قرأت في كتاب الله تبارك وتعالى النصّ الذي يتحدّث عن شهر رمضان، ونحن على أعتاب الدخول في هذا الشهر المبارك العظيم، فرأيت في هذا النص العظيم بعض العناوين الرمضانية التي يَحسُن لنا أن نلاحظها ونحن نتهيأ لدخول هذا الشهر العظيم.
يقول الله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنـزلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]
ففي هذا النص عناوين عشرة:
1- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنـزلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ}: وهو ينبّه إلى أننا ندخل ظرفًا زمانيًّا ظهر القرآن الكريم فيه، وإذا كان هذا الظرف محلاًّ لظهور القرآن فينبغي علينا أن نُظهر فيه القرآن.
وقوله: {أُنـزلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} أي أَظهر الله سبحانه وتعالى فيه الكلام، ففيه تنبيه للأمة من أجل أن يظهر فيها القرآن وهي في هذا الظرف الزمانيّ.
وظهور القرآن في الظرف الزمانيّ يبدأ بظهوره تلاوةً، وبعد ذلك بظهوره في القلوب فهمًا، وبعدها بظهوره على أرض الواقع سلوكًا وخُلُقًا.
وعلينا أن نحرص على هذه الظهورات كلها، فظهور القرآن تلاوةً يعني أننا نجالس صاحب الكلام ونسمع منه، ومهما تحدّثنا عن قيمة الفهم والدراية والتطبيق السلوكيّ فإن ذلك ينبغي ألا يصرفنا عن عبادة التلاوة، فالتلاوة تعني أننا نجلس بين يدي الله ونسمع القرآن لنكون في أبهى مجلس، وهذا قبل أن يكون ما نقرؤه سلوكًا وخُلُقًا، بل بمجرد التلاوة، لأن التلاوة تعني ظهور كلام الله بين الخَلق، وإذا ظهر كلام المَلِك الجليل بين الخَلق فإن لظهوره سرًّا عظيمًا.
يروى أن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه ناجى ربّه وهو في منامه فقال: بمَ يتقرّب المُتقرِّبون إليك يا رب؟ فقال: بكلامي يا أحمد، فقال: بِفهم أو بغير فهم؟ فقال: بفهم أو بغير فهم.
وهل تفهم البلبلَ الذي يُغنّي ويُغرِّد، أم أنك تُطرب بما تسمعه من غير فهم؟
هذا ما يقوله البلبل فتُطرب له، فكيف لا تُطرب لما يقوله الله؟
إذًا: علينا أن نراعي ظهور القرآن تلاوة، وظهوره فهمًا.
ونحن العرب مطلوبٌ منا أولاً قبل غيرنا (لأن القرآن الكريم نـزل بِلُغتنا) أن نَفهم وأن نُفهم، فلا ينبغي على شابٍّ يدخل المسجد وينتمي إلى الإسلام وينتمي إلى الدعوة إلى الله أن يمر بلفظة في كتاب الله من غير أن يعرف معناها العربي، وهذا على أقل حدّ، وقلت مرات ومرات للشباب: لا أقلَّ من أن نفهم معنى مفردات القرآن فهمًا عربيًا.
أما الانفعال البشري الذي هو الاستماع بعد السماع، فيكون من خلال تحريم ما حرّمه القرآن، وتعظيم ما عظّمه القرآن، من خلال ظهور القرآن في سلوكنا الاجتماعيّ، وفي سلوكنا الاقتصاديّ، وفي معاملاتنا...
وكنت أتأمل في كتاب الله تبارك وتعالى، وعجبت لهذا التلّون العجيب الذي حكى فيه القرآن قصص بعض الرسل حيث قال: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ} [غافر: 78]
فإذا قرأتَ سيرة قوم نوح وجدتَ رسولاً من رسل الله يجابه التجبُّر والتكبُّر، ويجابه غطرسة النفس من أجل أن يُقدّم لها علاجًا.
