يد الله على الجماعة
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الكبير بحلب بتاريخ 19/3/2010م
لزوم الجماعة وترك الفرقة مقصودٌ رئيس من مقاصد الإسلام، وقد بيّن الله تبارك وتعالى في قرآنه العزيز أن الذين يلزمون الجماعة موصولون مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الذين يبحثون عن الفرقة يقطعون الصلة بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
واقرؤوا في كتاب الله تبارك وتعالى خطابه لحبيبه ومصطفاه وهو يقول له:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
وهكذا بيّن الله تبارك وتعالى انقطاع الصلة بين أصحاب الفرقة وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ذلك أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هو المظهر العمليّ للقرآن العظيم، والقرآن هو حبل الله، ومظهرُه الأكمل هو سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ألم يقل ربّنا تبارك وتعالى في محكم تنـزيله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وحبل الله إنما هو القرآن، ومظهرُ هذا القرآن العمليُّ إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا يتجلى للأمة الإسلامية أن التزام الجماعة (وأعني بذلك جماعة المسلمين عامة بالانتماء إلى الإسلام) شيء رئيس ينبغي أن يكون حاضرًا في ذاكرة المسلم وفي معاني قلبه.
ألم يقل ربنا سبحانه وتعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
وهكذا جعل الدعوة إنما هي إلى الله، لا إلى الأشخاص ولا إلى التجمعات..
فالدعوة هي إلى الله تبارك وتعالى، وإلى منهج الله تبارك وتعالى، وإلى قرآن الله تبارك وتعالى، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يمثل مراد الله الشرعيّ...
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} هذا مضمون دعوته.
{وَعَمِلَ صَالِحًا} أي تطابق قولُه مع فعله.
{وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فأعلن أن انتماءه إنما هو إلى جماعة المسلمين، فلم ينسب نفسه إلى تجمع صغير من التجمعات، ولا إلى انتماء ضيق من الانتماءات، ولا إلى شخص من الأشخاص... لكنه نسب نفسه إلى الإسلام.
وهكذا تجتمع أمة الإسلام على المنهج الواحد.. وهكذا تظهر في قلوب الأمة النسبة إلى الإسلام، وتظهر المقاصد المجتمعة في ساحة الإخلاص المتوجهة إلى الله تبارك وتعالى.
وقد جاء في الحديث: (يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ).
وجاء في الحديث أيضًا: (إِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ).
وهكذا بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ على المسلم أن يبحث عما عليه المسلمون، لا أن يكون في سلوكه الفرديّ شاذًّا عن جماعة المسلمين.
وجاء في حديث آخر بأن بحبوحة الجنة في الجماعة.
وجاء في حديث: (الجماعة رحمة والفرقة عذاب).
وكان سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول:
"إن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة" لأن يد الله على الجماعة ومعها.
فإذا كانت يد الله على الجماعة ومعها فإن الإنسان يحب أن يكون في ظلّ يد الله تبارك وتعالى، وفي ظل رحمة الله تبارك وتعالى، وفي رضوان الله تبارك وتعالى، حتى وإن خالف من حيث الظاهر مراده الباطن.
وقد كان سيدنا أبو بكر يصلي في الناس الظهر والعصر ركعتين ركعتين، وكان سيدنا عمر يصلي بالناس ركعتين ركعتين، وهما بهذا يقتديان برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صلى بالناس ركعتين ركعتين، ولكن سيدنا عثمان رضي الله عنه خشي أن يتوهم الناس بهذا أن قصر الصلاة فريضة في مِنى، فـأراد أن يصلي بالناس أربعًا حتى يبين لهم أن القصر جائر وليس فريضة.
فأنكر سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذلك (أي: أن يصلي عثمان في منى أربعًا) وقال: صليت خلف رسول الله ركعتين، وصليت خلف أبي بكر ركعتين، وصليت خلف عمر ركعتين.. لكنه قام بعد ذلك واقتدى بعثمان وهو يصلي أربع ركعات، فقالوا له: يا صاحب رسول الله، أنكرت على عثمان أن يصلي أربعًا، ثم قمت واقتديت به وهو يصلي أربعًا؟
فقال: "نعم إن الخلاف شرّ".
