بسم الله الرحمن الرحيم
1- { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } : الوَيْلُ: شدة العذاب، ويستعمل في الدعاء بالتقبيح، والمطففون هم الذين يتلاعبون بالموازين لصالح مصالحهم في المعاملات والعلاقات، فيسوقون الأرباح الحسية والمعنوية لمصلحة ثرائهم أو سلطانهم أو علوهم في الأرض، ويقللون من شأن غيرهم أو ماله أو جاهه ليزداد ذلك في جانبهم.
2- { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } : فهم يكيلون بمكيالين يزيدون كل شيء لأنفسهم وينقصون كل شيء للآخرين.
3- { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } : ويضيعون حقوق غيرهم في كل شيء، فترى في آخر الأمر مجتمعا قوامه بئرمعطلة وقصر مشيد، وينعدم مفهوم التكافل والتراحم ليحل محله الافتراس والتوحش.
4- {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} : فبين سبب وقوعهم في هذه الآفة وهو نسيان بعثهم وموقفهم للحساب بين يدي ملك كل الملوك سبحانه.
5- {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} : هو يوم القيامة والفصل بين الناس حيث يقتصّ المظلوم من ظالمه ويحشر فيه المتكبرون والمتجبرون كأمثال الذر من الذل والصغار.
6- { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} : فلا قيام هناك لملك ولا لصاحب جاه أو سلطان، ولا اعتبار في ذلك اليوم إلا لعزة العزيز الأوحد الذي لا يقوم أحد يومئذ إلا لجلاله.
7- {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} : بعد أن ذكر أفعالهم ووصف قبحها وحذّر منها، بيَّنَ أنَّه تعالى بعلمه الكامل وجلال ألوهيته العظيم عالم من الأزل بما سيفعله الفجّار وما سيوفق إليه الأبرار، وجعل ذلك في كتابين مكتوبين (مرقومين) كتابٌ للفجار وضعه في محل يليق به سماه السجّين لا يطلع عليه أحد فهو مستورٌ لا يُرى ، وكتابٌ للأبرار وضعه في محلٍّ سماه عليين يشهده أهل قربه ومحبته، وهذا الأمر مندرجٌ في مسألة القضاء والقدر التي اعتقدها أهل السنة والجماعة وأنكرها أهل البدع والضلالة كالمعتزلة وأشباههم، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }[الحديد: 22]
وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ فَقُلْنَا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا فَقَالَ أَصْحَابُهُ فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَقَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا ثُمَّ قَالَ فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنْ الْعِبَادِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ اهـ أخرجه الترمذي.
ولا تناقض عند أهل السنة بين الإيمان بالقدر الذي هو تسليمٌ قلبي بأمرٍ غيبي والانفعال العملي للتكليف الشرعي الذي محله الحواسُّ والجوارح، كما هو معلومٌ في كتب العقائد.
8- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} : وما أدراك: عبارةُ تفخيمٍ وتعظيم ، والسجّين: الكتاب الكبير المحجوبُ المسجون الذي من مفرداته كتاب الفجار، فلا يطلع عليه أحد، وقد يكون ذلك من اسمه تعالى الستّار.
9- {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} : أي مكتوبٌ فيه تفصيلا ما سيفعله الفجّار، ومكتوب فيه ما يتعلق بهم.
10- {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } : وهكذا مدرسة القرآن تنقّل القارئ بين الانفعال للتكليف والخوف من القدر، أو الرجاء فيه.
11- { الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} : أي بيوم الحساب والجزاء.
12- { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} : الطغيان والعدوان يقود إلى التكذيب بسبب ما يقع منه على القلب من الحجب، قال تعالى:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11]، فكان الطغيانُ سبب التكذيب ولذا قال في هذه الآية: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ.
13- {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : وهكذا تبلغ به حالة التخبط والكفر أن يصفَ الكلام الرباني المعجز الذي تسجد العقول بين يدي عظمة منـزّله أنه من كتابة البشر القدماء، فما هو إلا مجرد تراثٍ متوارث.
14- { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } : لكنه سرعان ما بيَّن سبب تخبُّطهم، بأنه الرَيْنُ والحجابُ فوق قلوبهم، بسبب ما اقترفوه من المخالفة والمعاندة.
16- {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} : داخلون فيها ليكونوا وقودها.
17- {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} : تقول لهم خزنة جهنم : هَذه النار الَّتي كُنتُم بِهِا تُكَذِّبُونَ.
18- { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } : الكتاب الذي كتبوا فيه قبل خلقهم وقد ذكر قبل قليل.
19- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} : وهذا على جهة التفخيم والتعظيم.
20- {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} : مكتوب فيه ما عمله الأبرار ومكتوب فيه ما يناسب عملهم من التكريم.
21- {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} : فلم يجعله الله تعالى مثل كتاب الفجار محجوبا بل أشهده مقربيه.
22- {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} : أي الذين كانوا بررة في طاعة ربهم وموالاته، فكما كانت أرواحهم في الدنيا مشوقة للقائه، أصبحت أبدانهم وأرواحهم متنعمة بكرامته.
23- { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } : على أسرَّتهم في الجنة يَنظُرُونَ إلى ما أعده الله تعالى لهم من التكريم والتقريب.
24- {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} : أي بريقه وحسنه وبهجته.
25- { يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ } : الرحيق: الخمر العتيقة البيضاء، والمختوم : الذي وضع في آخره شيء كريم.
26- {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} : وختامه آخر طعمه لأن العادة أن يكون في آخر الأشربة الكدر فوصف شراب أهل الجنة بأن رائحة آخره المسك.
وَفِي ذَلِكَ الذي وصفه الله تعالى من أمر الجنة فليتسابق المتسابقون.
27- { وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ } : أي يخالطه بعضٌ من الشراب الكريم الرفيع المُحضَر من نبعٍ شريفٍ خاصٍّ بأهل القرب يسمى تَسْنِيمٍ: ومعناها: الارتفاع، وهو أشرف شراب في الجنة، يشرب من هذه العين المقربون من أهل الجنة صرفا , وهي لغيرهم من أصحاب اليمين ممزوجة.
28- { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } : صرفا من غير مزج.
29- { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ } : في الدنيا على وجه السخرية.
30- {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} : استهزاءًا واستصغارًا.
31- { وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ْ} : بطرين منكرين لنعمة الله عليهم.
32- {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} : متخبطون في اتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم ودين الحق.
33- {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} : ما وظفهم الله تعالى عليهم ولا وكلهم بأحوالهم.
34- {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} : استبشارا بفضل الله عليهم بعدما رأوا ما فيه الكفار من الخذلان.
35- {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} : هم على أسرّة أفضاله ينظرون إلى تكريمه وتقريبه.
36- {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } : فإذا جازى الله تعالى العبد بعمله عذبه،وإذا عامله بمحض فضله أنجاه.
|