الانتظام في السلوك الجماعيّ مقصدٌ من مقاصد الشريعة الإسلامية، فكما درّب الإسلام الأفراد على أن يكونوا في سلوكهم الفرديّ في عبادةٍ لله تبارك وتعالى بما يتناسب مع ظروفهم الخاصة، فإنه تبارك وتعالى أسس للانتظام الجماعيّ.
وهذا الانتظام الجماعيّ يستطيع كلُّ من يقرأ القرآن الكريم ويستقرئ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن يجد معانيه ومضموناته فيه.
وهكذا على سبيل المثال نقول: كما كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يحضّ على الصلاة التي يتقرّب بها الإنسان إلى ربّه في أوقات خاصة، ويُفرد فيها لنفسه وقتًا مع الله تبارك وتعالى، كان يحرص صلى الله عليه وسلم على أن تكون الصلاة الجماعية منتظمة، فلم تكن صلاة الجماعة - وهي عبادة عظيمة بل من أعظم العبادات - لم تكن في حالة من الفوضوية، لكنها كانت تحت أنظار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نموذجًا من نماذج السلوك الجماعيّ المُنتظَم، فكان المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المُتفق عليه الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، والذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، كان يقول لهم:
(سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ).
وتسوية الصفوف تعني انتظامًا في السلوك الجماعيّ، وهم يقفون بين يدي الله تبارك وتعالى وهم يُصلّون.
كانت قلوبهم في الصلاة مُعلّقة بالله، وأرواحهم منجذبة إلى حضرة الله، لكن أجسادهم كانت منتظمة، وحركتَهم كانت متناغمة.
بل إن الإمام مسلم أخرج في صحيحه كما يروي النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه، أنه صلى الله عليه وسلم كان حينما يقف ليُصلّي إمامًا ينظر إلى الصفوف من خلفه، فكانوا كأنهم خطٌّ مستقيم، ومرةً رأى رجلاً من أصحابه وقد خرج صدره أمام المصلين، فكان صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة يسوّي الصف، وكان يردّه في هذا السلوك الذي هو عبادة يتقرب بها العبد إلى الله حتى يظهر في الحركة الجماعية مُتناغمًا، وكان بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم يعيده إلى الصف، ثم يُحذّر بعد ذلك ويقول:
(لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ).
وهذا يعني أنكم تتشعبون في المقاصد، كلٌّ منكم يريد وجهة، وكلٌّ منكم يريد رأيًا، ويريد تخطيطًا منفردًا، وهكذا ينفرط عقد الجماعة والتجمّع.
إذًا: الانتظام في السلوك الجماعيّ مقصدٌ من مقاصد الإسلام، فهل نرى هذه الظاهرة في مجتمعاتنا الإسلامية، أم أننا نقترب يومًا بعد يوم إلى المزاجية الفردية التي يحتفظ فيها كل منا بخصوصيته الفردية؟
أما خصوصية الإنسان الفردية فيمكن له أن يمارسها حينما يكون سلوكه خاصًّا في بيته وخارج المنظومة الجماعية العامة، لكنه حينما يكون في المنظومة الجماعية العامة فإنه مأمور أن يكون متناغمًا معها.
هذا نموذج في العبادات.
وبعد ذلك حينما ننطلق إلى المصالح المُرسَلة التي هي مصالح الناس في دائرة المباحات، فإذا كانت المصلحة العامة في الانتظام فيجب على الأمة الإسلامية أن تراعي ذلك، فإذا تولّى السلطان في المجتمع مصلحة من المصالح صار الوجوب آكد، وصار الإنسان يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى حينما يكون جزءًا من هذه المنظومة الجماعية.