وإذا قرأت سيرة لوط وقومه رأيتَ رسولاً من رسل الله يدعو إلى الله مقوِّمًا للسلوك.
وإذا قرأتَ قصة موسى عليه الصلاة والسلام ترى فيها خطاب رسولٍ من رسل الله لسياسيٍّ متغطرس أراد أن يُبدّل النظام ليكون نظامَ هوى ونظامَ نفوسٍ عابثة.
وإذا قرأتَ قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام رأيتَ فيها تقويم العقيدة، وَرَدَّ الناسِ من عبادة غير الله إلى عبادة الله.
وإذا قرأتَ قصة شعيب عليه الصلاة والسلام رأيت فيها تقويمًا اقتصاديًّا.
وهكذا، ما تقرأ من قصةٍ يحكيها القرآن إلا وترى فيها تغيرًا، ليتغير الإنسان على كل الأصعدة في واقعه.
وهكذا يظهر القرآن سلوكًا، حينما ننفعل لمعاني القرآن سلوكًا، وحينما ننفعل لمعاني القرآن خُلُقًا، فالقرآن هو الذي جاء بالقيمة الأخلاقية العظيمة، وليس في القرآن من التحريف ما يوجد في الكتب السابقة، فأنت تقرأ في الكتب السابقة (على سبيل المثال في كتب يهود) أن لوطًا شرب الخمر ثم زنى ببناته، لكنك لا تقرأ مثل هذه التُّرَّهات التي أضافتها الأصابع البشرية إلى كلام الله، فلا تجد خلطًا ولا تحريفًا ولا تبديلاً، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
فأنت تجد في القرآن القِيم الخُلقية في أبهى مظاهرها.
وأنت تقرأ في سورة يوسف، فمع أنها قصة تتعلق بحالة غريزية وبثورة جنسية، لكنك تقرؤها بألفاظٍ ترتقي بالإنسان إلى أعلى درجات القيمة الخُلقية، فأنت تقرأ خطاب امرأة العزيز ليوسف، وفِعلَ يوسف: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]
فيمكن للإنسان أن يقرأ هذا الكلام ليرى أن لغة القرآن الخُلقية تتحدى بآدابها وسموها كل اللغات.
إذًا: ظهورُ القرآن ينبغي أن يكون في هذا الشهر، وينبغي أن نعير هذه الظهورات اهتمامًا تطبيقيًّا، ليظهر القرآن فينا تلاوة، وليظهر القرآن فينا فهمًا، وليظهر القرآن فينا سلوكًا وخُلقًا.
2- {هُدًى لِلنَّاسِ}: وهذا يلفت نظرنا إلى الاستعداد للدعوة، لأنه سبحانه وتعالى ينبهنا إلى قضيةٍ هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
إذًا: الناسُ اليومَ في ضياع وفي اضطراب، وفي تخبُّط: الفقراء والأغنياء، والحكام والمحكومون، والاجتماعيون والاقتصاديون والسياسيون... في حالةٍ من الحيرة والاضطراب، وهاهو شهر رمضان يأتي بكل ما يحمله من مضمونات، فهل يتحرك من يفهم القرآن للدعوة من أجل هداية الناس؟
وهذا الشهر كان منطلقًا إلى الهدى والهداية، فهل سننطلق إلى الهداية للناس لنفهم مضمونات هذا الشهر العظيم، أم أننا سنقبع في الصوامع ونتقوقع في الكهوف؟
إذًا: قوله: {هُدًى لِلنَّاسِ} عنوانٌ يلفت انتباهنا إلى قضية الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى التي يُقصد منها كلُّ الناس من غير استثناء.
3- {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى}: وهكذا يلفت انتباهنا إلى موضوع التبيين الذي قدّمه القرآن، وحتى نملك التبيين الذي هو التوضيح لابد لنا من أمرين اثنين، فلا يمكن أن يحصل في مضمونات شهر رمضان للدعاة أو لمن يلتصق بمعاني شهر رمضان حتى يملكوا أمرين: فهمًا، وأداة للتبليغ التي هي اللغة.
