حينما تذكر الأمة الإسلامية بيت المقدس تجتمع في ذاكرتها مع المسجد الأقصى صورة البيت الحرام، وبين المسجدين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، فلا يمكن أن تفترق هذه الصور الثلاثة عن ذاكرة الأمة الإسلامية أبدًا، لأن القرآن ثبّتها معه حينما تحدّث عن حادثة الإسراء والمعراج.
ومن هنا ظهرت مكانة بيت المقدس في قلوب المسلمين، فهو أُولى القبلتين وثالثُ الحرمين، وليست قضيته قضية إقليمية، لكنها قضية كل مسلم يقول: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" .
ومع هذه الحقيقة، وعلى مرأى كل المسلمين وكل العالَم، نشهد ما يحصل في بيت المقدس مما تتفطّر له القلوب، وتدمع له العيون، لكن الأحاسيس غائبة، والذكرى مع الانشغالات المادية بعيدة.
ما الذي يحصل في المسجد الأقصى وفي البيت المقدس..؟
هذا العام (أعني عام 2010) اعتمد الكيان الصهيونيّ أنه نقطة الانطلاق لبناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، وبدأت الحفريات تحت المسجد الأقصى منذ عام 1963م (أي قبل النكسة)، وما تزال تتسع، وما تزال أساسات المسجد الأقصى تُهدَّد وتُهدِّد بانهيار المسجد.
وأكثر من 2400 منـزل في القدس من منازل المسلمين هُدِّمت وألغيت..
وأكثر من ستين ألف وحدة استيطانية بُنيت..
ومنذ عشرة أيام وُضِع حجر الأساس للهيكل المزعوم الذي يريدون إقامته بدلاً من المسجد الأقصى، وقبله بيوم دُشِّن ما يُسمى بـ: "كَنيس الخراب".
أين المسلمون من هذا الواقع؟!
هل حَدّث الآباءُ أبناءهم بهذا؟!
هل احترقت القلوب ألمًا وتحرّقت فداءً للمسجد الأقصى الذي هو شعيرة من أعظم شعائر الإسلام؟! أم أننا نعيش بعيدًا عما يجري في أحاسيسنا ومشاعرنا؟!
إنه مُشعِرٌ وميزان (أو معيار) يُحدد مدى ارتباط المسلم بإسلامه.
ماذا لو أن الصلاة هُدِّدت..؟! ماذا لو أن الحجّ هُدِّد..؟! ماذا لو أن الصيام أُلغي..؟!
هذه شعائر الله التي ينبغي على المسلم أن يكون حاضرًا مع تعظيمها، وحينما لا يكون حاضرًا مع تعظيمها عليه أن يُراجع أوراقه في نسبته إلى الإسلام، وفي مدى وجود الإيمان المتوقِّد في جذوة قلبه، فإذا وجد الإنسان في أمة الإسلام نفسَه يعيش هذا الألم فإن ذلك يعني أنه صاحب إيمان وإسلام.
ولا يسألنّ أحدٌ منا: ماذا ينبغي أن نفعل؟
لا، فإذا كانت المسافاتُ بيننا وبين المسجد الأقصى مسافاتٍ بيننا وبينها أسوار وحدود، فإن النبيّ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم تحدّث عن عُمق النفس الإنسانية قبل أن يتحدّث عن الخطوات التي تتحركها الأقدام، حينما قال صلوات الله وسلاماته عليه: (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ مَاتَ مِيْتَةً جَاهِلِيَّةً) أي مات بعيدًا عن الإيمان والإسلام.
إذًا: حينما يمتنع الوصول الحسّيّ إلى مكان النكبة والمصيبة، فلا أَقَلّ من أن يعيش الإنسان في عمقه النفسانيّ - إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وإن كان مُحبًّا لمحمد صلى الله عليه وسلّم، وإن كان مُعظِّمًا لشعائر الله تبارك وتعالى - لا أقلّ من أن يعيش ساعاتٍ بينه وبين ربّه لا يُشعر فيها أحدًا، ينظر إلى قلبه فيرى ألمًا، ويتمنى ويقول: يا ربّ، اجعلني جنديًّا من جنود المسجد الأقصى.
