ذِكْر النماذج من غير الرُسل عليهم الصلاة والسلام, مع يقيننا بأن العِصمة لا تكون إلا للرُسل عليهم وعلى نبيّنا أفضل الصلاة وأكمل التسليم, ذِكْر هذه النماذج التي كانت على الاستقامة باختيارها, وكانت في الأخلاق باختيارها, توجّهت إلى معرفة الله تبارك وتعالى باختيارها, ذِكْر هذه النماذج حُجّة علينا, ومُحفِّز لنا, لأننا حينما نذكر ما يعتقده أهل السُنّة والجماعة في فضل سيدنا أبي بكر وإمامته, وفضل سيدنا عمر وإمامته, وفضل سيدنا عثمان وإمامته, وفضل سيدنا عليّ وإمامته, حينما نذكر ذلك نذكره ونحن نرى نماذج بشرية, المماثلة بيننا وبينها قائمة لأنهم في تركيب غرائزهم ونفوسهم ماثلونا في استعداداتهم البشرية, ماثلونا لكنهم كانوا أعقل منا, لأنهم وجّهوا قلوبهم إلى الله, واستخفوا بالدنيا, وعَلِموا أنها ليست لحيّ سكنًا, لذلك جعلوها لُجّة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنًا.
إذًا حين نتحدّث عن الرُسل عليهم الصلاة والسلام, نتحدث عن نوح, نتحدث عن موسى, نتحدث عن إبراهيم, نتحدث عن زكريا, نتحدث عن أيوب عليهم الصلاة والسلام, فنحن نذكر من وجبت له العِصمة, لأن الله سبحانه وتعالى جعلهم نموذجًا وقدوة لنا في الثبات على الحق في الشدائد, في شكر الله في الرخاء.. إلى آخر ما هنالك, لكننا عندما نتحدث عن النماذج التي لا تجب لها العصمة, ومع ذلك نرى حفظها, ونرى أنها وقفت ثابتة في الحق, الدنيا تُقبل عليهم وهم يعرضون عنها بقلوبهم, الخَلق يقبلون عليهم لكنهم يعرضون عنهم بقلوبهم, هم في السلوك على الموافقة والاتباع لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهم في الأخلاق يتأسون بأخلاقه الشريفة صلى الله عليه وسلم, وهم في الأحوال أصحاب التوحيد والتوكّل والاعتماد على الله, هذا يكون حُجّة علينا وفي نفس الوقت يكون مُحفِّزًا لنا.
وقلت: لا ينبغي أن يحتجّ أحد ويقول: هؤلاء خصوصيتهم أنهم اجتمعوا بأشرف خَلق الله.
نعم هذا أعطاهم فضلاً حيث كانوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم, لكن ذلك لم يكن مُلغِيًا لما يعانونه من كل الشدائد, وهم بعد ذلك ثبتوا, وهم بعد ذلك وقفوا على الحق, ونحن وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم الاعتباري حاضر عندنا, لأن الله سبحانه وتعالى قال لنا إشارة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات: 7] وهذا نص إلى يوم القيامة, ونبّهنا صراحة عندما ألزمنا الصلاة والسلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم بكاف الخطاب ونحن نُسلّم عليه صلى الله عليه وسلم بقولنا في الصلاة: (السلام عليك أيها النبيّ), وهذا لا يمكن لعاقل أن يفوته مثل هذا التنبيه الصريح الواضح.
إذًا الوجود الاعتباري المعنوي حاضر, لأن القرآن الذي نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بيننا, وما بقي إلا أن نرى سلوك النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخلاقه في المؤمنين, عندما يلتزم المؤمنون القرآن الكريم ومحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم, يظهر في سلوكهم وفي أخلاقهم وفي أحوالهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, لأنهم يكونون مظاهر لهذا النموذج الكريم عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم, كما كان صلى الله عليه وسلم ظاهرًا في أخلاق أصحابه وفي سلوكهم.
