للإنسان مكانة متميزة بين المخلوقات الأخرى، فبصلاحه تصلح أحوالها وبفساده تضطرب، وقد عبرت عن هذه الحقيقة الآية الكريمة:
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ {41}الروم
فبيَّنَتْ أنَّ الخللَ الذي يظهرُ في عالم البَرِّ أو البحرِ سببُهُ الفسادُ الإنساني، إذِ الكونُ في أصل تكوينه متوازنٌ، فإذا حصلَ في توازنه الاضطراب، فالإنسان هو السبب الرئيس فيه، لأنه قادرٌ على حفظ توازنه، وقادرٌ أيضًا على إحداث الخلل فيه.
من هنا لم يكن أثرُ الصلاحِ الإنساني منحصرًا في الإنسان نفسه، بل يتعدَّاهُ إلى المخلوقات المحيطة به أيضًا، وغايةُ إصلاحِ الإنسانِ هي في النتيجة غايةٌ لإصلاح الكون.
لكن كيفَ يهتدي هذا الإنسانُ إلى طريقِ صلاحه؟
إما أن يبحث بنفسه مستعملا عقله، ومستعينا بتجربته التي تسوقه إليها حاجاته، وإما أن يكونَ من مصدرٍ آخر يتَفَوَّقُ على عقل الإنسان وتجربته.
أما البحث بالعقل والتجربة فإنه يقود إلى القوانين الوضعية التي تحتاج يوما بعد يوم إلى التعديل والتغيير لأنها لا تخلو من الأخطاء المتكررة.
وأما أن يكونَ صلاح الإنسان مستَمدا من مصدرٍ كوني آخر يتَفَوَّقُ على عقل الإنسان وتجربته، فإنه بعيدٌ أيض لأن الإنسانَ هو أعلى المخلوقاتِ رتبةً وتفوقًا، فلن يكونَ المصدرُ المتفوقُ عليه واردًا إليه من المخلوقاتِ التي هي دونه في الرتبة تعقُّلا وسُلوكًا.
فلا بدَّ أنَّ المصدرَ المتفوقَ عليه الذي يهديه إلى صلاحِه هو خالقُه وصانعه، الذي خلقه وخلق معه كل المخلوقات.
ومن البديهيِّ أن يكونَ صانعُ الإنسانِ عليمًا به، فأيُّ آلة مادِّية مصنوعةٍ يكون الذي صنعها الأعلمَ بها قطعا، أفلا يكونُ اللهُ تعالى الذي صنعَ الإنسانَ بِكُلِّ ما فيه من الروعة والإتقانِ أعلمَ به من سواه؟
إذًا لو كانَ طريقُ الصلاح الإنساني موَضَّحا لهذا الإنسان من المصدر الإلهيِّ فسوف يكون طريقا ميَسَّرًا وواقعيا ومنطقيا ومنسجمًا مع ذاتِ الإنسان وعلاقاته مع ما يحيط به من المخلوقات، ومن يحيط به من أبناء جنسه.
وسوف تكون الهداية الإلهية للإنسان الدالَّةُ له على الصلاح مُقَوِّمةً لسلوكه، ومهذِّبةً لمشاعره وعواطفه، وملَطِّفةً لأخلاقه وسجاياه، ومُرَقِّيَةً لآدابه ومعاملاته الفاضلة.
لكن من الذي سينقلُ إلى الإنسانِ الهدايةَ الإلهية؟
لا بدَّ من واسطةٍ قريبةٍ إليه في المبنى والمعنى، تنقل إليه تلك الهداية، ويرى فيها عمليًّا النموذجَ التطبيقيَّ الواقعيَّ لها على الأرض.
وهكذا اختار الله تعالى الواسطة الناقلة لهدايته، التي تحققُ في سلوكها أولا تطبيقاتِ الصلاح، ولا تتناقض الأفكار فيها مع سلوكها الفعلي.
وكانت تلك الواسطة رسُلَ الله تعالى عبر الأزمنة المتعددة.
قال الله تعالى: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) {165} النساء
وكأنه تعالى يقول للناس في هذه الآية: قد أرسلتُ إليكم هدايتي عبر الرسل، ووضحتُ لكم طريق صلاحكم، فلم يبق لكم بعد ذلك حجةٌ إن بقيتم في الضياعِ وفوضى السلوك.
وكانت مجانسةُ الرسلِ للناسِ في بشريتهم، وتماثُلُهم معهم في الاستعداداتِ الخَلقية يؤدّي رسالةً مفادها أنَّ هذه الهداية الإلهية قابلة للتطبيق في جنسِ البشر.