فإذا لم يحدّث المؤمن نفسه بهذا الحديث، فإن العلاقة بينه وبين الإيمان مشكوكٌ فيها.
من هنا كان لابد من أن نُعيد الحديث ونُكرّره مرارًا وتكرارًا، لأنها قضية انتماء.
وبعد هذا فإن ما نعيشه من أزمات بيننا وبين الكيان الصهيونيّ ما هي إلا مرحلة مؤقَّتة، واللهِ إننا نثق بهذا، لأن الصادق المصدوق سيدَنا محمدًا صلى الله عليه وسلّم أخبرنا أننا نُسلَّط على اليهود، فقال صلى الله عليه وسلّم في الحديث المتّفَق عليه الذي أخرجه البخاري ومسلم: (تُقَاتِلُكُمُ الْيَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ) .
وقد بدأ هذا يظهر، وبدأت اليهود تتلمس رؤوسها، وبدأ أبناء صهيون يشعرون أنهم في مرحلة تختلف عن المرحلة السابقة، لأن "تل أبيب" أصبحت في مرمى الصواريخ الإسلامية.
إذًا: علينا أن نثق بهذه الحتمية، وهي أن الأمة الإسلامية وإن كَبَت في هذا الوقت فإنها عاجلاً أم آجلاً لابد أن تستعيد المسجد الأقصى، هكذا أخبر أصدق المخلوقين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم.
ويومًا من الأيام تحركت الحركة الصهيونية التي كان هرتزل يقودها وكان مؤسِّسَها، تحركت إلى ذلك السلطان المسلم التركيّ عبد الحميد، وعرضت عليه ثلاث ميزانيات سلطانية.
لم تكن في عرضها ذاك تقدّم ميزانيةً سنوية من الليرات الذهبية، لكنها قدّمت على مستوى السلطنة العثمانية كلها من شرقها إلى غربها ميزانيةً ثلاثية (أو ثلاث ميزانيات) رشوةً للسلطان المسلم التركيّ عبد الحميد.
لكن، ماذا قال؟
قال: القدس إسلامية، وهي طولَ الزمان ستبقى كذلك، فهي لنا وستظل كذلك..
إنه لم يقل هذا لأنه صاحب عبقرية، ولا لأنه صاحب نبوءة، ولا لأنه صاحب نظر بعيد... لكنه قال هذا لأنه مؤمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم، ولأنه واثق أن ما يقوله الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلّم حقيقةٌ لا مجال أبدًا للنقاش فيها، لأن ما يقوله واقع حتمًا.
وهكذا نرى اليومَ الألوف المؤلَّفة تخرج بعد وفاة ذلك السلطان وتعيد نفس كلماته، وتقول: إن تركيا مسلمة، ونرى كيف تتواصل الوشائج، وكيف يتصل الحبل بين بلادنا الإسلامية العربية وبين البلاد الإسلامية التركية وبين البلدان الإسلامية المجاورة في خندق واحد.
هذا يؤكد أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد آتٍ ومُحقَّق.
لكن السؤال الذي ينبغي أن نسأل أنفسنا عنه: هل نحدّث أنفسَنا بهذا الحديث؟
وماذا لو أن المقاومة فُرضت على الشعوب الإسلامية؟
هل هذه الشعوب الإسلامية تشعر بقدسية هذه المقاومة، أم أنها قد نسيت ذلك، أو أرادت بسبب الانشغال المادي أن تتناساه؟
إنها قضية الساعة التي ينبغي علينا جميعًا أن نعيش حدثها في قلوبنا، وفي نفوسنا، وفي أُسَرِنا... وأن نُغذّي ذلك لبناتنا وأطفالنا، لتكون ثقافتَنا الحاضرة التي لا مساومة فيها أبدًا.
البِرّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تَدين تُدان.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|