وكنا تحدثنا فيما مضى عن جانب في حياة سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه, وهو جانب الاتباع والاستقامة, أي الجانب العملي, وبعد أن تحدثنا عن هذا الجانب العملي وأخذنا بعض النماذج وبعض الأمثلة الدالّة على قوة اقتدائه بالحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام, وامتثاله لأمره والاستقامة على شريعته, ننتقل إلى جانب آخر باطن في حياة سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه, ونأخذ أيضًا أمثلة:
كان رضي الله تعالى عنه مما يُميّزه أنه تَرفَّع عن الدنيا, تَرفّع عنها وكان فوقها بحاله, وهذا أيها الإخوة جانب ينبغي ألا نهمله في تربيتنا السلوكية, عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يرجِّح حبيبه صلى الله عليه وسلم عندما ابتعثه قال له: {وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى: 4]
فلنصدق مع أنفسنا في هذا السؤال, وليسأل كل واحد منا: هل الآخرة عندنا مُقدَّمة على الدنيا, أم الدنيا عندنا مُقدَّمة على الآخرة؟
هذا سؤال ينبغي على كل واحد منا أن يصدق مع نفسه في سؤال نفسه, ويطلب منها الجواب, هل الآخرة عندكِ مُقدَّمة على الدنيا, أم أن الدنيا مُقدَّمة عندكِ على الآخرة؟
إذا كانت الدنيا العاجلة مُقدَّمة عندنا في مكاسبها على الآخرة, المعادلة خاسرة, وإذا كانت الآخرة الآجلة مُقدَّمة في المعادلة عندنا, إذًا المعادلة رابحة.
هذه قضية مهمة..
ثم إن الله سبحانه وتعالى عندما تحدّث عن خصوصية الرُسُل عليهم الصلاة والسلام قال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ..} أي اصطفيناهم واجتبيناهم بوصف عظيم ينبغي أن يتنبّه إليه أهل الإيمان {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46]
الدار هنا: الآخرة. أي أن الله سبحانه وتعالى خَصّ رُسله وخصّ أنبياءه بوصف ملازم لهم, لا ينفك عنهم, وهو أنهم يستصحبون تذكُّر الآخرة في كل حركة من حركاتهم, فإذا أراد أن يبيع تذكّر الآخرة, وإذا أراد أن يشتري تذكّر الآخرة, إذا أراد أن يدخل المسجد تذكّر الآخرة, وإذا أراد أن يدخل إلى السوق تذكّر الآخرة, وإذا أراد أن يدخل إلى بيته تذكّر الآخرة.. هذا يقوّم السلوك.
تصوروا لو دخل الإنسان إلى بيته في أي لحظة, فوجد منبهًا يذكره بالآخرة كيف سيكون حاله؟ لو أن أصحاب المصانع التي تصنع المنبهات اليوم يصنعون منبهات في كل فترة تذكّر بالعرض والحساب, وأنك في هذه اللحظة يمكن أن تقف بين يديّ الله, الساعة التاسعة.. العاشرة.. الحادية عشرة.. وأنت جالس في أمسيتك.. تشاهد المحطات المختلفة.. تتكلم في الغيبة والنميمة.. وتتعالى على الخَلق.. وتلوك أعراضهم..و..و..و.. فجأة ضع نفسك أمام هذه الحقيقة, الآن أنت مُحاسَب, الآن في هذه اللحظة سوف تقوم القيامة وتُفتح صحائفك وتُنشر, وتقف بين يديّ الله.. إنك مباشرة سوف تُقوّم سلوكك, تقول: لا.. هذا خطأ.. هذا صواب.. مباشرة سوف يسوقك تذكّر الآخرة المباغت المفاجئ إلى تقويم السلوك, لذلك لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يُقوّم سلوك رسله عليهم الصلاة والسلام فإنه سبحانه وتعالى ذكّرهم في كل لحظة في كل نَفَس بالآخرة, وقال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} فكانوا في كل أوقاتهم يلاحظون الآخرة, ولا يغفلون بسبب الدنيا عن الآخرة.
