إذا أردنا أن نفهم جانبًا من جوانب ديننا الحنيف يمكن لنا أن نستعرض موقفين اثنين:
الموقف الأول: يوم دعا حبيبنا ومصطفانا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى السلام.
الموقف الثاني: بعد انتقاله صلوات الله وسلاماته عليه إلى الرفيق الأعلى، يوم تحركت جنود الإسلام تنشر النور في الآفاق، فلم تكن حربًا ولكنها كانت جهادًا وبذلَ جهد لنشر الدعوة وتحقيق العدالة والمساواة.
فالموقف الأول هو الموقف الذي يوافق أول تاريخٍ للإسلام، وذلك يومَ وصل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة عند الهجرة المباركة التي بها يبتدئ تاريخنا المجيد، ووقف الحَبر اليهودي عبد الله بن سلام ينظر إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يكلم الناس ويؤسس للمعايير التي تُبنى عليها حضارة الإسلام، فسمع من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله: (أيها الناس أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ).
فعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تلك كانت بداية تاريخنا، وبداية حضارتنا، وبداية قيمنا الإنسانية..
وبين هذا والموقف الثاني (الذي سوف أنقله إلى حضراتكم) لكُم أن تتصوروا ما بين الموقفين، حينما كان الصدّيق أبو بكر رضي الله تعالى عنه يودّع قائد جيشه الذي يتوجه إلى بلاد الشام فاتحًا ويوصيه فيقول:
"لا تقطعوا شجرة، ولا تقتلوا شيخًا، ولا تقتلوا صغيرًا، ولا امرأة".
وبين الخطابين - خطاب تأسيس المجتمع والحضارة، وخطاب الانتشار الدعويّ الذي ربما رأيت فيه صورة الحرب، لكن مضمونه كان إزالة للفتنة وتحقيقًا للعدالة والمساواة - لك أن تتصور قِيَمَنا الإنسانية.
وسوف أتحدث عن الخاتمة لا عن البدء، لأن الخاتمة عادة تمثّل الثمرة، فإذا أردت أن تفهم ثمرة دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم في حياته الشريفة فانظر ما كان في نهاية تلك المرحلة، عندما بدأ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُفصِّلون ما فهموه منه صلى الله عليه وسلم.
هذا هو الموقف الثاني الذي نقله البيهقي وغيره، عندما وقف الصدّيق رضي الله عنه يوصي ذلك الجيش الفاتح.
هذه حضارتنا ونحن نحمل السلاح.
إذا كانت الكلمات الأولى التي أسس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمًا إنسانية مبتدأً، فهذه كانت ثقافتنا ونحن نحمل السلاح في جيشٍ يخرج فاتحًا ويقول فيه الصدّيق لقائد الجيش ما قال.
وربما قرأها بعض أصحاب التاريخ على أنها ثقافة إنسانية عامة، لكنك حينما تمعن في قراءة هذه المفردات على قلتها فإنك تجد من خلالها أن الإسلام يؤسس لثقافة كاملة.
وما يقوله الصدّيق رضي الله عنه هو فهمٌ فهمه من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في هذا إلا متّبعًا، عندما يقول:
1- لا تقطعوا شجرة:
فإنه يؤسس إلى ما يعرف اليوم بثقافة حماية البيئة، وما يعرف بسلامة الصحة العامة، وكذلك يؤسس لسلامة الطبيعة...
إنه يؤسس بهذه الكلمة إلى ما يحتاجه الإنسان من نواتج النباتات الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى.
فتَحْتَ هذا العنوان (وإن كان قليلاً في ألفاظه) تندرج ثقافة كبيرة.
واليوم تُسنّ قوانين من أجل حماية الشجرة، وتؤسس دراسات لدراسة ما فعل الإنسان بتخريبه للطبيعة.
وهكذا كانت الكلمة الأولى التي أخرجها من الفم الطاهر سيدُنا أبو بكر رضي الله عنه وهو يفصِّل للناس ما فهمه من سيده وإمامه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: لا تقطعوا شجرة، وهو عنوان أول.
