شرح رياض الصالحين باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم
الحديث التاسع
قال: وعن عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعاص رضي اللَّه عنهما عن النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ، والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ) متفق عليه.
هذا من جوامع الكلم التي نطق بها سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه يختصر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا حقيقة الإسلام، الإسلام الذي فيه ظاهر وباطن، عندما نقول الإسلام الاستسلام فإننا نتحدث عن وجهه الباطن، الإسلام الاستسلام لله، وعندما نتحدث عن الانقياد السلوكي والموافقة الشرعية نتحدث عن الوجه الظاهر للإسلام، فالموافقة الشرعية في حركات الجوارح والبدن هي الوجه الظاهر للإسلام، لكن هذا الوجه الظاهر هو نتيجة للاستسلام الباطن، وقد قالوا: كل شيء يمكن أن يقاد من ظاهره إلا الإنسان فإنه يقاد من باطنه، عندما تحصل رغبة الإنسان وإرادته تجد أن ظواهره العملية تكون متناسبة مع حاله الباطن، وهكذا يكون سلوك الإنسان معبرًا عن حال باطنه، استسلام الباطن لحضرة الله تبارك وتعالى يعني غيبة سر العبد في حضرة ربه.
أي شيء أنت؟
إياك تشهد غيره ودع العنا لا أنت في هذا الوجود ولا أنا
ليس للغير إن ظهرت وجود، هذا المشهد الذي يظهر للأرواح عند غيبة الأغيار، حينما يزول السراب، عندما يزول عن مشهد الروح وهم السراب، الكون كسراب، كما جاء "هباء في هواء" عند أهل الحقيقة.
هذا الكون كله بكل ما فيه في مشهد أرواح العارفين ما هو إلا مرآة للحضرة العلمية، فلذلك يغيب العارف في هذه الحضرة كما قال سيدي العلاوي: فغب عن الصفات وافن في ذات الذات، أي: استغرق في حضرة الوجود الحق، فندما يغيب عن مشهد الكون, فإنه يكون في باطنه حقيقة الاستسلام، وأي شيء أعظم من هذا المشهد، مشهد غياب السر في حضرة الحق، وهذا من أسنى المشاهد وأعلاها، لكن عندما ينزل الإنسان إلى الرتبة التصديقية, ويغيب عن الحال الشهودي, فإنه يكون في الاستسلام تصديقًا، أي: لما صدق بعظمة الله تبارك وتعالى, وأيقن أن الحق تبارك وتعالى له ما في السموات والأرض استسلم باطنه وغاب في التعظيم، وهذا أقل ما يمكن أن يعتبر من مشاهد الاستسلام، هذا أقل المشاهد اعتبارًا، فيأتي الاستسلام الظاهر نتيجة لإحدى هاتين الرتبتين الشهودية أو التصديقية، وهكذا قال: صلى الله عليه وسلم (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فلسانه من الجوارح الظاهرة، ويده من الجوارح الظاهرة، وعندما تكون الجوارح منقادةً بأحوال القلب، الذي إذا صلح صلحت الجوارح كلها، عندها يتحقق معنى هذا الحديث. انظر عندما من الله سبحانه وتعالى على أهل الإيمان قال {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] وقال بعدها {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7].
إذًا هذا من الأمور الظاهرة، إذ الكفر جزء منه ظاهر كأن يكون في سلوكه مشابههة أو مماثلة متعمدة لأفعال الوثنية أو الكفر والعياذ بالله، فهذا كفر عملي، {وَالْفُسُوقَ} ما هو إلا معنى من معاني المعصية السلوكية العملية إذًا لاحظوا {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقال بعدها {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} فنبهنا إلى أن ما يحصل من ارتداع الإنسان عن الكفر والفسوق والعصيان ما هو إلا نتيجة لأحوال القلوب.
(المسلم من سلم المسلون من لسانه ويده) يعني النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث ينبه إلى الترك، الترك الذي غالبًا ما يغفل عنه المسلمون في تراكمية الاهتمام بأفعال الخير، يفعل ويفعل ويفعل لكنه يغفل عن أن الله سبحانه وتعالى أمره بفعل وترك، فيشتغل بالفعل عن الترك.
عندما نقرأ في الحديث أن الله سبحانه وتعالى غفر لعبد لم يعمل خيرًا قط لكنه أزاح عن طريق الناس غصن شوك، لو قرأنا وتدبرنا هذا الحديث نرى أن الحديث يتحدث عن أن هذا العبد لم يعمل خيرًا، لكنه ما قال قد عمل شرًا، قال لم يعمل خيرًا، وهذا من بلاغات الحبيب عليه الصلاة والسلام، لأن الذي يعمل شرًا لابد أن يحاسب عليه، وخصوصًا إذا كان فيه إيذاء للخلق.
