شرح رياض الصالحين - باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم.
الحديث الخامس
وعن أَبي موسى رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : (إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}[هود/102].
كنّا تحدثنا عن الظلم بوجوهه المتعددة، لكن الذي يحفظ الإنسان من الوقوع في الظلم بأنواعه: الظلم القولي عندما يظلم الناس بلسانه، والظلم العملي عندما يظلم الناس في حقوقهم ويأخذ ما ليس له، وكذلك الظلم الاعتقادي عندما يُدخل الغير مع الله تبارك وتعالى، وكذلك الظلم المعرفي عندما يتوجه إلى غير الله تبارك وتعالى بسره....كل هذه الأنواع يمكن للإنسان أن يقع فيها حينما يغيب عن معنى العبودية لله، لأن الظلم كما تقدم: التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فإذا شهد أن الملك ملك الله {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284] عندما يشهد هذا يرى نفسه عبدًا لله تبارك وتعالى، هذه العبوديةُ تمنعه من الوقوع في الظلم لأنه يستصحب مشهد هيمنة الحق تبارك وتعالى على كل شيء.
إذا أعطاك الحق سبحانه وتعالى مالاً, فلست أنت صاحب المال على الحقيقة، إنما أنت مستخلف فيه فلا تظلم فيه.
إذا أعطاك الحق سبحانه وتعالى جاهًا, فلست أنت صاحب الجاه على الحقيقة إنما أنت مستخلف فيه.
وهكذا إذا أعطانا الله سبحانه وتعالى ولدًا، إذا أعطانا الله سبحانه وتعالى أي شيء من نِعمه العظيمة التي لا تعد ولا تحصى, فما نحن فيها إلا مستخلفين، لسنا إلا مستخلفين فيها.
ولذلك إذا لاحظ الإنسان ذلك فإنه يدخل بالله، ويخرج بالله {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء:80] كما أدخلتني في هذه الدنيا بأمرك وبإذنك أخرجني بإذنك، أخرجني مما لا ترضاه ولا يملأ القلب إلا كدرًا، ولا يملئ القلب إلا بالأغيار.
إذًا:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} في كل شيء، ومدخل الصدق أن لا يدخل إلى شيء بنفس، إذا دخل إلى شيء بنفسه فهذا ليس مدخل صدق.
{وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} لأن هذه الحياة بكل ما فيها، من أولها إلى آخرها وبكل ما يعتريها ما هي إلا دخول وخروج، دخول وخروج...
قد تدخل في مال وتخرج منه، قد تدخل في صحبة وتخرج منها، قد تدخل، قد تدخل... إلى آخر ما هناك ...هذه دخولات وخروجات، فكن عند الدخول عبدًا لله، وكن عند الخروج عبدًا لله، فما هي إلا ممرات، والإنسان إذا راقب الله تبارك وتعالى في دخوله وخروجه و استصحب حال العبودية لله تبارك وتعالى، فإنه لا يبالي لأنه ما دخل بنفس إنما دخل بالله، الله هو الذي أدخله.
يونس عليه الصلاة والسلام أدخله الحق في بطن الحوت، وخرج من بطن الحوت قال: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} [الأنبياء:87] ربما الإنسان يكون في لحظة من اللحظات في حال من القبض، البسط، الجلال، الجمال، العطاء، المنع... هذا كله لا قيمة له.
إن في العاشقين منا رجالاً هم رجال شكلاً ومعنًى جبال
صارعتهم أحوالهم فاستقروا بثـــبات وزالـــــــت الأحـــــــــــــــــــــــــــوال
محول الأحوال لا يزول، محول الأحوال الحي الذي لا يموت {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}[الفرقان:58].
اعتمد عليه، واستند إليه إن أقبلوا وإن أدبروا.
كيفما شاء فكن في يده لك إن فرق أو إن جمعك.