أما الأمر الثاني الذي أوصى به قائدَ جيشه فهو:
2- ولا تقتلوا شيخًا:
لأن هذا الرجل العجوز الذي وقفتَ أمامه يمثل تاريخ أمسه.
إنه شاهد على الأمس.. إنه راوية تاريخ.. إنه يمثل عمرًا مديدًا وطويلاً..
وعندما توقّر الكبير وترحم الصغير فإن هذا لا ينبثق من رؤية ضعفه وحسب، فحينما نفهمها أنها رحمة للضعفاء فقط فإننا لا ندرك ما وراءها من المعاني.
فقال: "لا تقتلوا شيخًا" لأن هذا الشيخ تجربة حياة، ولأن الشيوخ لديهم حكمة وخبرة، ولأن هؤلاء الذين امتدت أعمارهم في الأزمان حملوا خبرةً ربما في الصناعة، وربما في التجارة، وربما في الزراعة، وربما فيما أنتجه العقل البشريّ من حكمة وفهمٍ لسنن الله.
3- ولا تقتلوا صغيرًا:
لأنه مستقبلكم، فالأطفال مستقبلنا، وعندما نعتني بالطفل - ونحن نعتني بمستقبلنا القادم - ونفسح له الفرصة حتى يأخذ فرصته في البناء، فإننا نؤسس لمستقبل.
فعندما نحترم الطفل والصبي فإننا بهذا نبني مستقبلاً، وذلك عندما نعتني بتعليم الطفل، وبأخلاق الطفل...
ولماذا تنتشر الجريمة اليوم؟
ولماذا بدأنا نتلمس الظواهر الشاذة؟
ما هذا إلا لأننا لا نحسن تربية الطفل، ولا نحسن استيعاب الصبيان الذين هم رجال المستقبل وأبطاله والذين هم صانعو مستقبلنا حينما ننتقل عن هذه الدار.
4- ولا امرأة:
ورحم الله من قال:
الأمّ مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددتَ شعبًا طيّبَ الأعراقِ
فإذا صلحت المرأة يصلح من ورائها جيل، ويصلح من ورائها سلوك، ويصلح من ورائها مجتمع، لأنها بانية الأسرة وراعيتها، ولأنها صانعة أخلاق الأطفال وبانية ثقافتهم، ولأنها هي التي تغرس في نفوسهم احترام ثوابتنا وقيمنا.
فالأم التي تفهم أن غرس احترام الوطن هو جزء من الإيمان هي أم فاضلة..
والأم التي تغرس في أطفالها أن حماية كلّ مفيد إنما هو حماية للأمة هي أم فاضلة..
والأم التي تربي طفلها على ثقافة النافع والمفيد واجتناب المؤذي والضار هي أم فاضلة..
فكيف تُقتل هذه المرأة التي منها سوف تخرج كل الخيرات؟!
الإسلام لم يأتِ مخرّبًا، لكنه جاء مصحّحًا وبانيًا، وجاء مرممًا ومعمّرًا.
وهكذا نهى الصدّيق رضي الله تعالى عنه قائدَ جيشه عن هذه الأمور التي من خلالها تظهر ثقافتنا الإنسانية.
أما الأقوياء الذين يحملون السلاح فإن كانوا يحملونه من أجل الدفاع عن الأرض والعِرض، ومن أجل حماية الإنسان... فبارك الله في أيديهم.
وأما الذين يحملونه من أجل نشر الفتنة ونشر الشذوذ، ومن أجل تخريب الإنسانية... فإن واجب الإنسانية يقتضي أن يُقاتَلوا.
قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193].
وهكذا يستطيع الإنسان أن يقرأ ثقافتنا بقيمها الإنسانية من خلال بعض الشواهد ما بين الموقفين الثاني الذي استفضنا فيه والأول الذي أسّس فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم لبناء المجتمع بقوله: (أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ)، وهذه كلمات تحتاج إلى شرح طويل، لكنني أردت في هذه العجالة أن أضعكم ما بين البداية والنهاية، ما بين بدء الحياة النبوية وخاتمتها، حتى نعلم أن ديننا هو الذي يؤسس للثقافة الإنسانية وقيمها الفاضلة.
البِرّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تَدين تُدان.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|