المؤمن يراقب أفعال الله تبارك وتعالى في كل الأحوال، فهو سبحانه وتعالى الذي يقلّبه بين الشدّة والرخاء، وبين المصيبة والنعماء، وهو سبحانه الذي بيده النواصي وحده.
والمحجوبون عن الله سبحانه بالأشياء محجوبون بظلٍّ زائل وسراب خادع، أما المؤمن الواثق بالله تبارك وتعالى الذي علم أنه لا إله إلا الله، وعلم أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، ولا يخفض ولا يرفع إلا الله، ولا يعز ولا يذلّ إلا الله، فإن حاله يبقى الاعتماد على الله، مهما كانت الأحوال متقلبة ومهما اعترته شدة أو أصابه رخاء.
هذا هو حال الإيمان الذي ربما يغيب عن قلوبنا في بعض الأوقات حينما نحجب بالأشياء عن الله، وحينما نحجب بما يتقلب علينا من الأحوال، أما المؤمن الذي وثق بالله، والذي علم أنه وحده هو السلطان الذي يهيمن على الكون كله، الذي له ما في السموات وما في الأرض، فإنه يكون صاحب الحال الذي يقول فيه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56]
وطالما أنه سبحانه الآخذ بنواصي كل دابة في هذا الكون فلماذا يعتمد على غير الله؟ ولماذا يتوكل على غير الله؟ غيرُ الله تعالى يموت، أما الحيّ الذي لا يموت فإنه الله وحده.
وهكذا كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه متململاً بين يدي سيده ومولاه:
(أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ).
والله سبحانه هو القائل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]
اعتمد على الباقي الذي لا يزول، وإياك أن تعلّق قلبك بالفاني والزائل الذي لا بقاء له ولا دوام.
هذا هو حال الإيمان، وهكذا علمنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أحاطت به الشدة من كل جانب لكنه انطرح في عتبات الله وحده، ووقف بعد أن آذاه أهل مكة وبعد أن آذاه أهل الطائف، وبعد أن تفرَّق عنه الجاحدون، وقف في عتبات الله تعالى يقول:
(إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْته أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيّ فَلا أُبَالِي).
هكذا اعتمد على الله، وهكذا طلب من الله تعالى وحده.
سنة الله تبارك وتعال في أحبابه وأوليائه - مع أنهم يدعون إلى الله، ومع أنهم يخدمون الحق، ومع أنهم يسيرون على الصراط المستقيم - أنه يهيئ لهم من يبيتون لهم الإيذاء في الليل والنهار، ويهيئ لهم من يحاول الإضرار، لكن المؤمن المتوكل على الله لا يلتفت قلبه، لأن قلبه متعلق بالحي الذي لا يموت.
وهكذا قال سبحانه: {وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء: 81]
فهو سبحانه الذي علم بكل ما يصنعونه، وبكل ما بيَّتوه، فما هو التكليف الذي أمر به حبيبه وخاطب به أحبابه؟
قال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً} [النساء: 81]
فمع أن الله سبحانه يكتب ما يبيتون لكن شأنك أيها المؤمن أن تعتمد على الله الذي يكتب ما يبيتون، وإذا وجدت قلّة الأنصار وأنت تدعو إلى الحق، وأنت تتمسك بالاستقامة، وأنت تعاني من قلّة من يحمل معك نصرة الحقّ، فلا تلتفت واقرأ قوله تعالى: {حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
وهكذا وجهنا ربنا عندما يتولى الآخرون وعندما يُعرض الخلق أن نقول: حسبي الله، أي: نكتفي بالله، فقال: فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ} [التوبة: 129]
ومعناه: أكتفي بالله.
وهو سبحانه القائل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]
بلى يا ربنا أنت الكافي.
وهكذا باختصار: المؤمن مع اعتماده على الله، ومع استناد قلبه إلى الله، مأمور بأمرين اثنين:
1- أن يزيد من إيمانه بالله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29]
فلا يصح التوكل والاعتماد على الله حتى تقوى في القلب حقيقة الإيمان.
2- الاستقامة على أمر الله:
والذي عبر عنه قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 133].
فكان التكليف باختصار أمرين اثنين:
أن يزيد المؤمن حقيقة الإيمان في قلبه مع التوكل، وأن يزيد الاستقامة في سلوكه العمليّ مع توكله.
فإذا صح له هذان الأمران لا يضره إنس ولا جنّ، ولا يضره أحد طالما أنه معتمد على الله ومتوكل عليه، ويبقى في كل الأحوال وليَّ الله، تولى اللهَ وحده ويتولى اللهَ، ويتولى اللهُ تعالى شأنه، ويتولى كلَّ ما يحتاج إليه.
البِرّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تَدين تُدان.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|