قال تعالى: ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ) {11} إبراهيم
وقال تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ) {38} الرعد
وقال تعالى: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ) {75} المائدة
فكانَ كُل الرسلِ متماثلين في أوصاف البشرية مع الناس، فقد أكلوا الطعام الذي يأكله الناس، وتزوجوا وأنجبوا الأولاد كما هو شأن جميع الناس، واستقاموا على أمر الله تعالى وهو المطلوب من كل الناس، ولم يحملوا في عقولهم فكرت يناقضها سلوكهم العملي، ونقل تعالى قول شعيبٍ عليه الصلاة والسلام وهو أحد رسله:
وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ {88}هود
أي لن أكون في سلوكي فاعلا فعلا أنهى غيري عنه.
وبيَّن الله تعالى النتيجة التي تجنيها البشرية لو أنها أخذت الهداية من الرسل بقوله:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ {25}الحديد
أي لتتحقق العدالة والمساواة الإنسانية على وجه الأرض.
وكان الله تعالى يرسل إلى البشرية في كل عصرٍ رسولا يذكرهم بهداية الله ويدعوهم إلى الصلاح الإنساني، وكان الناس كلما نَسُوا ما ذُكّروا به، أو أدخلوا على طريق الصلاح أهواءهم يضطرب سلوكهم، وتختلُّ موازينهم، ويحتاجون إلى من يعيدُهم إلى الصواب من جديد، فيرسل الله تعالى رسولاً جديدًا ليعيدُهم إلى صفاء المورد، ونقاء الطريق.
ثم ختم الله تعالى الرسل بالنبيِّ الخاتَم الذي هو آخرُ الرسل إلى الناس، محمدٍ صلى الله عليه وسلم:
- فبلّغ رسالة ربه.
- وشرحها شرحًا يضمن لها الاستمرارَ إلى آخر الزمان.
- ووضع لها القواعد التي بها تُوزَنُ كُلُّ المستجِدَّاتِ مِنْ بَعدِه.
- وأمر علماءَ أمته من بعده باستعمال تلك القواعد لمعالجة المعضِلاتِ الطارئة والمشكلاتِ الحادثة، واعتبر نَظَرَهُمْ واجتهادهم فيها.
- وأمر عامة الناسِ بسؤالِ علمائهم، وعلَّمهم المرونة في قبول استنباطاتهم في دائرة فهوم النصوص، فجَمعَ الناسَ على ثوابت الفضيلة، ودرَّبهم على الاتساع في قبول المحتمِلات التي لا تتعارض مع تلكَ الثوابت.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هيأ الله تعالى العلماءَ الذين وضعوا منهجَ توثيق النقل عنه صلوات الله وسلامه عليه، فتميز الحق الذي نزل عليه من الزَيْف الذي حاول إضافته بعضُ المنحرفين، فحُفِظ الدين بذلك إلى آخر الزمان.
لكن ومع كونِ صورةِ الدينِ السلوكية الإسلامية في عباداته ومعاملاته التي تهدي الإنسان بديعةَ النَظْمِ، متناسقةَ الإحكام، شاملةَ المضمونات، معتنيةً بالفرد والجماعة والمجتمع، فإنَّ روحَ تلك الصورة الدينِية (أو ركنَ الإحسانِ في الدين) هو سببُ الحيوية في هذه الصورة، وبهذا الروح يتحول شكل الدينِ من تمثالٍ متقَنِ الصنعة إلى جسدٍ حيٍّ نابضٍ بكُلِّ معاني الحياة.
ومما لا شك فيه أن العلم الذي يضبط انتظامَ الشكل المذكور، وتناغمَ الحركة في المعاملة والعبادة هو الفقهُ الإسلامي، بثوابته المُجْمَعِ عليها أو متغيراته الاجتهادية المتطورة بتغير الظروف والأزمان، ومما لا شك فيه أيضا أنَّ تطبيقَ الفرد لهذا الفقه الإسلامي قد ينبعثُ عن تقليدٍ صوريٍّ مجرَّدٍ عن البواعثِ الباطنة في الإنسان، وقد يكون نتيجةَ شعورٍ يملكُ الإنسانَ بأنه في هذا التطبيقِ يمتثل أمر ربه، ويتقربُ بطاعته إليه، ويعبر به عن محبته له واعترافه بعظيم إنعامه عليه، كما أنه قد يكون في معرفة بواعثِ العمل ممن تختلطُ الأمور عليه، وتلتبسُ نيته عليه في أعماله بمراداتٍ مشبوهة، ربما يريد فيها الشهرة أو ثناء المخلوقين عليه أو ما يشبه ذلك من المقاصد التي تجعلُ الأعمالَ بعيدة عن ساحة العبودية الخالصة لله تعالى وحده.
