قد يتوهم البعض أنَّ مقياس التديُّنِ ما يمارسه الإنسان من العبادات، ولكنَّ الحقيقة أنَّ المعيار الأدقّ هو انضباطه في معاملاته بأحكام ربه، لأن ميل الإنسان إلى الهوى في المعاملات أكثرُ ظهورا منه في العبادات، بل قد يكون الهوى في العبادات نفسها حين يدخل إليها الرياء والعجب والمباهاة، ولهذا قدمتُ في البحث الانضباط في المعاملة على إكثار العبادة، ولربما توهم بعضهم أن هذا المنحى يناقضُ حكمة الخلق المبيَّنة في قوله تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]
ولكنّ هذا المتوهم يغفل عن دلالة كلمة العبادة في النص التي تعني انضباط الإنسانِ بأمر ربه في كل حالاته، التي من أهمِّها المعاملات، وإلا فما معنى الآيات:
{وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152]
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]
{وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} [البقرة: 282]
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]
إنها آياتٌ تختبر الإنسان في بيعه وشرائه، وعدالة قوله، ووفاء عهده، والعدل في المواقف مع بُغضِ النفس لمن عدلت في أمره تحييدا للعواطف وإبعادا لها عن القوانين، والتوثيقُ في المعاملات، والإحسان إلى المرأة، وترك الإضرار بها... الى آخر ما هنالك من الأمور التي تعبَّدنا الله تعالى في قرآنه العزيز بها، وفيها اختبار العواطف أمام الأحكام، وحين يصل الإنسان في معاملاته إلى تسليم البت في مساءله لله ورسوله يكون عبد الله حقا ولو قلت عباداته، ولو انحصرت في أداء الفرائض، قال تعالى:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء:65]
ورحم الله أبا العلاء المعري القائل:
جهل الديانة من إذا عرضت له .......... أطماعه لم يُلفَ بالمتماســـــــك
وقد وَهِمَ من ظنَّ أن الطريقَ إلى الإحسان يقتضي العزلة والاكتفاء بالعبادات المعهودة، وترك المعاملات، قال الكلاباذي في تعرّفه:
"أجمعوا على إباحة المكاسب من الحرف والتجارات والحرث وغير ذلك مما أباحته الشريعة على تيقظ وتثبت وتحرز من الشبهات، وأنها تُعمل للتعاون، وحسم الأطماع، ونية .. العطف على الجار، وهي عندهم واجبة لمن ربط به غيره ممن يلزمه فرضه" أي لمن كان يعول أسرة أو من ألزمه الشرع بهم.
وقد نبه الجنيد رحمه الله إلى أنها "من الأعمال المقربة إلى الله عز و جل".
وأكثرُ من خلط في هذا الأمر هم الذين نقلوا التوكُّلَ إلى ظاهر الإنسان السلوكي، وما التوكُّلُ إلا حال القلب، أما ظاهر الإنسان فإنه مأمورٌ بالمعاملات.
قال سهل بن عبد الله: التوكُّلُ حال النبي صلى الله عليه وسلم, والكسبُ سُنَّتُه، فمن بقي على حاله فلا يتركنّ سنته".
ومن المستحسن المنقول عن الرجل الصالح إبراهيم ابن أدهم، ما حكاه يعقوب بن المغيرة قال: "كنا مع إبراهيم ابن أدهم في الحصاد في شهر رمضان، فقيل له: يا أبا إسحاق لو دخلت بنا إلى المدينة فنصوم العشر الأواخر بالمدينة لعلنا ندرك ليلة القدر، فقال: أقيموا ههنا، وأجيدوا العمل، ولكم بكل ليلةٍ ليلةُ القدر"، فلم يكتفِ بتوجيه أصحابه بالكلمات، لكنَّه جعلهم يعيشون المفاضلة بين العملِ لطلب اللقمة الحلال، والعبادة التي يسألون فيها الناس.
و كان الوليُّ أبو الحسنِ الشاذُلي عاملًا في الزراعة، وصاحبَ حقولٍ، وزرع، واعتنى عناية شديدة بقضاء مصالح الضعفاء والمساكين، وسعى جاهدًا لتيسير ما تعسر من شؤونهم، وحلِّ ما تعقد.
وكان ميمون المغربي يقول: "لو أن كل إنسان منا تعاهد كسبه ولم يكسب إلا طيبًا، ثم أخرج ما عليه ما احتيج إلى الأغنياء، ولا احتاج الفقراء"
وليس في كلمات القوم في هذا الباب ما هو أعلى من هذه الكلمات، لأنها تظهر البُعد الاقتصادي الإسلامي الإحساني، الذي تجتمع فيه مفردات الصلاح والولاية، مع الكسبِ الطيب الذي ينتح حركة حضارية إعمارية، ونهضة مادية إنسانية متميِّزة، لأن الكسب الطيب لا يقف في معناه عند شرعية مورد المال لكنه يتضمن أيضا توظيف الكسب في وظيفة نافعة للبشرية، فقد عاب القرآن على الذين تحركوا حركة مادية مبدعةً في جمالها وحُسنها لكنها كانت فاقدة الوظيفة، وذلك بقوله:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } [الشعراء: 128] والرِّيع: المرتفع من الأرض.
فمع اعترافه لهم أنَّ ما صنعوه هو آية في الحسن والجمال، لكنَّ عيبها أنها كانت من غير وظيفة نافعة للخلق، وعبَّر عن ذلك بقوله: تعبثون، والعبث حركة لا وظيفة لها، ولا تندرج في المنافع المفيدة.