فلا يمكن للإنسان أن يكون مُبيِّنًا حتى يملك هذين العنصرين:
- الفهم المُستمَدّ من التفسير.
- واللغة.
فينبغي أن لا يكون شبابنا ممن يلحَن في اللغة العربية، وأن تكون اللغة العربية مقدّسة عند شباب الإسلام، فلا ينبغي أن أسمع من شابّ وهو يقول: أنا أحمل في قلبي همّ الدعوة إلى الله وأريد الانتماء إلى الإسلام والاقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام... ثم هو يلحن في لغته العربية وهو عربيّ.
فلو فعلها أجنبيّ لقلنا له: قوِّمْ لسانَك وتعلّم العربية، لكن هذا الشاب الذي أكرمه الله فكان في بلاد العرب، ما باله يلحن باللغة العربية، فينصب المرفوع ويرفع المنصوب؟!
إنه مَعيبٌ في شباب الإسلام أن يكون مثل هذا.
وهكذا ينبغي أن نعطي قدسيّةً للأداء التبليغيّ اللغويّ العربيّ، لأن التبليغ لا يكون إلا بهذين العنصرين: الفهم المستمد من التفسير، وأداة التبليغ التي هي اللغة العربية.
{وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} والهدى: اسم من أسماء القرآن، قال تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} [الجن: 13] قال ذلك الجن حينما سمعوا القرآن.
4- {وَالْفُرْقَانِ}:والفرقان: اسم من أسماء القرآن، لكنه يُنبّه إلى مسألة مهمة وعنوان مهمّ، فالفرقان ما يُفرِّق بين الحقّ والباطل، ولا يمكن للمسلم أن يُفرّق بين الحق والباطل حتى يتعلّم الفقهَ الإسلامي المستمدّ من القرآن، وهذا الفقه الإسلامي هو الفرقان، لأنك لا تستطيع أبدًا أن تُفرّق بين الحقّ والباطل حتى تتعلّم الفقه الإسلامي، وستبقى جاهلاً حتى تستمدّ من الكتابِ المنيرِ فرقانَه، فإذا استمدّ الإنسان من الكتاب المنير فرقانه وتعلّم فقهه يستطيع عند ذلك أن يُميز بين الحقّ والباطل.
5- {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: والصيام عبادة روحانية، لأنه قطع العلاقة بين الجسد وما يطلبه هذا الجسد، فهو ارتقاء إلى ما تطلبه الروح، فالإنسان كائن من جزأين اثنين: فهو كائن روحانيّ، وهو كائن ماديّ، والصيام يقطع الصلة بين الجسد وما يطلبه وغرائزِه، ولو كان هذا القطع مؤقتًا، لكنه تنبيه الإنسان إلى الروحانية، فمطلوبٌ من الإنسان أن يرتقي فوق مادته وجسده ليكون وهو في الصيام روحانيًّا.
إذًا: شهر رمضان ظرفٌ زمانيٌّ لعبادة روحانية تكشف عن الإنسان غبار مادته.
6- {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: وهو ينبّهنا إلى أن الروحانية لا تنحصر أسبابها في الصيام، فإذا فقدت الوسيلة فلا تكن عبد الوسيلة، فالمقصود منك أن تكون عبد الله، والمقصود منك أن ترتقي بروحك صائمًا كنت أم غير صائم، فإذا لم تكن قادرًا على الصيام بسبب مرض (والمرض يجهد الجسد) أو كنت على سفر (والسفر مشقة) فإن الله سبحانه وتعالى يريدك أن تكون في حال الصائم ولو لم تكن صائمًا.
فهذا الكلام الجليل في الكتاب المنير يُنبّهنا إلى أن الصيام وسيلة من وسائل الروحانية، ولا تنحصر كل أسباب الروحانية في الصيام.