هذا الوصف السني العليّ الذي ينبغي أن يدخل إلى حياتنا, وينبغي أن يُذكّرنا بما يقوّم سلوكنا, هذا مهم جدًا, وهذا من الأوصاف التي تميّز بها سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه.
سيدنا عليّ رضي الله عنه كان وصفه الزُهد, وكان وصفه التواضع.
يروي البخاري عن سهل بن سعد, قال: ما كان له -يعني ما كان لسيدنا علي- اسم أحبّ إليه منه, وهو اسم أبو تراب.
أبو تراب كان أحبّ الأسماء إلى سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه.
هذا تنبيه عجيب, وتنبّه فَطِن من سيدنا عليّ, إذا المصطفى عليه الصلاة والسلام نبّهنا إلى هذا الأصل, عندما قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم بنو آدم وآدم من تراب) فالإنسان إذا أردنا أن ننسبه, ننسبه إلى أصله, نقول له: يا أبا يوسف.. يا أبا عدنان.. يا أبا أحمد.. يا أبا محمد.. نسبة إلى أبيه, فإذا أردنا أن نكرمه, نُذكّره بأصله, وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم استثمر حادثة رآها في المسجد فقال لسيدنا عليّ: (يا أبا تراب).
هذه الحادثة في صحيح البخاري يقول: (دخل عليّ على فاطمة ثم خرج, فاضطجع في المسجد) حدث بين سيدنا عليّ والسيدة فاطمة شيء من الجفاء العاجل العابر, فخرج من البيت وأراد أن يرتاح, يعني بدلاً من أن يُصعّد المشكلة بينه وبين زوجته, فرّ إلى الله, دخل إلى بيت الله, إذا بدأت مشكلة بينك وبين زوجتك, أو بينكِ وبين زوجك, الجأ مباشرة إلى بيت الله, فإنك تجد هناك السكينة والرحمة, بدلاً من أن يستثمر الشيطان هذا الخلاف ويُصعّده..
دخل سيدنا عليّ على فاطمة بعد أن كان بينهما شيء من هذا الجفاء الذي ذكرنا, خرج فاضطجع في المسجد, جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت السيدة فاطمة, أين عليّ؟ سأل فاطمة: (أين ابن عمّك؟) قالت في المسجد. السيدة فاطمة تعرف.. أين سيذهب سيدنا عليّ.. إذا خرج من البيت, أين سيذهب؟ سيذهب إلى المسجد, لأنه لا يأوي إلا إلى الله, وخرج إلى المسجد, قالت: في المسجد. النبيّ عليه الصلاة والسلام يريد أن يُصلح بينهما, وأن يُعيد الود والمحبة التي لم تنقطع, لكن حصل طارئ وعارض, وهذا من واجب الآباء, الأب إذا رأى ابنته في حالة من الجفاء مع صهره, من الواجب الشرعي أن يُعيدهما.. وليس أن يقف مع ابنته ومع الشيطان حتى يُزكي الخلاف, وحتى يصب على النار الزيت أو الوقود.. هذا ليس من أخلاق أهل الإسلام, إنما من واجبات والد الزوجة, ليس والد الزوج.. انتبهوا هذا واجب شرعي كثير من الناس لا يعرفونه, والد الزوجة واجب عليه شرعًا أن يعيد الود إلى الزوجين, فلا يعتني بالخلاف بين الزوجين إلا أبوها, لأنه ربّاها على الأخلاق الحسنة, سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أين ابن عمّك) قالت: في المسجد. فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره, وخَلُص التراب إلى ظهره - كان المسجد النبوي أرضه تراب- فجعل يمسح التراب عن ظهره, سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكائنات يمسح التراب عن ظهر سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه, ما أحلى هذه الصورة التي نرى فيها سيد الكائنات رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيده الشريفة ظهر سيدنا عليّ, يمسح التراب عن ظهره فيقول: (اجلس يا أبا تراب, اجلس يا أبا تراب) فكان سيدنا عليّ رضي الله عنه يحب هذا الاسم أكثر من كل أسماءه, وهذا صحيح من حيث الظاهر النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (يا أبا تراب) وما قالها لغيره, وقد رأى كثيرًا من أصحابه قد وصل التراب إلى أجسادهم, لكنه أراد أن يُذكّره بأصله, هذا أصل كل البشر {خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]
