تحدثت في الأسبوع الماضي عن مسؤولية الإنسان على نِعَمِ الله تبارك وتعالى التي أنعمَ بها على الإنسان، واليوم أنتقل بحضراتكم من الأخصّ إلى الأعمّ، فلا تقف مسؤولية المؤمن عند النعم التي تختص بذاته، ولكنها تتسع إلى مساحة الكون كله.
ألم يخبر ربّنا سبحانه وتعالى حين خلق هذا الإنسان: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]؟
ألم يقل سبحانه بعد أن تحدّث عن إهلاك المفسدين الذين غيّروا وبدّلوا:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]؟
أي: هل ستكونون على مستوى أداء الأمانة ورعاية المسؤولية التي هي حكمة الله تبارك وتعالى من خلق هذا الإنسان أم لا؟
وقد سخر الله سبحانه وتعالى الكون كله بسماواته وأرضه ونباته وشجره وحجره.. من أجل هذا الإنسان، وهو القائل سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}
أي: وسخره لكم يا بني آدم.. ويا جنس الإنسان.. ويا أيها المحمّل تلك الأمانة العظيمة التي بها كان الخليفة..
{مِنْهُ} [الجاثية: 13] منّةً منه وعطاءً واختصاصًا وتفضيلاً لجنس الإنسان على غيره، لماذا؟
من أجل أن يكون هذا الإنسان - الذي تلقّى هدي الله سبحانه من خلال الرسل ومن خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم - مسؤولاً عن حفظ الكون، وما مسؤوليته عن حفظ الكون إلا المسؤولية عن حفظ الله تعالى في هذا الكون، فالله سبحانه لم يكلفنا أن نحفظ الشمس والنجوم، لكنه كلفنا أن نحافظ على سننه الطبيعية التي خلقها في هذا الكون.
ألم يقل ربنا سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]؟
فلماذا يتحدثون اليوم عن فساد البيئة؟
ولماذا يتحدثون عن التلوث الذي أحدث ما أحدثه من الأمراض الكثيرة...؟
لأن هذا الإنسان لم يَعِ المسؤولية التي كلفه الله سبحانه وتعالى بها.
بل إن التحدي الشيطانيّ عندما خاطب الشيطان ربّنا تبارك وتعالى، وعندما حدّد الشيطان مساره في الإغواء، فقال هذا الشيطان المفسد: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ} [النساء: 119]
حتى يكون هذا الإنسان منصرفًا عن حفظ المسؤولية في رعاية سُنن الله سبحانه وتعالى في الكون.
وهكذا دخل الإنسان ووجد أرضًا فيها نباتاتٌ، وفيها ما فيها من مخلوقات الله تبارك وتعالى الكثيرة التي سخرها من أجله، لكنه غافل عن رسالة السماء، وعن العبادة في المعاملة.
وقد أشرت إلى هذا في الأسبوع الماضي حين قلت: إن المسلم اليوم يعي أن الصلاة عبادة، وأن الصيام عبادة، وأن الزكاة عبادة... لكنه لا يعي أن إقفال صنبور من الماء عبادة، وأنه حينما يحفظ نعمة الله فهو بهذا يتقرب إلى الله.
وهكذا فإن غفلة هذا الإنسان عن مسؤوليته عن الكون أوقعته في اختلاطات كثيرة.
وحينما انطلق العقل البشريّ غافلاً ومعرضًا عن هدي السماء انطلق يعيث في الأرض فسادًا.
ما الذي أحدثه هذا الإنسان؟
لقد دخل إلى أرض فيها أشجار كثيرة، والله سبحانه وتعالى يريد لهذا الإنسان أن يبني هذه البيئة الطبيعية من غير إفساد، لكنه قطع الأشجار.
وانظروا إلى غوطة دمشق التي كان يتغنى بها الشعراء على سبيل المثال ما الذي حصل لها؟
لقد قطع الإنسان أشجارها وجعل الحجر بديلاً عن الشجر.
وهكذا تغيرت المعادلة التي في سنن الله تعالى الكونية.
فهذا الإنسان يُخرج في تنفسه الغازات السامة (كما يعرف أهل الاختصاص)، ثم يتنفس من الأشجار الغاز الذي يحتاج إليه دمه وبدنه، وعندما أخلَّ بهذه المعادلة ما الذي حصل؟
كثُرت الأمراض..! وذلك عندما لم يعِ هذا الإنسان أن هنالك توازنًا مطلوبًا منه.
ينبغي أن يكون الإنسان متوازنًا بجزأيه الروحيّ والماديّ، لكننا رأينا هذا الإنسان يخلّ بالمعادلة، فيعتني ببدنه المادي ويخدم جسده ويعرض عن روحه.
وأنت أيها الإنسان ما صرت إنسانًا يجسدك، ولكنك إنسان بجسدك وروحك، والمعتبرُ منك روحُك، فأنت بالروح لا بالجسم إنسان (كما قال قائلهم).
وهكذا اضطرب التوازن..
الإسلام لا يريد راهبًا في صومعة ينقطع إلى الروحانية، ولا يريد مادّيًّا مشغولاً ليلاً ونهارًا بتجارته وصناعته، لكنه سبحانه يريد توازنًا.
قال سبحانه: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37].
هكذا يكون التوازن بين المادة والروح..
وهكذا يكون الإنسان فاهمًا لسنة الله سبحانه وتعالى.