7- {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}:وهو يُنبّهنا إلى أن مقاصد الشريعة الإسلامية تسعى إلى تيسير الحياة، وإلى تناغم السلوك وانسجامه، فلا نجد إسلامنا مضيِّقًا على الناس، إنما نجده موسِّعًا، فلا نجد في إسلامنا ضيقًا أو تضييقًا، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]
فالحرج نوجده بعاداتنا البالية وبتقاليدنا العفنة، والإسلام يُنظّم المجتمع من غير أن يكون هذا المجتمعُ مجتمعَ عُقَد، واليومَ نعاني من عُقَدٍ كثيرة في المعاملات وفي السلوك، فيعاني الشباب من عُقَدٍ جنسية، ويعاني الكبار من عقد اجتماعية...
وهذا لم يؤسسه الإسلام في مجتمعات الإسلام، إنما أسسته العادات التي لا تمت بصلة إلى الإسلام، وأسسته الألسن التي تنطلق بالغيبة وتتحرك بالنميمة، وأسسته العقول التي لا تستمد فكرها من القرآن ولكنها تستمد من الهوى ومن رغبة المجتمع التي لم تُؤسَّس أصلاً من خلال هَدْي القرآن وهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام...
وهذا عنوان ينبغي أن نتدرّب عليه في شهر رمضان حتى ندرك مقاصد الإسلام، وحتى نفهم ما ترمي الشريعة إليه في غاياتها وحكمها.
8- {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}:والعدّة: عدد مضبوط.
إنه سبحانه وتعالى يلفت انتباهنا إلى قضيةٍ غفلنا اليوم عنها، فقد ربط الله سبحانه وتعالى الإنسان بالكون، وأراد من المسلم أن يكون شديد الملاحظة لتغيرات الوقت، وهو يقتضي معرفة المعادلات الرياضية التي أسس سبحانه وتعالى الكون في حركته عليها.
إنها سنة الله سبحانه، قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]
وقال: "لِتَعْلَمُوا" لينبّهَنا إلى أن معرفة الفَلَك الشرعيّ إنما هو من العلوم الإسلامية الجليلة.
وهاهنا يقول: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ} لكننا اليوم نفقد هذه القيمة، مع الاضطراب السياسيّ الذي يعمّ عالمنا الإسلاميّ، ومع الاضطراب التي انعدمت فيه الوحدة السياسية والوحدة الثقافية والعِلمية.
لذلك لا نرى اليوم اهتمامًا بهلال شهر شعبان، بل نرى ونسمع في الأخبار والإعلام اهتمامًا بهلال شهر رمضان، وهلالُ شهر رمضان يُبنى على هلال شهر شعبان، وقد رأيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن نأخذه وأن ننبّه من خلاله إلى هذه القضية، فالمصطفى عليه الصلاة والسلام يقول كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي والحاكم رحمهما الله: (احصوا هلال شعبان لرمضان).
وهذا يقتضي من هذه الأمة الإسلامية ضبطًا للعِدّة.
ولا يعني قوله سبحانه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} ألاّ نتنبّه لأول العِدّة، فأول العِدّة ينبغي أن يُتنبّه إليه كما يُتنبّه لآخرها: (احصوا هلال شعبان لرمضان).
وفي حديث أخرجه الحاكم تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفّظ من هلال شعبان ما لا يتحفّظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غُمّ عليه عدّ ثلاثين يومًا ثم صام.
وفي الحديث الذي أخرجه أبو داوود كَتَبَ عمر بن عبد العزيز إلى أهل البصرة: بَلَغَنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن أحسن ما يُقدّر له أنّا إذا رأينا هلال شعبان لكذا وكذا فالصوم إن شاء الله لكذا وكذا، إلا أن يروا الهلال قبل ذلك"، فيكون تصحيحًا للرؤية التي رآها الناس في شعبان أو تصحيحًا للحساب.