فذكّره بهذه النسبة الترابية, وهذا يُلصقه دائمًا بوصف العبودية, عندما يرى الإنسان أنه مُجانِس للتراب, فهذا سوف يضعه في وصف من أوصافه, وهو الزُهد في الدنيا والترفع عنها, والتعالي فوق النِسَب المادية.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْتُمُ الاعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] يعني الإيمان وحده هو الذي يرفعك فوق التراب {وَأَنْتُمُ الاعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الإيمان يرفعك فوق العبودية للتراب, فوق النسبة إلى التراب, لكن عندما يكون الإنسان لصيق المادة, عندما يكون الإنسان عبد المادة, فإنه لا يمكن أن يكون في الرتبة العَليّة, تنبّهوا إلى أن الله سبحانه وتعالى وصف السماء بالمرفوعة, ووصف الأرض بالموضوعة, عندما قال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] وقال: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا} [الرحمن: 10]
إذًا الأرض الترابية موضوعة, وأما السماء فهي مرفوعة, فأنت بروحك مرفوع, روحك سماوية, روحك مرفوعة, وجسدك موضوع.
وهكذا عندما تتذكّر هذه النسبة الترابية فإنك تتواضع لله سبحانه وتعالى.
دخل مرة رضي الله عنه إلى بيت مال المسلمين, نظر.. وجد مالاً كثيرًا في بيت مال المسلمين, فقام بتوزيع كل ما في بيت مال المسلمين على الفقراء, أصدر أمر وزعوا كل ما في بيت مال المسلمين, وبعد أن فرّق كل ما في بيت مال المسلمين على الفقراء, كَنَسه وصلّى فيه, ما بقي في بيت مال المسلمين لا صفراء ولا بيضاء, الصفراء ذهب, والبيضاء دراهم, دنانير ودراهم, ولما انتهى قال: يا صفراء ويا بيضاء غُرّي غيري. يعني لن تجدي لك مكان في قلبي, غُرّي غيري.
رأى الناس بعد زمن من انتقال النبيّ عليه الصلاة والسلام قد افتتنوا بالدنيا, فذكّرهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحوال أصحابه, صلّى الصبح ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح, كأن عليه كآبة, كئيب.. وهو ينظر إلى أحوال الناس والخصومات التي بينهم.. ثم قال: لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى أحدًا يُشْبههم, والله إن كانوا ليصبحون شُعثًا غُبرًا صُفرًا, قد باتوا يتلون كتاب الله, يراوحون بين أقدامهم وجباههم -يعني تارة في القيام وتارة في السجود- إذا ذُكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح, فانهملت أعينهم حتى تَبُلّ والله ثيابهم, والله لكأن القوم باتوا غافلين. نقل ذلك أبو نعيم بسنده في الحِلية.
وبلغ به الترفّع عن الدنيا والزُهد فيها أنه وقع في فاقة وفي حاجة, وهو أمير المؤمنين, فنزل إلى السوق ليبيع سيفًا من سيوفه التي قاتل بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليشتري بثمن هذا السيف ما يسد حاجته, وهو أمير المؤمنين, نزل إلى السوق وقال: من يشتري منّي هذا السيف, فو الذي فلق الحبّة لطالما كُشف به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته. الإزار: هو الثوب الذي يُربط على الوسط من أجل أن يستر العورة, يقول سيدنا عليّ وهو يُقسم: والذي فلق الحبة لو كان عندي ثمن إزار ما بعته. هذا هو حال سيدنا عليّ رضي الله عنه.
