثهم إيمانهم محبة العمل الصالح والرغبة في السعي إليه وفيه، ومِثل هؤلاء تنتظرهم جنّات النعيم، فما فاتهم في دار الزوال مُعَوَّضٌ بما ينتظرهم في دار البقاء التي تجري من تحتها أنهارٌ من ماءٍ غير آسن، ومن لبنٍ لم يتغير طعمه، ومن خمرٍ لذةٍ للشاربين، ومن عسل مصفّى للذين صافاهم فصفَوا له، وذلك المقامُ البعيدُ في شرفه وعلوّه فوزٌ كبير، لأنه محلُّ الرّضوان، ومنزلة القرب.
12- {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} : عزز ما ذكره من ثبات أهل الإيمان بعنصر إضافي، فقد ذكر تعالى أنهم آمنوا به عزيزا حميدا، وأنه يملك السموات والأرض، وأنه شهيدٌ مطَّلعٌ على ما يجري فيها والذي فيها ظلمٌ وقهرٌ يقابله ثباتٌ وصبر، وذكر تعالى المآل في الآخرة، لكنه في هذه الآية يدعمُ العنصرَ النفسيَّ الذي يتحركُ في البواطن وهو التوقُ إلى رؤية الانتقام الدنيوي العاجل، وزوالِ السلطانِ الجائر، ولن يكون هذا إلا بوجودِ وصفِ البطش الشديدِ فوق البطّاشين، وهيمنة المهيمن فوق المتسلطين، وبوجود هذا الوصف يتقوّى الثباتُ ويكبر احتمال الفرجِ العاجل، فالانتقام الآجل مضمون، لكنَّ دكّ الجورِ العاجل محبوب، لتسود العدالة، ويعمَّ السلام.
13-{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} : فالذي بدأ حلقة ملكِ الظلَمةِ ينهيها، ويعيد حلقة أخرى مباينة لها، تخلفها وهكذا دواليك.
14- {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} : وهكذا يعطي الطاغينَ دائما فرصة التوبة والرجوعِ عن الظلم، ولا يتجلّى ببطشه الشديد وفيهم ذرة خير، فلذا قال وهو الْغَفُورُ: أي لذنوب التائبين، وأكثر من هذا أنه يفتح لهم باب المحبة والوداد ويقابلهم باسمه الْوَدُودُ.
15- {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} : وبهذا الوصف يُذكّرُ أصحابَ العروش، ومهما كانَ لأصحاب العروش أمجادٌ، فإنها أمجادٌ بائدة، وأيامٌ سائدة، أما مجدُهُ تعالى فإنه الأزلي الأبدي، وعرشُه العرشُ الباقي مهما زالت العروش.
16- {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} : فيتعلَّق المؤمنُ به واثقًا أنه لن يكون في ملكه إلا ما يريد، فإن وجدَ خيرا فهي نعمته، وإن وجد غير ذلك فهو الامتحان والاختبار.
17- {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} : ولم يكتفِ بقصة أصحاب الأخدود لبيان سنته تعالى في عباده، بل أتبعها بما فعل في أمثالهم، ممن كثرت جنودُهم، وثقلت على الناس قيودُهم، فجاء بمثالين، المثال الأول (فرعون) يبرزُ فيه طغيانُ الفرد، والمثال الثاني (ثمود) يبرز فيه طغيان الجماعة، والتسلطُ والظلمُ يدور بين هذين النموذجين.
19- {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} : بيّن النموذجين معا باختصار، فليست المناسبة مناسبة تفصيلٍ في أخبارهم.
20- {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} : وهاهنا خلاصة السورة، فالكفر في كل زمانٍ يعيشُ آفة النعامة التي تُكَذِّبُ ما لا تراه، ولا تريد رؤية ما هو آت.
20- {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} : وأصحابُ الكفر يجهلون في كلِّ الأزمانِ أنَّ الله تعالى محيطٌ بعلمه وإرادته وقدرته من حيث لا يعلمون بمكرهم الذي يمكرونه ليل نهار.
21- {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ} : بين بقوله بل الذين كفروا في تكذيب وتلاها بقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ} ، وتكريرة لـ (بل) يشير إلى أنهم مهما كذّبوا يبقى القرآن بمجده الأزلي الأبدي عليًّا قويًّا، لأنه كلامُ ذي العرش المجيد.
22- {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} : فالقرآن محفوظٌ وقد تكفَّل الله تعالى بحفظه، وهو في لوحٍ سماويٍّ محفوظ، ومنزِّلهُ خيرٌ حافظًا، وبه يُحفَظ أهله ومؤمنوه.