وعن أَبي قَتَادَةَ الْحارثِ بنِ ربعي رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم أَنَّهُ قَام فِيهمْ، فذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهادَ فِي سبِيلِ اللَّه، وَالإِيمانَ بِاللَّه أَفْضلُ الأَعْمالِ، فَقَامَ رَجلٌ فقال: يا رسول اللَّه أَرَأَيْت إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّه، تُكَفِّرُ عنِي خَطَايَايَ؟ فقال لَهُ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «نعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّه وأَنْتَ صَابر مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غيْرَ مُدْبرٍ »
ثُمَّ قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «كيْف قُلْتَ؟»
قال: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيل اللَّه، أَتُكَفرُ عني خَطَاياي؟ فقال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «نَعمْ وأَنْت صابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلاَّ الدَّيْن فَإِنَّ جِبْرِيلَ قال لِي ذلِكَ»
رواه مسلم.
وهو موضع الشاهد في إيراد الإمام النبوي لهذا الحديث في باب الأمر برد المظالم.
الإيمان بالله تبارك وتعالى تحقق، والجهاد الذي يبذُل فيه الإنسان نفسه في سبيل الله تحقق، ولكن الدين يحجب تكفير الخطايا.
ما سر ذلك؟
القضية الخلافية التي يذكرها أهل الفقه هل حق الله مقدم على حق العباد أم حق العباد مقدم على حق الله؟ هذه مسألة تنظر إلى ظاهر الأمر، لكن مرجع الحديث كلّه إلى حق الله، لكنها ظهورات وتنزلات.
حق الله حين يغيب المظهر عبّر عنه الفقهاء بحق الله، وحق الله عند ظهور الحق في المظهر عبروا عنه بحق العباد، ولما كان ظهور الحق في المظهر أظهر, من هنا رأينا تكفير الخطايا حاصلاً عند انعدام الدّين، ولا يحصل عند وجود الدين لأن الدين إنما هو حق الله الأظهر.
الدين هنا بحسب إجماع أهل الحديث في تفسير هذا الحديث أنه دين العباد.
إذًا عندما نرجع إلى الأحاديث الشارحة مثل حديث (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ)
أي: لو كنت محققًا، لكنك يا مسكين قد سُتِرت بالـمَظهَر عن الـمُظهِر، وغفلت بسبب الـمَظهَر عن الظاهر، ولما كان هذا من أشد الظهورات, ومن أكثر الظهورات وآخرها في مراتب الوجود إذ آخر الظهورات في مراتب الوجود الظهور الإنساني، الحق تبارك وتعالى أخّر الظهور الإنساني, فكان الظهور الإنساني آخر الظهورات، ولما كان الظهور الإنساني آخر الظهورات فلذلك كان الأظهر، والأقرب.
من هنا نستطيع أن نفهم سر الجولات العمرية في السحر، وهذا أمر لا يتنبه إليه أحد, فقد كان ينفق في الثلث الأخير من الليل، وكان يخدم العجزة والكبار والفقراء في الثلث الأخير من الليل، لأنه كان يشهد رضي الله عنه النزول في الثلث الأخير من الليل، فكان حينما يعطي يشهد أنه يعطي الحق، وكان يشهد تسلّم الحق لذلك، وهذا باب لا يتنبه إليه إلا القليل، كان عمر رضي الله عنه في هذا المقام صاحب وراثة محمدية كاملة، ورث الخلافتين الظاهرة والباطنة، فلم يكن عمر رضي الله عنه الذي يقول أهل الفقه هو من أوائل من سنّ سنة العسس، وقفوا عند ظاهر الأمر لم يكن الذين يقرؤون هذا الحدث يتنبهون إلى مشهد (إن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل)
وهو الذي يتقبل الصدقة والصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير.
هذا مشهد في المعرفة الذي لا يشهده أعمى، عندما يشهد الظهورات والتنزلات عند ذلك يفهم معنى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}[البقرة:245].
وكيف يستقرض الله تبارك وتعالى وهو الغني، هو الغني في حضرة إطلاقه لكنه ظاهر عند المنكسرة قلوبهم (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي)
فلذلك كلما زاد فقر العبد الظاهر والباطن لا سيما إذا اجتمعا معًا وكان في مقام {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عمران/128]
فلم يكن ساترًا، وكان عبدًا، عند ذلك تشهد الحق عنده، وعند ذلك تشهد أنك تقرض الحق، وتشهد أن الصدقة تقع في يد الله.
إذًا لن تكفّر الخطايا عند وجود الدين لأنه في أشد الظهورات عصى، لماذا ورد أنه (إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا)؟
لأنه عند أشد الظهورات يعصي.
وهذا فهم دقيق في المعرفة لا يتسنى إلا لمن كان في الفرق الثاني، أما أصحاب الفرق الأول فهم غافلون محجوبون عنه، وأما أهل الجمع والاستغراق فإنهم غائبون عن الظهورات، وأما أهل الفرق الثاني النوراني فإنهم يشهدون الظهورات, ظهور الظاهر في المظاهر "يا ظاهرًا في المظاهر" هذا كلام ربما يسمعه الذي لم يذق المعرفة، فلا يفهم دقيق معناه، لكن يتشوف إلى ذوقه، وأما من ذاقه فإنه يأخذ منه حظًا ونصيبًا كبيرًا، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع الأغطية عن القلوب، وأن يغرقنا ويغرق أسرارنا في حضرة الغيوب، وأن يجعل منهجنا ومسلكنا مستمدًا من سير المحبوب عليه الصلاة والسلام.
|