وقد يعبِّر عن الأمرين المذكورَين: شرعيةِ المورد، وتوظيفه، ما نقله صاحب الحلية بسنده إلى عمارة ابن غزية قال: سمعت رجلًا سأل ربيعة، فقال: يا أبا عثمان ما رأس الزهادة؟ قال : جمعُ الأشياء من حِلِّها، ووضعُها في حقِّها.
وليس وضعُ الشيء في حقه إلّا توظيفه فيما خلق له، وتوجيهه إلى مجالٍ مفيدٍ في زراعة أو صناعة أو تجارة أو دواء أو غذاء... إلى آخر ما تحتاجه البشرية من المنافع.
على أن ميمون بن مهران أضاف إلى ما ذكرناه من الأمرين المتقدِّمَيْن في الكسب أمرا ثالثا يتناسب مع الهوية الإسلامية الإحسانية، وهي التوسط من غير تقتير أو إسراف، وذلك بقوله: "ينبغي للمال أن يكون أصله من طيب، فأيكم الذي يسلم كسبه فلم يدخله إلا طيبًا، فإن سلم من هذه فينبغي له أن يؤدي الحقوق التي في ماله، فإن سلم من هذه فينبغي له أن يكون في نفقته ليس بمسرف ولا مقتر".
وقد أكّدوا على ترفعِ المحسنين عن شراء الدنيا وأموالها بالدين، فكم من مُظهرٍ لصلاحه بين الناسِ ليحظى من خلال مظهره ذاك بحظوة دنيوية أو مالية، وما هذا بشأن الكرام، "قال علي بن الحسين بن حرب: بعث بي أبي إلى السري بشيء من حب السعال - لسعالٍ كان به - فقال لي: كم ثمنه؟ قلت له: لم يخبرني بشيء، فقال اقرأ عليه السلام وقل له: نحن نُعَلِّمُ الناس منذ خمسين سنة أن لا يأكلوا بأديانهم، تُرانا اليوم نأكل بأدياننا؟".
ولم يكن تأكيدهم على تركِ شراء الدنيا بالدين بالتنبيه على ترك ذلك في أقوالهم، بل تعدّى هذا إلى التأكيد على ترك الإشارة الحالية (بالحال) ومن ذلك قول إسماعيل بن عبيد لأصحابه: "من لبس منكم مُرَقّعَةً فقد سأل (أي كان كالذي يسأل الناس الدنيا بلسانه)، ومن قعد في الخانقاه أو في المسجد فقد سأل، ومن قرأ القرآن في المصحف أو كيما يُسمِعَ الناس فقد سأل".
وقال عبد الله بن المبارك: "لا خير فيمن لا يذوق ذل المكاسب".
أي يذوق التعب وذُلَّ طلب العمل عند بطالته.
بل إن الوليَّ إبراهيم بن أدهم كان يسمي أصحابَ الكسب أبطالا، ويعتبر في كسبهم شرف الإنفاق على الأسرة، وذلك بقوله: "عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والنفقة على العيال".
وكانوا يتحرَّزُن من الطعام الذي لا يعلمون أصله، أو الذي علموا أن أصله من شبهة، وذكر في الحلية بسنده أنَّ أبا وائل كان يقول لجاريته: "يا بركة إذا جاء يحيى - يعني ابنه - بشيء فلا تقبليه، وإذا جاءك أصحابي بشيء فخذيه، قال: وكان يحيى ابنه قاضيًا ".
وكانَ بعضُهم معانا بتأييد من الله تعالى، فكان يشعر بصفاء سريرته بظلمانية الطعام المشبوه، فيلفظه ولا يتناوله، ومن ذلك تأييد الله تعالى للحارث المحاسبي الذي نقل حكايته أبو نعيم في حليته عن الجنيد، قال: "كان الحارث كثير الضر فاجتاز بي يومًا وأنا جالس على بابنا فرأيت في وجهه زيادة الضرِّ من الجوع، فقلت له: يا عم لو دخلت إلينا نلت من شيء عندنا. فقال: أو تفعل؟ قلت: نعم وتسرني بذلك وتبرّني فدخلتُ بين يديه ودخل معي وعمدت إلى بيتِ عمّي - وكان أوسعَ من بيتنا لا يخلو من أطعمةٍ فاخرة لا يكون مثلها في بيتنا سريعًا - فجئتُ بأنواع كثيرة من الطعام، فوضعته بين يديه، فمدَّ يده وأخذَ لقمة فرفعها إلى فيه، فرأيته يلوكُها ولا يزدردها فخرج وما كلمني، فلما كان الغد لقيتُه فقلتُ: يا عمّ سررتني ثم نغّصتَ علي، فقال: يا بنيَّ أما الفاقة فكانت شديدة، وقد اجتهدتُ أن أنال من الطعام الذي قدمتَه إلي، ولكن بيني وبين الله علامة إذا لم يكن الطعام عند الله مرضيًا ارتفع إلى أنفي فورة فلم تقبله نفسي فقد رميت بتلك اللقمة في دهليزكم، وخرجت.
ولا غرابة في الحكاية، فقد تكون مندرجة في معنى قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}[البقرة: 282].
ويظهر مما تقدم حرصهم على ضبط معاملاتهم حتى تكون شرعية الحركة، نافعة المآل. |