ولما وصفه صاحب اللُمع السراج الطوسي قال في وصفه: من لا يحوم حول الدنيا, وإن جُمعت عليه من غير طلبه, فرفضها وهرب منها, فإمامه في ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
شيّع مع الناس جنازة يومًا من الأيام, فوجدهم يعجّون عند القبر بالبكاء على صاحب الجنازة, فقال: ما تبكون؟ أما والله لو عاينتم ما عاين ميّتكم, لأذهلتكم معاينتكم عن ميّتكم. أي: أنتم مشغولون بميّتكم الذي رحل, عما يراه ميّتكم, فلو أنكم علمتم ما علمه ميّتكم, لو أنكم رأيتم ما رآه ميّتكم, لكنتم اشتغلتم بهذا عن البكاء على ميّتكم..
هذا فَارَق بجسده, لكن فراق مؤقت, وسوف يكون اللقاء الأبدي في الآخرة, فأنت حتى في حزنك مشغول بالفاني, لأن هذا الفراق فاني, هذا الفراق ليس فراق أبدي إنما هو فراق مؤقت, فأنت حتى في حزنك وبكائك مشغول في الفاني! فلو أنك رأيت ما رأى ميّتك وعاينت ما عاين, لأذهلك ذلك عن البكاء عليه.
قال: أما والله, لو عاينتم ما عاين ميّتكم, لأذهلتكم معاينتكم عن ميّتكم, وإن للموت فيكم لعودة ثم عودة, حتى لا يُبقي منكم أحدًا.
كان يقول للناس: احفظوا عني خمسًا لا يرجو عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه ولا يستحي من تعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله ورسوله أعلم وأن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وأنه لا إيمان لمن لا صبر له.
احفظوا عني خمسًا: لا يرجو عبد إلا ربّه. الرجاء يكون مُتعلِّقًا بالله.
ولا يخاف إلا ذنبه. لأن الذنب يحيط بصاحبه {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] لأنه تلطّخ من كل جوانبه وفي كل جوارحه بالذنوب.
ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم. إذا كنت لا تعلم مسألة أسأل عنها ولا تستحي من السؤال. الإمام مالك يقول: "الذي لا يُعلِّم تلاميذه عِلم (لا أدري) ما علّمهم العِلم" يجب أن يتعلّم الإنسان أن يقول: لا أعلم في المسائل التي لا يعلمها, لكن اليوم مع ذهاب مسؤولية الإنسان عن الكلمة, أصبح عندما يُسأل عن أي شيء, يجيب كأنه يعرف كل شيء, لأنه غاب عن حقيقة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]
يجب أن لا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم, وأن لا يستحي عالِم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم.
والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. لأنك إذا آمنت ستأتيك اختبارات.. هذه سنّة الله, الذي يدخل في الإيمان ستأتيه اختبارات, قد يكون الاختبار بالمنع وقد يكون بالعطاء, قد يكون الاختبار بالشدة وقد يكون الاختبار بالنعمة, قد يكون الاختبار بالعطية وقد يكون الاختبار بالمصيبة.. إذًا لابد مع الإيمان من الصبر, لذلك قال: {إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]
لابد من الصبر مع الإيمان.
والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد, ولا إيمان لمن لا صبر له.
إذا قطع الرأس لا يبقى للجسد قيمة..
هذا نموذج ومثال من أحوال سيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه, وبقي جانب ثالث, لعلنا نبحثه وهو جانب المعرفة, إذ كل الحقائق في التوحيد والمعارف تُنسب إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا عليّ رضي الله عنه, كل الأصحاب كانوا أصحاب معارف, لكن أول من تكلّم وأول من وجّه في حقائق التوحيد هو سيدنا عليّ رضي الله عنه.
لعلنا نُفرِد حديثًا لهذا إن شاء الله.
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والقبول.
|