هذا حال العبودية لله تبارك وتعالى، الذي يمنع الإنسان من أن يكون في هذا الموطن الصعب الذي يحذّر منه سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إن الله ليملي للظالم) يعطيه، يمده، يمهله، ... يظن أنه قد أصبح مالكًا لهذه العارية، وما هو إلا مستخلف ومختبر وممتحن فيها، فلما توهم أنه هو صاحب هذا الأمر, والحقيقة أن هذا الأمر ما هو إلا عارية، وقع في الظلم، فظلم نفسه وظلم غيره.
ولذلك لا يوحد المسلمين إلا العبودية، لا يجمع الكلمة إلا العبودية، لا يصلح ما فسد إلا العبودية لله، ومن أجل هذا قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فإذا تحققت هذه الحقيقة صلح أمر الناس.
بالعبودية لله تبارك وتعالى، يصلح كل شيء، لكن عندما ينسى الإنسان هذه العبودية سيقع في العجب، سيقع في التعالي، سيقع في البسط، بسط اليد، ليظلم الناس ويفعل ويفعل ويفعل....
قال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [المائدة:28] هذه العبودية التي تجعل الإنسان معظِّمًا لله تبارك وتعالى مهما أثنى الناس عليه، ومهما قال الناس فيه, فقد يكون هذا استدراجًا، قد يكون هذا اختبارًا، لذلك كان أهل الله إذا سمعوا الثناء يقولون للمادح القائل فيهم ما يقول: وما يدريك؟ وما علمك؟ أنت تقول ما لا تعلم.
وهكذا يحسن الظن بالناس ينظر إلى نفسه بالازدراء، ويرى أنه أقلُّهم، وقد روينا كلمة الجنيد رحمة الله عليه عندما قال: "لولا أنه يروى أنه في آخر الزمان يكون زعيم القوم أرذلهم ما كلمتكم لكن لم رأيت هذا الحديث رأيت أنه ممكن أن أكلمكم"، لأنه كان ينظر إلى نفسه فيرى أنه الأقل.
هذا حال العبودية الذي كان يعيش فيه أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بالله عليكم لو أن كل واحد رأى أنه أقل من إخوانه، هل يختلف مع إخوانه، هل يقع في التعالي على إخوانه... هل يحصل الشتات، إنما يرى أنه محتاج إلى إخوانه، محتاج إلى أن يكون معهم، محتاج إلى أن يتعاون معهم على البر والتقوى، وما شتت المسلمين وما فرق المسلمين، وما أوقع المسلمين في الظلم إلا نسيان العبودية، وإلا البعد عن حال العبودية لله تبارك وتعالى.
لماذا أهل الله يقولون: ذكر، ذكر، ذكر... لماذا يحثون السالك على الذكر؟
لأن الذكر يُذَكِّر، فكلما قال: الله، الله، الله... تذكر عظمة الله وحينما يتذكر عظمة الله تبارك وتعالى يذل لسلطانه، ويكون عبدًا لله تبارك وتعالى، ولا يقع في هذا الموطن أو في هذا الوصف الذي إذا أخذه الحق سبحانه وتعالى فيه لا يفلته.
(إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته) كن بالله عزيزًا لا بسواه لا تعتز بغير الله، رحم الله من قال:
لا تدعني إلا بيا عبـــــــــــــــــــدها فإنها أشــــــــــــــــرف أسمائيــــــــــــــا
ومما زادني شـــــــــــــــــــــــــــــــرفًا وعـــــزًا وكدت بأخمــــــــصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمـــــــــــــــــــد لي نبيًا
ولذلك رأينا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم الأعلى في دولة الإسلام يدخل مكة فاتحًا وهو ساجد، حتى لا يرى وهو يدخل أم القرى إلا حضرة مولاه, وهو أعظم فتح حصل في تاريخ البشرية، لأنه في سجوده مستغرق في حضرة مولاه لا يرى أحدًا من البشر، هكذا رأينا التطبيق العملي لحال العبودية لله تبارك وتعالى.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يبعد عن قلوبنا وعن نفوسنا وصف الظلم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحققنا بوصف العبودية.
|