لهذا كانت الحاجةُ ماسةً لعلمٍ يسيرُ جنبًا إلى جنبٍ مع الفقهِ الإسلاميّ، يعتني بتصحيح النيّات في تطبيقات الفقه، وينبِّه إلى الموازين والمعايير التي تضمن صحة العمل في العاجل، وتشير إلى علامات قبوله بفضل اللهِ تعالى في الآجل.
و قد نبهَ القرآنُ الكريم إلى وجوبِ ضبطِ الظاهر السلوكي العملي، وتصحيحِ باعثه الباطن الروحي في نصوص كثيرة منها قوله تعالى:
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) {5}البينة فبيَّنَ تعالى أنه أمر الناس بعبادته، وهي الجانب العملي من الدين، وبالإخلاص له، وهو التوجه الخالصُ بالباطنِ الروحاني القلبي إليه تعالى وحده عند التلبس السلوكي البشري بعبادته، وهدد سبحانه المنافقين الذين أظهروا الشكلَ العمليَّ من العبادة في سلوكهم، وأبطنوا في نياتهم التوجُّه إلى غير الله تعالى، وأوعدهم بالنار التي لن يجدوا فيها نصيرا ممن كانوا يعتنون في الدنيا بنظره، ويغفلون بسببه عن مراقبة سيده ومالكه الواحد الذي لا إله إلا هو، وطالبهم بالتوبة عن هذا الحال الفاسد، والإصلاحِ للبواعثِ الباطنة الخاطئة، والاعتصام بالله وحده الذي لا ملجأ لعبده إلا إليه، والإخلاصِ في النية له، وإلغاء اعتبار غيره فيها، وبعد رحيلهم من النفاق إلى التوبة والإصلاح والاعتصام بالله والإخلاص له يصيرون مع المؤمنين، قال تعالى في ذلك: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} {145- 146}النساء.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأعمال لا اعتبار لها إلا بالنية فقَالَ: "إِنّمَا الأَعْمَالُ بِالنّيّةِ، وَإِنّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَىَ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَىَ اللّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَىَ مَا هَاجَرَ إلَيْهِ". قال ذلك حين أمر أصحابه بالهجرة من مكة إلى المدينة فرارًا بدينهم، وتكوينًا للمجتمع الإسلامي الجديد، وبهذا بيَّن لهم صلى الله عليه وسلم أن الذي يقصد بهجرته وجه الله يقع أجره على الله، ومن يقصد بهجرته ورحيله ذاك إلى المدينة أيَّ شيء من الدنيا فسيكون عملُه حظًّا دنيويًّا عاجلًا، ولن يكون له نصيبٌ من الأجر في الاَخرة.
هكذا أسس صلوات الله وسلامه عليه المجتمع الإسلامي الأول، بالطاعة لله، والإخلاص في النية، والتحذير من النفاقِ الذي يوافق الصورة الإسلامية الشكلية، ويباينُ باعثها المعتبر المقبول.
وقد أدرك أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم ضرورةَ الاعتناء بهذين الواجبين: الظاهرِ والباطن، فاجتهدوا لتطبيق الاستقامة العملية، واعتنوا بتمحيص إخلاص النيات، وجرى على ذلك التابعون، وتابعوهم، إلى أن تبلورت مصطلحات العلوم، وتفرعت التخصصات في تصانيفها:
- فكان بعضهم يعتني بضبط الأقوالِ المأثورة رواية.
- وكان غيرهم يعتني بفروع العلوم دراية.
- وظهرت مصنفاتُ الفقه.
- وكتبُ العقائد.
- وكان فيما ظهرَ التخصصُ بأحوالِ البواطن (المقام الإحساني) والتدقيقُ في وسائلِ تصحيح النية ليكون الإنسانُ مقبلا على ربه بالقلب السليمِ من إرادة غيره، وليصير بهذا متَّبِعًا الجيلَ الذي صحب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم القرآن في أنهم يريدُون وجه الله، والذين قال لمصطفاه وهو يوصيه بهم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} {28}الكهف.
ولا يخفى أن بين الركنين الفقهي الإسلامي الأول والركن الإحساني الثالث برزخا يربط بينهما وهو ركن الإيمان، فإنَّ المسلم المنضبط بأحكام الفقه، والمحسن المنجذب بروحه وسِرّه إلى حضرة ربه، مصَدُّقٌ بما لم تبلغه إحساساته الباطنة من الغيب، فكلُّ ما أخبر سيده ومولاه عنه، ونقله إلى أمته الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم، حقٌّ لا ريب فيه، ولا يتسرَّبُ إلى القلب الشكُّ فيه، ومن خلال الأركان الثلاثة، يتألق الدين الذي نزل بيانه بالقرآن، وشرحَ تفصيله المصطفى العدنان، وتنطلق حضارة على وجه الأرض كبيرة في مبناها المادي، عظيمة في معناها الإنساني. |