لكننا نرى غيابًا، وهذا يدلّ على قلة الاهتمام بعبادة الصيام على المستوى السياسيّ، فينبغي أن نكون في حالة العناية بضبط المواقيت لعبادة الصلاة، وكذلك ينبغي أن نكون في حالة الاهتمام بضبط عبادة الزكاة، وينبغي أن تُؤسَّس في البلاد الإسلامية مؤسساتٌ لضبط قضية الزكاة.
والآن نرى أن الزكاة أمر سائب وفي فوضى واضطراب.. لاسيما وأن الناس يؤخِّرون عبادة الزكاة إلى شهر رمضان، وقد لا يكون هذا الشهر الذي هو ثلاثون يومًا كافيًا لتغطية حاجات الأمة كلها.
نعم، فالإنفاق في رمضان مطلوب، لكن لماذا فهم الناس وهم يقرؤون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في شهر رمضان جوادًا وأسرع من الريح في الإنفاق أن ذلك عبادةُ الزكاة؟
إنه فهمٌ مغلوط، فعبادة الزكاة تجب حين يحول الحول على المال، والحولُ يحول على المال عندما تبدأ الحركة المالية في كل يوم من أيام السنة، ففي كل يوم من أيام السنة تبدأ حركةٌ ماليةٌ عند شخصٍ ما، وعند تمام الحول ينفق، وهذا فيه سرٌّ عظيم وفيه ضبط كبير، وذلك حتى تخرج الزكاة إلى مصارفها، وحتى تبقى الأمة في السنة كلها في حالة توازن.
نعم، أنت مطلوبٌ منك أن تكون كريمًا في رمضان، ومطلوبٌ منك أن تكون منفِقًا في رمضان، وهذا لا يعني أن تؤخِّر عبادةَ الزكاة إلى شهر رمضان، فليت المؤسساتِ السياسيةَ تعتني بالضبط، وليت المؤسسات التي تعتني بضبط الزكاة تستفيد من المؤسسات التي أسسها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، والذي حارب الناس على منع الزكاة هو أبو بكر الصديق الخليفةُ الأول حيث قال: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونه لرسول الله لقاتَلتُهم على منعه، والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة".
هكذا نطق الصّدّيق رضي الله عنه، وذلك حتى تنضبط الأمور.
أما اليوم فهناك فوضى في مواقيت الصلاة، ونرى على مستوى المحافظات اضطرابًا كبيرًا، ونرى التقويمات المتناقضة في المحافظات كلها على مستوى بلادنا وعلى مستوى غير بلادنا.
فهناك فوضى في الضبط لعبادة الصلاة، وفوضى شديدة لضبط عبادة الزكاة، وفوضى في ضبط عبادة الصيام.
9- {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}:وفيه إعادة نسبة الفضل لصاحب الفضل سبحانه، فالذي تفضّل على الأمة بهذه النعمةِ (نعمةِ شهر رمضان) إنما هو الله.
{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فما كان لكم أن تهتدوا إلى هذه النعم العظيمة في هذا الظرف الزمانيّ القصير، ظرفِ شهر رمضان، لولا هداية الله، ولولا تشريع الله، ولولا فضل الله، ولولا عطاء الله، ولولا إكرام الله، ولولا إحسان الله...
أكرمكم بهذا الشهر، فعظّموا الذي أكرمكم.
10- {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}:وهو تحقيق الشكر لتوظيف النعم لما خُلقت له، حتى نخرج من شهر رمضان وفي نهاية هذه الدورة التدريبية وقد تعلّمنا معنى الشكر.
والشكر: توظيفُ النعمة، وما أكثر نِعم الله علينا أن نوظّفها لما خُلقت له!
فوظفوا المال الذي أعطاكم إياه ربكم تبارك وتعالى لما خُلق له..
ووظفوا العين لما خُلقت له..
ووظفوا اللسان لما خُلق له..
ووظفوا اللباس لما خُلق له..