لقد خلق الله سبحانه وتعالى فوق الأرض النباتات الحية والحيوانات والعضويات - التي هي كما قلت لكم مسخرة للإنسان - وجعل داخل الأرض في المدفون والمطمور وقودًا، وهذا الذي اكتُشف والذي يسمونه "البترول" ما هو إلا شجر مدفون ومطمور وعضويات...
وهكذا ادّخر الله سبحانه وتعالى لنا في المدفون والمطمور وقودًا.
واقرؤوا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة: 71-72]
إنه سبحانه يذكّرنا بأصل هذه النار التي لا يقف عند إحراق الإنسان لحُطيبات، لكنه إعجاز قرآنيّ، لأنه يتحدث عن أصل الوقود، فالغاز الذي تستعمله في بيتك من الشجرة، والنار التي تأخذها في أجهزة تدفئتك من الشجرة..
إنه سبحانه في سننه الكونية جعل لك المطمور والمدفون وقودًا ودفئًا، وجعل لك ما فوق الأرض من أجل أن يكون لك متاعًا وغذاءً تتنعم به، لكن الإنسان خَلَط فأخذ المدفون والمطمور الذي ينبغي أن لا يدخل في غذائه وجعله في غذائه.
أقول: هذا من واجبنا الدينيّ، فلا ينبغي أن أحدثكم فقط عن الصلاة والصيام، بل ينبغي أن أحدثكم عن الواجبات الدينية في حفظ سنن الله سبحانه وتعالى، فنحن اليوم نُدخل إلى غذائنا من المطمور والمدفون، فنأخذ المواد البترولية ونُدخلها إلى غذائنا.
لا تعجبوا.. فكلكم يستعمل أكياس البلاستيك (أو النايلون)، وهذه كلها تتحلل في الأغذية وتدخل إلى بدنك، فأنت تُدخل المدفون والمطمور الذي هو وقود ودفء لك وتحوّله من أجل أن يكون لك طعامًا، فلا نستغرب بعد ذلك أن يصاب الناس بالأورام الخبيئة، وأن يصابوا بالأمراض الكثيرة...
إذا لم يكن هذا المنبر منبرَ توجيه وإرشاد من كل نواحي الحياة فإنه لا يؤدي دوره..
وإذا كنا لا نتحدث إلا في جانب روحانيّ، وننسى أن علينا من هذا المنبر أن نحسّن الحالة العامة لمجتمعاتنا، وعلينا أن نحلّ من خلال هذا المنبر مشكلاتنا، وعلينا أن نبيّن لإخواننا كيف ينبغي أن تكون حياة المسلم، وكيف تكون حياة المؤمن الذي وثق بالله تبارك وتعالى وبسنته في الكون... فإننا نكون بهذا مقصّرين.
فعندما تضع المادة من غذائك داخل الأكياس المستخرجة من المدفون والمطمور البتروليّ لاسيما عندما يكون الغذاء حارًّا فإنه يسرِّع تحلل المطمور والمدفون ليصبح داخل بدنك أيها المسلم.
أيها المؤمن، لقد دعانا النبي صلى الله عليه وسلم إلى القوة، وهو القائل:
(الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ).
فنحن نريد مجتمعًا قويًّا في ثقافته، قويًّا في جسده، قويًّا في إيمانه، قويًّا في تعاونه، قويًّا في تكافله، قويًّا في تراحمه... وينبغي أن نتوقف عن نهش لحوم بعضنا البعض من خلال الغِيبة والنميمة، وينبغي أن نكون مجتمعًا متراحمًا تظهر فيه وحدة القلوب، ويظهر فيه التكافل.
وكنا نتحدث في بيئة رسمية عن قضية خيام العزاء المنتشرة التي تقطع الطرقات، وقالوا: ماذا نفعل فلا يوجد بديل؟
قلنا: لا، البديل موجود، فالمساجد فيها ساحات كبيرة، ويمكن لنا من خلال أهل البِرّ والإحسان أن نُنشئ صالات كثيرة، قد تكون خفيفة في إنشائها، لكنها تكون رمزَ تكافل، وعندما يتقدم أهل البرّ والإحسان بهذا نفتحها مجانًا لكل المناسبات، سواء مناسبات العزاء أو غيرها.
إذًا: المشكلة ليست في أن يكون هناك بعض الظواهر، بل المشكلة هي أننا نريد تكافلاً، ونريد تعاونًا..
نحن نفتح الباب من أجل أن نضع أيدينا بعضها في بعض من أجل أن يوجه التكافل الاجتماعيّ.
ثقافة الوقف الإسلاميّ أصبحت غائبة اليوم، وأعجب يا إخوتي، فالوقف الإسلاميّ أصبحنا نراه نادرًا اليوم، فنرى كثيرًا من الصدقات التي تتوجه إلى إطعام الفقراء، لكننا لا نرى الصدقة التي لا تهلك، فإطعام الفقراء صدقةٌ مدتها ساعات، لكنك عندما تقول: أريد إنشاء صالة للمسلمين في مساجدهم، وتكون هذه الصالة لكل غني وفقير، يقيم فيها ما شاء من مناسباته الاجتماعية مجانية، فأنت بهذا تنشئ صدقة لا يكون عمرها يومًا أو يومين، إنما يمتد عمرها سنوات، وتكتب في صحائفك..
نحن نريد هذا التعاون، ونريد أن تكون مدينةُ حلب الرائدةَ في هذه البلاد، من خلال أهل البر والإحسان، ومن خلال أصحاب الخير وأصحاب أهل الإيمان، وأصحاب الحرص على نهضة هذه الأمة وحفظ سلامتها.
البِرّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تَدين تُدان.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|