وهكذا اقتدى الصحابيّ الجليل بإمام المسلمين عثمان رضي الله عنه ولم يُقم جماعة خاصة مناهضة أو معارضة، لأنه أراد أن يوافق في سلوكه سلوك المسلمين عامة.
هذا المفهوم ينبغي أن نرجع إليه في زمنٍ أصبح فيه شتاتنا الفكريّ وشتاتنا السلوكيّ واضحًا إلى درجة لا ينبغي أن تكون عليها أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فاليوم نجد أن الانتماءات ربما لا يظهر فيها الانتماء الكبير.
فالانتماء الكبير إلى الإسلام..
الانتماء الكبير إلى محمد عليه الصلاة والسلام..
الانتماء الكبير إلى دعوة التوحيد..
وعندما يكون الإنسان حاضرًا مع هذا الانتماء فإنه يستطيع أن يخرج من الانغلاق.
أما الانغلاق في تجمع صغير ينسى معه الإنسان الانتماء الكبير إلى الأمة الإسلامية فهذا مما يضيّق الفكر، ويجعل السلوك في حالة من الشتات.
وكثيرًا ما نجد شبابًا ينسَون الانتماء الكبير إلى الإسلام ويتحدثون عن انتماء صغير إلى تجمع، ثم نرى بعد ذلك أن هؤلاء الشباب قد أغلقوا عقولهم، ونجد بعد ذلك أنهم قد أعرضوا عن الإفادة من جماعة المسلمين.
ولربما تجد شابًّا لا يريد أن يستفيد إلا من شيخ واحد، وربما تجد رجلاً لا يريد أن يستفيد إلا من عالم واحد... وهذا لا يكون إلا لمن كان مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، أما بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد توزع علم رسول الله في أصحابه.
وإذا كان علم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توزع في أصحابه، فكيف بنا ونحن في زمنٍ بيننا وبين حياة النبي صلى الله عليه وسلم الدنيوية مسافات ومسافات؟
وقد نبّه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى خصوصيات الأصحاب فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:
(أفرضُكم زيد.. أقضاكم عليّ.. أقرؤكم أُبيّ..).
وهكذا نبّه الأصحابَ إلى خصوصيات تخصصية من أجل أن يذهب الأصحاب إلى زيد في الفرائض، وإلى أُبي ليتعلموا منه قراءة القرآن، فإذا أرادوا القضاء توجهوا إلى علي رضي الله عنه..
وهكذا علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تتكامل التخصصات.
فإذا كنت قد تعلمت عند شيخ من شيوخ الإسلام أو عالم من العلماء فإياك أن تنسى أن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم موزع في علماء الأمة.
وإياك أن تنسى أن العلم لا يجتمع إلا في القرآن وفي محمد عليه الصلاة والسلام، ومهما علت رتبة أستاذ أو شيخ فإنه لا يمكن أن يكون معبرًا تعبيرًا كاملاً عن القرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام.
وهكذا ينبغي أن ننتهي من هذه الظواهر المنغلقة المتقوقعة التي تنحصر في تجمع، وتأبى أن تفيد أو أن تستفيد عندما تشهد هذا المشهد الكبير الذي يحضر فيه الانتماء إلى القرآن وإلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
وعندما نريد أن نجمع في قلوبنا وصدورنا أنوارًا فلا بد لنا أن نكسّر الحواجز الوهمية بين التجمعات التي تعرف بالتجمعات الإسلامية، وأن ننظر جميعًا إلى أن الإسلام مائدة مفتوحة، وعندما نفهم أن الإسلام مائدة مفتوحة عندها نستطيع أن نستفيد من كل علمائنا، ونستطيع أن نستفيد من كل التخصصات، وننتهي من قضية الانتماءات الضيقة التي فرّقت وتفرق بين المسلمين.
عش ما شئت فإنك ميّت، وأحبِب من شئت فإنك مُفارِقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|