لماذا ننظر اليوم إلى مجتمعات الغرب فنرى أن القانون مُعتبَرٌ عندهم، ونرى أن النظام مُعتبَر عندهم؟
لماذا لا نجد في سلوك الغرب من يتجاوز إشارة مرورية حمراء؟
لماذا يُعتبَر القانون عندهم مع أنهم لا ينطلقون من هذه الأرضية التي ننطلق منها نحن؟
فنحن عندما نوافق هذا نكون مُتقرّبين إلى الله تبارك وتعالى، ونشعر أننا عندما نفعل ذلك نفعله من خلال استشعارنا لمراقبة الله، لكن الغرب يفعله لأنه يجد فيه مصلحة، فالمصلحة هي الحاكمة عندهم، أما نحن فإننا حينما ننظر إلى مثل هذه المصالح العامة التي فيها نفع الآخرين وفيها نفع الأمة، فإننا نجد أننا بهذا نتقرّب إلى الله سبحانه.
ولذلك ربما يجد الإنسان في دائرة المباح على سبيل المثال مصباحًا أحمر أو أخضر دون أن يبدي سلوكًا، لكنه عندما يجد الضوء الأحمر أو الأخضر الذي يُنظّم الحركة الجماعية، فإن عليه - إن كان يؤمن بالله ورسوله وإن كان يفهم أن تناغم المنظومة الجماعية هو من مقاصد هذا الدين - أن يستشعر أنه لا يُراقب الرادار الذي ينتظره من أجل أن يُكتب فيه مخالفة، لكنه يراقب الرقيب سبحانه وتعالى.
هذا هو مفهوم المؤمن، وهذا مفهوم ثقافته..
ليست العبادة التي نتقرّب بها إلى الله سبحانه مجرد صوم أو ذِكر أو صلاة فردية، إنما هناك مقاصد عامة.
ألم يُحرّم ربّنا سبحانه وتعالى قتل النفس؟
فالله سبحانه قد جعل قتل النفس من أعظم الكبائر، لكن هل تعلمون أن الذين قُتلوا بسبب حوادث السير في العام المُنصرِم /عام 2009/ يعادل سقوط عشر طائرات مدنية في سورية كل طائرة تُقل 250 راكبًا.
حوادث السير في سنة واحدة تعادل سقوط عشرة طائرات..
إذًا: هذا يدل على أننا نتحرك وفق الفوضى ولا نملك المقاصد، وما هذا إلا بسبب بُعد مجتمعاتنا الإسلامية عن ملاحظة التقرّب إلى الله تبارك وتعالى من خلال هذه القضية الكبيرة التي هي الانتظام في السلوك الجماعيّ.
إذًا: عندما نريد أن نقول: نحن نجسّد ونمثل ثقافة القرآن، وعندما نريد أن نقول: نحن نمثل ثقافة توجيه محمد عليه الصلاة والسلام، ينبغي علينا أن نلاحظ أن ديننا العظيم يوجّه الفرد ويُنظّم سلوكه، وأنه يوجّه سلوك الجماعة ويحافظ على انتظامها وانسجامها وتناغمها..
هذه أمثلة عابرة ما أوردتها إلا لأنبّه على أننا بدأنا في هذا الزمان نتحرك نحو المزاج الفرديّ، وبدأنا نتحرك نحو السلوك الذي يخضع للرأي الخاص، ولا نحب أن نكون الأمة ذات البنيان المرصوص التي تتحرك وفق منفعة يحبها الله سبحانه وتعالى ويرضاها لعباده.
نحن أمة وصفها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنها جسد، فهل رأيتم جسدًا قد ابتعد رأسه عن يديه؟
وهل رأيتم جسدًا قد ابتعدت يداه عن الرجلين؟
وهل رأيتم جسدًا قد ابتعدت فيه العينان علن الأذنين..؟
لا.. إنه عند ذلك سيكون قتيلاً أو مقطعًا أو ممثلاً به، ولن يكون جسدًا حيًّا.
أما نحن - أمةَ الإسلام - فإن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم مثّلنا بالجسد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
فإلى تناغمٍ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى انسجامٍ في السلوك، وإلى محبةٍ تربط بين قلوبنا، وإلى تعظيمٍ واحترامٍ للمنظومة التي يمكن من خلالها أن يظهر هذا التناغم، تناغم الجسد الواحد.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|