وهكذا فإن الترك هو علامة الإسلام في الحقيقة، ونبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكَّد على الترك أكثر من التأكيد على الفعل عندما قال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)
ولذلك هذا الحديث ينبه إلى الترك (من سلم المسلمون من لسانه ويده) ترك ما يؤذي بلسانه، وترك ما يؤذي بيده، أي ترك الأذى القولي والأذى الفعلي.
اليد اختصار لما يفعله الإنسان بجوارحه، واللسان اختصار لما يقوله، والكتابة مثل القول لأنها من القول، إنما اللسان معبِّر ورمز لما يقال، قد يقال خطًّا وقد يقال صوتًا، على كل هذا جانب في الحديث وهو جانب الترك الإسلامي الذي ينتج عن الترك الباطن، فلما ترك باطنه الركون إلى الأشياء، ولما ترك باطنه الانخداع في السراب، وترك باطنه الاستناد إلى غير الله تبارك وتعالى أنتج ذلك ترك الظاهر، تركُ الباطن أنتج تركَ الظاهر.
وقال بعدها: (والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ) وهذه فيها منهج تربوي، إذا أردت هجرةً وأنت تشكو من الوقوع في المعاصي، فلا بد أن ترحل، أن تبتعد، عندما نقرأ حديث القاتل الذي قتل مائة نفس نجد أن العالم أمره أن يرحل، هذا من أجل أن يبتعد عن المذكرات التي تذكره بالمعصية، المولى سبحانه وتعالى نبهنا إلى هذا فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء:32] ما قال: لا تزنوا, وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187].
إذًا لابد من الرحيل، وعندما يكون الإنسان في بيئة ليست فيها خصوصيات كيف يمكن له أن يجتنب المنهيات، عندما يسكن في بيئة ظلمانية مفعمة ومشبعة بالمحظورات، يعرف أن هذه الجلسة كلما جلس فيها ستحصل الغيبة والنميمة، وسيشاركهم.
إذًا لا بد من هجرة ورحيل حتى تتحقق له السلامة عن المنهي عنه، وعندما يتحقق أن هناك بيئة فيها التبرج، وفيها مثيرات الغرائز، وفيها ما يمكن أن يجر إلى الوقوع في المخالفات، وبعد ذلك يضع نفسه فيها ويقول أنا لا أقع، لا هذا واهم، سيقع إما بعينه, إما بأذنه, إما بيده, إما برجله, والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.
إذًا ما الذي ينبغي أن يفعله؟
لا بد من هجرة، أي الجانب الأول الذي نقرؤه في الحديث يشير إلى ترك.
لكن الجانب الثاني يشير إلى المساحة الاحتياطية، المساحة الاحتياطية التي يبتعد فيها الإنسان عن بيئة محظورة أُمِر أن يتركها.
وهكذا النبي عليه الصلاة والسلام يوجهنا إلى درجتين في هذا الحديث، ليس من باب التفنن البلاغي، لا بل هو منهج تربوي، فلا يتحقق للإنسان نور الإسلام الحقيقي حتى يترك، ولا يتحقق له نور الإيمان الحقيقي حتى يكون بينه وبين المنهيات مسافة، ولذلك تحدث عن قضية الراعي الذي يحوم حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ابتعد عن المسافة (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
(الإثم: ما حاك في النفس وخشيت أن يطلع الناس عليه) ابتعد وابق في مسافة السلامة.
عندما يقيمون فض اشتباك بين دولتين تقتتلان، فإنهم يحددون منطقة شريط حدودي عريض يحضرون إليها القوات الدولية حتى لا يرى الأعداء بعضهم البعض، وذلك حتى ينهوا قضية الاقتتال بشكل نهائي، وذلك حتى لا تحصل مناوشات بين الطرفين وتعود الحرب من جديد.
وهكذا اجعل بين قلبك وبين ظلمات المعاصي مسافة فض اشتباك، منطقة شريط حدودي, ولا تدخل إلى منطقة الشريط الحدودي لأنك إذا دخلت منطقة الشريط الحدودي دخلت إلى ما لا يسمح لك به، وهكذا جاء حديث سيدنا ومولانا رسول الله عليه الصلاة والسلام لينبهنا إلى الترك والاحتياط الذي لا يمكن معه أن يقترب من المسافة التي أمر بتركها، وهكذا نبه إلى مقدمتي الإحسان اللتين هما الإسلام والإيمان بحقيقة ماهيتهما، بالماهية الإسلامية والماهية الإيمانية، فإذا تحقق في سلوك الإنسان الإسلام حقيقة والإيمان حقيقة عند ذلك يكون من السهل أن يشرق عليه النور الإحساني ويكون في حضرة العيان، ما أسهل للطاهر أن يدخل إلى الحضرة {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].
"كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته، أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل في حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته، أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته" هذه هي الطريق إلى النقاء والصفاء ومعرفة الله تبارك وتعالى، ولا يمكن للإنسان أن يكون في حضرة الله سبحانه وتعالى وهو ملطخ بنجاسات العيوب والذنوب والالتفات إلى غير المحبوب.
|