وقد رأى الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه الصديقة عائشة رضي الله عنها مرّة تنظر إلى ثيابها الجديدة وقد أعجبتها، وبدأت تمشي وهي تنظر إلى ثيابها معجبة بها، فقال لها: لا يا عائشة، أما تعلمين أن الله لا ينظر إليك الآن؟ فتواضعت عائشة رضي الله تعالى عنها.
إنها ملاحظة الأنفاس..
فقوله: "أما تعلمين أن الله لا ينظر إليك الآن؟" أي: أنت في حالة مُبكية، لأن الله لا ينظر إليك في هذه الثواني وفي هذه الدقيقة.
فهل نراعي نظر الله إلينا في دقائقنا وأنفاسنا؟
هكذا يكون الشكر.
الشكر يكون حينما نعلم لماذا لبسنا هذا الثوب.
وكان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يعلم أن زيادة الثوب على الأصابع من المنهيّ عنه، فكان يقول لابنه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: "ضع كفك على كفك وهات الشفرة"، ثم يأمره بقطع ما زاد من كم الثوب، ثم يقول له ابن عمر: لو أصلحت ما قطعناه بالمقص، فيقول له: لا، فالأمر أيسر من ذلك، والوقت قصير، والرحلة إلى الله قريبة.
وبقي عمر يُرى في كُمّه ذاك حتى مات، حتى لقد أصبحت الخيوط تخرج من كُمّه، وربما وصلت إلى الأرض، وهو العملاق الطويل.
يا شباب، من هؤلاء؟ أمِن عالم الأرض، أم من عالم السماء؟
من هؤلاء الذين داسوا على زخرف الدنيا ونحن نعبد هذا الزخرف اليوم؟
ما هذا يا أمير المؤمنين يا عمر، يا من أمسكتَ بمفاتيح بيت المقدس وفي ثوبك اثنتا عشر رقعة؟
هكذا يكون الرجال، أما أشباه الرجال فهم الذين يتركون المسجد الأقصى يغتصبه اليهود وهم مشغولون بتزيين الثياب.
سيدنا عمر احتقر الثياب وداس على زخرف الدنيا وكان عبدًا لله وحده، فأمسك بمفاتيح بيت المقدس، ونحن عبدنا زخرف الدنيا وسجدنا للدنيا ونسينا بيت المقدس.
أمثالنا لا يمسك بمفتاح بيت المقدس حتى يظهر النوع الذي ظهر حينما احتقروا الدنيا تلك.
عمر الذي لم يكن يعير الثوب اهتمامًا لم يكن يتعمد ذلك، لكنه أقل من أن يأخذ منه اهتمامًا.
عمر الذي قال له رسول الله: "البس جديدًا، ومت شهيدًا" لكنه لبس الجديد ولم يعره اهتمامًا.
هل سنقبل على شهر رمضان بهذه العناوين الرمضانية؟
هل سنتفاعل مع هذه العناوين الرمضانية؟
هل سيظهر القرآن فينا تلاوةً وفهمًا وسلوكًا وخُلُقًا؟
هل سنكون في هذا الشهر متدرّبين على الدعوة؟
هل سنملك التبيين بالفهم واللغة؟
هل سنتعلم الفرقانَ الأحكامَ التي نفرّق فيها بين الحقّ والباطل؟
هل سنرتقي إلى العبادة الروحانية، وهل سنفهم أن الروحانية أسبابها كثيرة؟
هل سنتعلم مقاصد الشريعة في تيسير الحياة على الناس؟
هل سنجتهد لنتعلم مفهوم الضبط في الزمان والمكان؟
هل سنعيد نسبة الفضل إلى الله وحده في نعمه كلها؟
هل سنحقق الشكر ونحن نوظف النعمة لما خلقت له؟
ها أنتم مقبلون على شهر رمضان، فاجعلوها ورقة عمل في شهر رمضان.
رُدّنا الله إلى دينك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|